د زکی نجیب محمود پوهنې کې سفر
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
ژانرونه
28
تلك هي الثنائية الإبستمولوجية الأساسية عند زكي نجيب محمود، لكنها سوف تؤدي في الحال إلى ثنائية أنطولوجية يرى أنها كامنة في أعماق ضمائرنا جميعا، «أحسب أن لو تعمقنا ضمائرنا لوجدنا هناك مبدأ راسخا عنه انبعث - وما تزال تنبعث - سائر أحكامنا في مختلف الميادين، وهو مبدأ لو عرضته على الناس في لغة واضحة صريحة، لما وجدت منهم أحدا يحتج أو يعارض؛ وأعني به مبدأ الثنائية التي تشطر الوجود شطرين، لا يكونان من رتبة واحدة، ولا وجه للمساواة بينهما؛ هما الخالق والمخلوق، الروح والمادة، العقل والجسم، المطلق والمتغير، الأزلي والحادث، أو قل هما السماء والأرض إن جاز هذا التعبير.
29
ومعنى ذلك أن ثنائيتنا الأنطولوجية من نوع فريد، صحيح أنها تشطر الوجود شطرين، كما فعلت الثنائية الميتافيزيقية على مر التاريخ، لكنها تختلف عن المذاهب الثنائية في: «أنها لا تسوي بين الشطرين: بل تجعل للشطر الروحاني الأولوية على الشطر المادي؛ فهو الذي أوجده وهو الذي يسيره، وهو الذي يحدد له الأهداف ...»
30
قد يقال: وماذا كانت ثنائية أفلاطون إن لم تكن هي بعينها ما نسميه «بالثنائية الفريدة» الخاصة بنا ... ألم يشطر أفلاطون الوجود إلى وجود معقول ووجود محسوس، وجعل الثاني معتمدا على الأول، إن لم تكن مجرد «ظل» له يتصف بالتغير والحدوث والعرضية ... إلخ، في حين يتسم الأول بالأزلية والروحية؟ ألم تجعل الأولوية للمطلق المجرد على الأفراد والجزئيات؟ ويجيب الدكتور زكي نجيب بقوله : «إذا قيل إن الفلسفة الأفلاطونية وما جرى مجراها، كانت ضربا من الثنائية التي تجعل الأولوية للمطلق المجرد على الأفراد الجزئيات، قلنا: نعم! ولكن أفلاطون قد بلغ في ذلك حدا ألغى معه وجود الأفراد الجزئية وجودا حقيقيا، بما في ذلك أفراد الإنسان أنفسهم، فليس للفرد الإنساني الواحد من حقيقة عنده إلا بمقدار ما يشارك في الإنسانية بمعناها المجرد ... ولا أظن أن مثل هذا الإلغاء لحقائق الأفراد، متفق مع عقيدتنا التي تلقي على أفراد الناس تبعات خلقية عما يعملون أفرادا، لا أنواعا وجماعات، فهذا معناه اعترافنا الصريح بالوجود الحقيقي لهؤلاء الأفراد في حياتهم الدنيا، وفي حياتهم الآخرة على حد سواء ... وإذن فالنظرة الثنائية التي تناسبنا هي نظرة متميزة فريدة تجعل الكائن الإلهي الواحد المطلق في جهة، وتجعل الأفراد الجزئية في جهة أخرى ...»
31
ومعنى ذلك أننا سنجد أنفسنا أمام ثنائية أنطولوجية تتفق مع الثنائية الإبستمولوجية السابقة؛ لأنه لو كان هناك ضربان من الوجود: وجود «مطلق» ووجود «حادث»، لكان لا بد من وجود طريقين للمعرفة: وإني لأتساءل، على أساس نظرتنا الثنائية المقترحة، لماذا لا يكون للمعرفة نطاقان لكل منهما وسيلة خاصة به؟! فإذا كان الأمر أمر الحقيقية المطلقة جاءتنا المعرفة عن طريق، وإذا كان الأمر أمر الطبيعة وكائناتها جاءت المعرفة عن طريق آخر. ولا يجوز لأي من النطاقين أن يزاحم في وسائله، ولكم نشبت معارك بين أناس أرادوا تطبيق وسيلة العالم الأول على العالم الثاني، أو وسيلة العالم الثاني على العالم الأول، فكانوا يعانون من هذا الخلط شر ما يعاني من تشتت وبلبلة ولبس وغموض ...»
32
وسوف يتفرع عن ذلك بطبيعة الحال ثنائية «المنهج»، بحيث نجعل لدراسة ظواهر الطبيعة - أعني العلوم الطبيعية - منهجا خاصا ذا شروط معينة، ولما يتصل بالحقيقة المطلقة منهجا آخر. أما منهج العلوم الطبيعية فيقوم على مشاهدة الحواس وإجراء التجارب، وعلى سلامة التطبيق، فلا يعنينا من الدنيا إلا ظواهرها، بحيث لا يجوز لأنظارنا عندئذ أن تنفذ إلى ما وراء تلك الظواهر؛ لأنها بالنسبة للعلوم ليس لها وراء؛ فهي الظواهر وحدها ... أما منهج ما وراء الوقائع الصماء من حقائق؛ كالقيم الخلقية مثلا فذلك شيء آخر، قد لا نلجأ فيه إلى مشاهدة الحواس، وإلى التجارب العابرة بقدر ما نلجأ فيه إلى إدراك البصيرة أو إلى إملاء الوحي، أو إلى ما يسري بين الناس من عرف وتقاليد ...
ناپیژندل شوی مخ