رحله فی زمان نوبه
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
ژانرونه
واستمر تجوالنا غربا حتى انتهينا إلى المقبرة، وهي شاسعة، وربما لم تكن مخصصة لنجع أباشاب فقط، ومقابر النوبة عبارة عن لحد يكوم فوقه بعض الرمال وتوضع حجرتان عند طرفي اللحد ليصبح اللحد ظاهرا، والغالب أن الحجارة لا يكتب عليها شيء، وإن وجدنا بعضها مكتوبا عليه البسملة واسم المتوفى، وغير ذلك من الدعوة للرحمة، ورأينا قبرا واحدا عليه بناية مرتفعة وشاهدان على نسق قبور القاهرة، والملاحظة العامة أن الناس تضع زبدية - صحنا فخاريا - عند حجر رأس اللحد، يشطفون جزءا من حافتها قليلا، وفي اليوم الأول للدفن توضع بعض حبات الذرة تحت الزبدية، بينما يوضع قليل من الماء في الزبدية يوميا لمدة أسبوع بعد الدفن، ربما كان شطف الزبدية رمزا لانتهاء عمل هذا الوعاء كما انتهت حياة صاحبه - أو لمنع إعادة استخدامها؛ فالشطفة تعني أنها كانت في المقبرة، ومن ثم يهاب الناس استخدامها.
وعلى مبعدة قليلة شاهدنا نصبا تذكاريا لمعركة توشكى، التي خاضها الجيش المصري عام 1889 ضد قوات المهدية بقيادة ود النجومي، الذي قتل في المعركة، كما قتل عدد كبير من جيش المهدية، وبذلك انتهت فكرة غزو مصر من الجنوب.
دخلنا بعض البيوت ووجدنا أن الحوش السماوي ما زال هو السمة الرئيسية في كل النوبة، لكنه هنا أصغر من أحواش الشمال؛ لأن مساحة البيوت أصغر بصفة عامة، الغرف تدور حول الحوش، فهناك مجلس للرجال يطل على الشارع، ودهليز - مجلس - للنساء في الداخل، وغرف النوم والمطبخ والمخزن وركن في الحوش للدواجن، ومرحاضان للنساء والرجال كل على حدة، أحد البيوت منزل لعريس جديد، وكان عبقا برائحة البخور الذكية مع نظافة فائقة للحجرات وكوبات الشراب.
تحركنا بالقارب في الثالثة بعد الظهر في اتجاه أبو سمبل وبلانة، وكان أهل النجع قد عزمونا على غداء شهي من اللحم والبطاطس والأرز وكبد وكلاوي وكوسة وسلاطة وبطيخ، وأرسلوا أيضا للمراكبي الريس محمد غداء مماثلا، وجاء جمع يودعوننا مع التوصية بالتزام الجانب الغربي إلى أن نبلغ فرقندي، ثم نعبر النهر إلى الجانب الشرقي حتى أبو سمبل.
سرنا بالقارب حتى اختفت توشكى واستمر الحال على ما يرام، وجو من المرح يلفنا؛ فقد اشتقنا إلى رؤية أبو سمبل والمكوث حول المعبدين كل الوقت الذي نريده؛ لأننا نملك وسيلة انتقالنا، ففي زيارات سابقة - ولاحقة - كنا مضطرين إلى مغادرة منطقة المعابد العظيمة في الموعد الذي تحدده السفينة التي نستقلها - أو الطائرة فيما بعد. المسافة إلى أبي سمبل من توشكى كانت نحو 35 كيلومترا، منها 15كم إلى أرمنا و20كم من أرمنا إلى أبي سمبل، وبعد نحو ساعتين لاحت محطة طلمبات أرمنا على البر الشرقي، واستمر سيرنا بدون عائق يذكر حتى اختفت طلمبات أرمنا عن ناظرينا، وفجأة أحس رياض بصوت غير منتظم في ضربات المحركات وطلب منا أن نتسمع، فأكدنا أن كل شيء على ما يرام، رغم أننا كنا نبحر في منطقة دوامات، وسار القارب وعندنا إحساس بأنه حينما يدخل الدوامة كأنه يرتفع إلى أعلى، ثم نحس أن القارب يهبط حين الخروج من الدوامة، وقال رياض لنفسه: إن الجهد الذي يبذله المحرك في الصعود - دخول الدوامة - يعدله طاقة مكتسبة عند الهبوط - الخروج من الدوامة. وبعد فترة قصيرة دخلنا دوامة كبيرة و«زمجر» أحد المحركات لحظة قصيرة جدا، وعاود العمل خلال فترة خروجنا من قبضة الدوامة الخطرة، ولم تمض لحظات حتى وجدنا الدوامات الكبار تتسلم القارب المسكين واحدة تلو أخرى، والماكينات «تزمجر» وتسكت وتعمل في ثوان متتالية، وفي إحدى هذه المرات لم يزمجر المحرك فقط، بل أتبعه بقرقعة كما لو كان اصطدم بمعدن آخر وتوقف! وبطبيعة الحال ضعفت قوة الدفع ووضح أن محركا واحدا غير كاف للاستمرار، فاتجهنا إلى الشاطئ لنفحص المراوح ونريح المحركات ونقلل اضطرابنا، وحين رفعنا المراوح إلى أعلى لم نجد بهما عيبا، وبعد فترة راحة قصيرة رفعنا المرساة لنجرب، فدار محرك وقرقع الآخر وعدنا إلى الشاطئ.
