رحله فی زمان نوبه
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
ژانرونه
خلال القرن 19 وحتى بناء السد العالي
نهر النيل والوادي الفيضي هما الظاهرة الطبوغرافية الأولى في النوبة، وقد سبق أن ذكرنا أن الكثير من الآراء تتفق على أن النيل قد انخفض منسوبه منذ عصر الدولة الحديثة؛ أي منذ نحو أربعة آلاف سنة، وأنه صار يجري في منسوب مشابه لما كان عليه الحال قبل بناء السدود الكبرى في منطقة الجندل الأول.
يتسع عرض الوادي ويضيق نتيجة اقتراب الحافات الهضبية أو تباعدها، فالوادي ضيق في الشمال بين دابود ودهميت لمسافة نحو 25كم، كثير الأخوار الصغيرة التي تقطع الحافتين، وبخاصة الغربية منهما، ثم يتسع الوادي في المسافة بين دهميت وطافا، ويضيق بدءا من باب كلابشة (شمال معبد كلابشة بنحو 8كم) حتى مارية (نحو 35كم)، وترتفع الحافة الشرقية في صورة حوائط عالية (100-140 مترا) تشرف على النهر مباشرة في منطقة أبوهور، تاركة جيوبا سهلية صغيرة في أحيان قليلة، أما الضفة الغربية فسهلية لمسافات طويلة عليها غطاءات رملية في أكثر جهاتها، وعندما تهب الرياح الشمالية الغربية تزداد قوتها باصطدامها بحافات أبوهور العالية؛ مما يؤدي إلى دوامات هوائية ومائية وأمواج عالية ترتفع إلى ما بين نصف المتر وثلاثة أرباع المتر، ويجعل عبور النيل أمرا شاقا فتلجأ القوارب إلى ليان الشاطئ الغربي في مثل هذه المناسبات، وتمتلئ هذه المنطقة بأخوار كبيرة مثل خور رحمة وخور مارية وخور الأبيض في الشرق، ووادي كلابشة الذي يصب في خور أبو سنة العريض في الغرب، وفي المنطقة من أبوهور إلى مصب وادي العلاقي يسير النيل في قوس ضحل يبدأ في اتجاه شمالي من مصب العلاقي، لكنه ينحرف شرقا بتأثير حافة جرف حسين متوسطة الارتفاع، ثم يتقوس شمالا بتأثير الحافات القريبة في قرشة ومارية وأبوهور، وعند قرشة التي يوجد أمامها سهل صغير - بعرض نحو 300 متر - تكتنفه أخوار كثيرة صغيرة، أقام عليها السكان سواق كثيرة تغمرها مياه خزان أسوان، وتصبح الملاحة فيها مخاطر محسوبة لمن يعرف «بحر قرشة» كما يسمونه.
ويصبح مسار النهر عريضا عند مصب وادي العلاقي، ويلتزم الجانب الشرقي من الوادي تاركا في الغرب سهلا عريضا، يمتد من كشتمنة غرب إلى الدكة وينتهي عند نهاية نجوع قورتة، ويبلغ أقصى اتساع لهذا السهل نحو 1,5كم عند الدكة، ويضيق كثيرا في اتجاه الشمال والجنوب، ولعل إرسابات وادي العلاقي قد ساعدت، في عصور قديمة، على بناء هذا السهل الذي يمتد بطول نحو 20كم، وفي الثلاثينيات أقيمت محطة طلمبات في الدكة تروي مساحة صغيرة منه - 3,5كم في نحو 750 مترا - وهناك أيضا محطات طلمبات على الجانب الأيمن من منطقة مصب العلاقي تزرع فيها مساحة أصغر من مساحة مشروع الدكة، وقد غطت مياه بحيرة ناصر أراضي هذه المشروعات وما هو أبعد منها.
وإلى الجنوب من مصب العلاقي يأخذ الوادي في الضيق تدريجيا حتى نجوع المضيق التي هي آخر بلاد الكنوز، وهي مسافة تبلغ نحو 40كم، وعند منطقة المضيق ترتفع الحافتان بالقرب من النهر، لكن الحافة الغربية تتباعد تدريجيا لمسافات صغيرة في منطقة وادي السبوع ويخترقها في الشمال خور أم سمبل، ثم تبعد لتترك في المالكي سهلا فيضيا متوسط الاتساع، أما الحافة الشرقية فتستمر في محاذاة النهر، وتزداد ارتفاعا وتضرسا أمام وادي السبوع ووادي العرب، وتبلغ أقصاها في صورة حوائط عالية عند شاترمة، ثم تلتحم بمنطقة جبل كورسكو - نحو 270 مترا - وتبدأ في التباعد التدريجي بعد مصب وادي كورسكو إلى أبو حنضل، وتقطع هذه الكتلة الجبلية المعقدة أخوار متعمقة في الداخل، تكاد فتحاتها تختفي عن ناظري راكب النيل - مثل خور دخلانية السنجاري - بحيث يحس الداخل إليها كأنه وصل واحة خضراء وسط الشواهق من الصخور الحمراء الداكنة - 290 مترا - أما وادي كورسكو فيصب في خور فم العطمور العريض والواضح للرائي، فهو مصب واد كبير متشعب المآخذ.
