د زکی نجیب محمود پوهنې کې سفر
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
ژانرونه
لكن على أساس هذا الدين الجديد قامت علوم عقلية، فإذا كان الدين ليس علما ولا هو يحتوي على علم لأنه في صميمه رسالة أخلاقية؛ فإن من أعظم ما يفخر به الدين الإسلامي، هو أنه حث الناس على أن يعملوا عقولهم ليكتشفوا قوانين الكون، وبمجرد نزول القرآن لم يكد يمضي ثلاثة أرباع القرن بعد الرسالة، حتى ظهرت حركة عقلية جديدة؛ ففي المناخ الذي نزلت فيه الرسالة المحمدية كان الإيمان مشتعلا في القلوب، وتلك هي الخطوة الأولى، عندما تؤخذ الرسالة الجديدة مأخذ التصديق الذي يؤمن فحسب، ثم تاتي الخطوة الثانية؛ وهو أن يصب أصحاب التحليلات العقلية تحليلاتهم على ذلك الذي كان موضع إيمان في الخطوة السابقة.
في القرن الثاني الهجري ظهرت مجموعة من المفكرين صممت على أن تفهم القرآن الكريم حق فهمه، كيف؟! كان من المنطقي أن يبدءوا بدراسة اللغة العربية نفسها لتجتمع لهم أدوات الفهم الصحيح. فلم يريدوا الوقوف من اللغة موقف المتذوق وكفى، بل أرادوا أن يجعلوا دراسة علمية بأدق ما يكون المنهج العلمي. ولم تكن قواعد اللغة قد استخلصت وجمعت حتى ذلك الحين، فانصرفوا إلى استخلاصها وجمعها. وهنا تشعب الباحثون إلى شعبتين: الأولى مقرها البصرة، والثانية مقرها الكوفة؛ ومن ثم فأول ما نجده من أنشطة عقلية هي هذه الدراسات اللغوية التي رأيناها في مدرسة «الخليل بن أحمد» وتلميذه سيبويه في البصرة، والكسائي في مدينة الكوفة، وكذلك ما بذلته المدرستان في استخراج الأسس التي لا بد من الكشف عنها لكي تفهم اللغة العربية على أساس علمي صحيح. ولنلاحظ جيدا أن هذا الجهد يبذل لأول مرة في التاريخ ، فلم يحدث أن تصدى عالم قبل ذلك لاستخراج قواعد اللغة أو عروض الشعر أو الاشتقاق. فوضع الخليل بن أحمد المعجم الأول عندما جمع المفردات من أفواه الناس لأول مرة. فما الذي كان يستهدفه بهذا الجهد؟! فهم القرآن فهما سليما. ولنلحظ هذه الوقفة نفسها، رجل يبحث في اللغة بحثا علميا ليفهم دينه، ولننظر في هذه الوقفة فقط، ونتخيلها فماذا نجد؟ نجد أمامنا رجلا عالما إذا شئت، متدينا إذا شئت؛ لأن كليهما في «دمج واحد»، بل إنه حين أراد العلم إنما أراده من أجل الدين، وهذا الوجود ذو الوجهين المتكاملين هو جمع للنمطين السابقين في نمط واحد.
37
تلك هي الصيغة المقترحة لحل ثنائية الثقافة التي نعيشها الآن. وفي استطاعتنا أن نضرب أمثلة أخرى كثيرة على وجود هذه الصيغة في ثقافتنا القديمة؛ أعني الجمع بين «العقل» و«الوجدان» بين ثقافة اليونان وثقافة الفرس في ثقافة جديدة، خذ مثلا «علوم الدين»، وهي بناء علمي أقيم لخدمة الدين: الفقه، مثلا، نحن أمام نص قرآني، مجموعة أحاديث نبوية وتزيد أن تستخرج الأحكام الشرعية، وهي ليست ظاهرة كلها لكل إنسان، وإنما الظاهر منها قليل، والباقي يحتاج إلى عقل وعلم يستخلص من الآيات الكريمة ما قد كمن فيها من أحكام شرعية؛ فهي إذن عملية عقلية، وعلينا مرة أخرى أن نمعن النظر في «فقيه» يقوم بهذا الدور، لنجد أنه إنسان متدين عالم في آن معا. وليست المسألة هنا مجرد تجاوز العنصرين، وإنما العنصران متشابكان؛ لأن أحدهما جاء ليخدم الآخر، فإذن هما كيان واحد، فكأنما تجد النمطين السابقين في نمط واحد.
38
خذ مثلا ثالثا «علم الكلام» الذي سمي كذلك؛ لأنه نشاط عقلي ينصب على تحليل «كلام» الله الذي هو القرآن الكريم، فالله «واحد»، لكن هذه الذات الواحدة لها صفات كثيرة من علم وإرادة وقدرة ورحمة، فهل تعدد الصفات في الذات الواحدة لا يعطيها شيئا من التعدد؟! نحن نؤمن «بالواحد» لكنا نحتاج إلى عملية عقلية تبين لنا كيف أن تعدد الصفات لا يتناقض مع الواحدية المطلقة ... إلخ، لكن انظر مرة ثالثة إلى القائمين بهذه العملية العقلية، وحاول أن ترى جوهر الرجل منهم ما هو؟ إنه دمج للنمطين في نمط واحد؛ فهو دين وعقل معا. وقل مثل ذلك في الفلاسفة المسلمين؛ فمن هو الفيلسوف المسلم؟ هو رجل أراد أن يقرأ نتاج العقل اليوناني بلغة الشريعة، أو أن يقرأ الشريعة بلغة العقل، وعنوان كتاب ابن رشد فيه الكفاية: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، حلل رجلا كهذا تجد أنه أراد أن يدمج العقل اليوناني مع الشريعة الإسلامية في كيان واحد.
39
إذا كانت هذه الأمثلة، وغيرها كثير، تتصدر التاريخ الذي ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية ، أيكون من الصعب أن نوفق من جديد إلى الدمج بين «العقل والوجدان»؟! أيصعب علينا أن نرتبط بماضينا عن طريق الوجدان الذي هو بطبيعته لا يتقدم؟! «فالنص الديني» يبقى كما هو، في حين تتقدم علوم الدين أو علوم اللغة لأنها نشاط عقلي. كما أن كلمة «التقدم» قد تكون بغير معنى في الآداب والفنون، «فقد لا يستطيع شاعر من شعرائنا اليوم أن يجاري امرئ القيس، وقد لا يستطيع أحد من رواة الحكايات في يومنا أن يقترب من الذروة الأدبية التي بلغتها ألف ليلة وليلة، لا، إن التقدم لا يكون إلا في معرفتنا العلمية أو العقلية، أما ما هو خاص بالوجدان، فلا تقدم فيه، فلا أظن أن الأم العصرية الثكلى تبكي فقيدها على نحو أكمل من بكاء الأمهات بالأمس، ولا أن يغني عاشق في عشق حبيبته بأكثر مما غنى قيس في عشق ليلاه.
40
وفي ظني أن هذه الفكرة تحل مشكلة الجماعات الدينية التي تدعونا إلى أن نعود إلى الماضي بوصفه أزهى عصور الإسلام، وذلك يكون ممكنا بالنسبة للمسائل الوجدانية التي لا تتقدم: نقاء القلب، وإخلاص السريرة وحلاوة الإيمان ... كذلك ما في الماضي من فن أو أدب، أما العلوم والمعارف بجميع أنواعها فلا بد أن تكون هي علوم العصر؛ لأنها مجال «العقل» وهو وحده الذي يتقدم.
ناپیژندل شوی مخ