تداولنا الأمر فيما بيننا، هل نستطيع العبور إلى محطة طلمبات أرمنا ليستطلع أحد الميكانيكية الخبر، أم نعود إلى توشكى ليكشف أحد الفنيين في محطة الطلمبات على المحرك. صحيح أن المسافة إلى أرمنا أقصر بكثير من المسافة إلى توشكى، لكن عبور النهر بمحرك واحد لم يرق لنا، فماذا لو توقف هو الآخر ونحن وسط النهر؟ وقد أغرانا بالعودة إلى توشكى أننا سنحضر ليلة أخرى من ليالي الطرب والغناء في حفل زواج نوبي كبير.
وقد عرفنا فيما بعد من الفني الذي فحص الموتورات في توشكى أن مرور المراوح في «عين» الدوامة كان يقبض حركتها تماما لفترة جد قصيرة ثم تعاود الدوران بعد عبور العين، أما قرقعة المحرك فلم نعرف له سببا؛ لأنه لم يقرقع عندما وصلنا توشكى ولا بعد ذلك إطلاقا. إن الآلات تمر بأحداث لا نعرف عنها الكثير.
في المساء توجهنا إلى حيث تقام ليلة الفرح وحاولت كوثر أن تتعلم الرقص النوبي لهذه المناسبة، فارتدت الجرجار فوق ملابسها وطرحة مشغولة الأطراف من القماش الشفاف هي والجرجار بحيث يظهر الملابس والمصوغات الذهبية، ودخلت صف النساء وتشابكت يداها في أيديهن، وأخذت تتقدم وتتأخر مع الجميع خطوة بجوار خطوة مع دقة خفيفة على الأرض مصاحبة لدقات الطبول، والأذرع تنحدر في انسياب إلى الأمام والخلف، أما الرجال فيصفقون عدة مرات وينحنون انحناءة بسيطة مع وضع اليدين مشبوكتين على البطن، ثم يدقون بالقدم اليمنى دقات قوية ويتكرر التصفيق ... إلخ، وبين الفينة والأخرى تدخل فتاتان الحلبة سويا وقد لفت كل منهما شالا أحمر حول رقبتها، ويرقصن الرقصة التقليدية بين صفي النساء والرجال أمام المغني وضاربي الدفوف، ثم ينسحبن. ومن وقت لآخر تقول النساء: «صل على محمد»، ويطلقن زغاريد طويلة وممدودة.
وغنى مبارك وغيره من الكنوز الحاضرين أغاني كثيرة، كلها عن الغزل والبنت الحلوة، مثل: يا سمرة يا بنت يا حلوة الحب تاعبني، ويا سلام يا وز يا طاير - الوز رمز للبنات، ويا سلام يا اللونة ونسك - أنسك - كويس وحرسك كتير وأجيلك إزاي ... وتنتهي هذه الأغنية بتذييل سياسي من مواقف ذلك الوقت، حيث يخاطب الزعماء فيقول: يا جمال يا ناصر، عبد الحكيم يا عامر، عبد اللطيف بغدادي، نويتم تبنوا السد، الكريم يسهل عليكم. وأغنية سياسية أخرى يتساءل فيها المغني أين يجد مثل بلاد النوبة من جبل ونهر ونخيل وما هو المصير في كوم أمبو، ثم أغاني العاطفة والحب، والحاضرون يأخذهم الحماس وينفعلون بالأغاني ويرفعون أصواتهم يغنون مع المطرب الذي يشعل الجو بالصوت والإيقاع والحركة - تماما كما نرى اليوم من أغاني ال «بوب» حيث يشعل المغني وعازف الجيتار حماس الجمهور الواقف فيهتزون ويغنون ويثملون بشكل من أشكال الحياة الجماعية - وبين الحين والآخر توقد نار يشد عليها العازفون جلود التار والطبلة، وينتشي أحدهم ويطلق أعيرة نارية في الهواء ابتهاجا بالفرح، وتشير الساعة إلى منتصف الليل، لكن الفرح مستمر حامي الوطيس بين المغني والراقصين والراقصات والحضور.
والحقيقة أن الأفراح هي مناسبة جماعية لإطلاق مشاعر السرور والغبطة المكبوتة أحيانا تحت ضغط تكاليف الحياة وضغوط القوالب السلوكية، التي يفترض أن يتصرف في أطرها الناس حسب أعمارهم ومكانتهم، فالأفراح إذن هي متنفس للتلقائية والعفوية السلوكية بين الموسم والآخر من مواسم الأفراح التي غالبا ما تكون خلال فصل الصيف.
ناپیژندل شوی مخ