خريطة (5): المكونات البشرية لبلاد النوبة.
هذه الكتلة الجبلية الطابع المليئة بالفوالق والانكسارات، هي على الأغلب سبب الثنية الكبيرة التي يتخذها مسار النيل، فالنيل ينحني فجأة ابتداء من منطقة الدر وعمدا إلى الجنوب الشرقي، بعد أن كان مساره من حلفا حتى الدر إلى الشمال الشرقي، وعند مصب وادي كورسكو يأخذ النهر قوسا كبيرا إلى الشرق ثم الشمال الشرقي حتى وادي السبوع، ثم شمالا إلى المضيق، وتشكل ثنية كورسكو عقبة أمام الملاحة، خاصة للصاعد في النهر من كورسكو حتى الدر، فالمراكب الشراعية تواجه الرياح الشمالية، مما يضطر معها إلى جر الليان خلال السنة، وتزيد متاعبها وقت الفيضان نتيجة سرعة التيار وكثرة الدوامات، والوادي في كل هذه المنطقة يتميز بالضيق الشديد، بحيث لا يزيد عرضه عن بضع عشرات من الأمتار باستثناء منطقة المالكي ومنطقة كورسكو شرق، والاتساع النسبي الصغير الامتداد في كورسكو غالبا ما يعود إلى إرسابات النهر ووادي كورسكو معا، ويلتزم النهر الجانب الأيسر من الوادي في المنطقة الممتدة من الدر إلى كورسكو؛ مما يؤدي إلى ضفاف رملية قليلة العمران في كورسكو غرب والريجة «الريقة» وعمدا على الجانب الأيسر، في حين يمتد سهل فيضي متوسط الاتساع على الجانب الأيمن عند أبو حنضل و«الديوان»، ويزيد اتساعه عند الدر وتنقالة، وفي هذا السهل كانت أحراج النخيل تمتد بلا انقطاع يذكر، وكان هذا مؤشرا يؤذن ببداية الدخول إلى منطقة النوبة الغنية.
أما الوادي بين الدر وحلفا فهو في معظمه عريض باستثناء منطقة حافة إبريم الشهيرة (200 متر)، ومنطقة أبو سمبل، والنهر يتخذ مسارا إلى الشمال الشرقي بصفة عامة، وتحده مناطق سهلية مستمرة من التكوينات الفيضية خاصة عند توماس وعافية في الشمال (بعرض نحو 500 متر)، وإبريم (نحو 800 متر) وسهل عنيبة الذي يمتد حتى توشكى غرب في الوسط (عرض يتراوح بين كيلومتر في عنيبة إلى كيلومتر ونصف الكيلو في توشكى)، وأخيرا منطقة بلانة-أدندان جنوب أبو سمبل، أما المنطقة السهلية جنوب توشكى وأرمنا حتى أبو سمبل فتغطيها تكوينات رملية كثيفة وبلا انقطاع؛ مما أدى إلى تكوين منطقة عازلة بين سهل بلانة في الجنوب وسهل عنيبة-توشكى في الشمال، في أغلب الأزمنة.
ويتميز النهر في هذا القطاع بكثرة الجزر الكبيرة العامرة ذات التربات الجيدة مثل جزر إبريم وبلانة وأدندان، وهذه الظاهرة تكاد تخلو منها بقية النوبة المصرية، ولكنها كثيرة الظهور في النوبة السودانية، وهذه ملاحظة جديرة بالدراسة فيما تبقى من النوبة السودانية ولم تغمره مياه السد العالي. الملاحة في هذا القطاع من النهر شاقة لكثرة الشطوط الرملية والجزر الغارقة في الشتاء والصيف على التوالي، لكن الملاح المدرب على «قراءة الماء» يمكنه أن يسير مركبه آمنا معظم الوقت.
مناطق الغنى والفقر
ناپیژندل شوی مخ