شعرت أن رئيسي هنا هو ابن جلدتي ، الذي يغار علي كما أغار على نفسي ، وأن الجند الذي يحيط بي ، ويحفظ الأمنة علي وعلى غيري هم ممن أجتمع وإياهم في أرومة واحدة ، وممن أرمي وإياهم إلى هدف واحد ، فلا تثقل علي سلطتهم ، ولا يتكاءدني (1) الخضوع لنظامهم ، لأني أرى فيه نظام أمتي ، وانتظام شملي.
وليس هنا ذلك الرئيس الغاشم ، الثقيل الوطأة ، السيء النية ، المتكبر المتجبر المتغطرس ، الغريب عني ، الذي لست منه ولا هو مني ، الآتي إلى بلادي ليتحكم في أمورها ، ويستغل خيراتها ، ويضرب على سكانها الذل والمسكنة ، لأنه لا يقدر أن يعتز إلا بذلهم ، ولا أن يثري إلا بفقرهم ، ولا أن يقوى إلى بضعفهم ، ولا أن ينصع وجهه إلا بفقر دمهم ، وسيأتي يوم نقول فيه : ولا يحيا إلا بموتهم.
لم أكن هنا في البلاد التي مع أنها وطني ووطن آبائي وأجدادي ، ووطن قومي وأمتي ، وجني سواعدهم ، وثمرة دمائهم ، التي سالت فيها أنهارا ، لا يؤذن لي أن ألقي عليها نظرة بعد غربة متطاولة ، ونبوة متمادية ، ولا أن أدوس على ترابها بقدم خفيفة ، ولو ساعة من الزمن ، وذلك لأن غريبا غلب عليها ، فقبض على أعنتها ، وتصرف بها كيف شاء ، يدخل من يشاء ، ويخرج من يشاء ، فأصبح هو صاحب البيت ، وأصبح أصحاب البيت هم الغرباء ...
شعرت في الحجاز أني تظلني راية عربية محضة حقيقية ، لا راية مشوبة بشعار أجنبي ، ولا راية ليس يسير من تحتها جند عربي ، إلا ما كان من قبيل مرتزقة أو مستأجرين تحت قيادة من لا يرقب في هذه الأمة إلا ولا ذمة ، وإنما ينظرون إليها كطعام للأمم ، التي تدعي عليها الوصاية ، وكمتمم لأسباب رفاهيتها أو نعيمها.
مخ ۴۵