رِحْلَةُ الصِّدِّيْقِ إِلى البَلَدِ العَتِيقِ
تَأليف
السَيّد العَلّامة
محّمد صدّيق حسن خَان القنّوجي البخاريّ
الْمَوْلُود سَنة ١٢٤٨ هـ والمتوفى سَنَة ١٣٠٨ هـ - رَحمَه الله تَعَالَى -
ناپیژندل شوی مخ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 2
رِحْلَةُ الصِّدِّيْقِ إِلى البَلَدِ العَتِيقِ
1 / 3
حُقُوق الطَّبْع مَحفُوظَة
لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
إدارة الشؤون الإسلامية
دولة قطر
الطَبعَة الأولى ١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة إدارة الشؤون الإسلامية
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
عودًا على بدء
نواصلُ المسيرةَ في ظل قيادة حكيمة، ترى تراث الأمة أمانة، وجديرة بالعناية والرعاية، كانت هذه المجموعة من
مطبوعات الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني ﵀
حيث طبعت متلاحقة على نفقته الخاصة، كسائر مطبوعاته التي أتحف بها العالم الإسلامي كله، وها نحن نقدمها متوافقة، تجديدًا للصلة، في مساراتها الأربعة:
الأول: "الدين الخالص".
معالم التوحيد، مؤسسةٌ على النصوص الخالدة من الكتاب والسنة، إنه الدين في صورته الحقيقية.
الثاني: "التاج المكلل من مآثر الطراز الآخر والأول".
تراجم جملة من علماء الإسلام الأعلام الهداة الأئمة، مآثر واضحة، فضائل لائحة، مناقب سائرة.
الثالث: "الموعظة الحسنة بما يُخطب في شهور السنة".
نماذج فاعلة بكلماتها الجميلة للخُطب كافة، بدايةً من خُطبة الجمعة،
1 / 5
والعيدين، والاستسقاء، والكسوف والخسوف، حيث المناسبة، مع ذكر الأحكام الشرعية المتعلقة، فجاء الكتاب حافلًا مهمًا في بابه.
الرابع: "رحلة الصديق إلى البلد العتيق".
صورة شائقة لهذه الرحلة المباركة، من الهند على ظهر سفينة، وصولًا إلى جدة، ومن ثم إلى مكة المكرمة، مع ذكر الأحكام الخاصة بالحج والعمرة والزيارة، وأحكام وفضائل مكة والمدينة، جامعة بين المتعة بذكر جملة مما وقع له من حوادث أثناء الرحلة، وتلك الروح العلمية. لهذا كله وقع الاختيار عليها بعد نصف قرنٍ من نشرتها الأولى.
حيثُ عهدت إدارة الشؤون الإسلامية إلى دار النوادر لصاحبها نور الدين طالب للعمل عليها لإخراجها في حلتها الجديدة، وفق خطة علمية، تلخصت في الآتي:
١ - إعادةُ تنضيد الكتب على أفضل وأرقى البرامج الطباعة الحالية.
٢ - تصحيح الكتب بما ورد فيها من أخطاء مطبعية سابقة، وقد بلغت مئات الأخطاء.
٣ - كتابةُ الآيات القرآنية بالرسم العثماني، منقولة من المصحف الشريف، إضافة إلى عزوها عقب الآية بين معكوفتين.
٤ - ضبطُ النصوص المهمة والمشكلة بالشكل الضروري، كالأحاديث النبوية الشريفة، وأبيات الشعر، وغريب اللغة.
٥ - إعادةُ تقسيم الكتاب، وتفصيل فقراته، بما يتناسب مع سهولة تناوله وقراءته.
٦ - وضعُ علامات الترقيم المناسبة للنص، حتى يخرج نصًا صحيحًا من حيث اللغة والإعراب.
وإنا لنرجو الله تعالى أن يكون في عملنا هذا الإفادةَ لطلبة العلم وأهله.
وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
إدارة الشؤون الإسلامية
1 / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي وفق من شاء متى شاء من عباده المخلصين، للرحلة إلى بيته العتيق، الذي جعلَه مثابةً للناس وأمنًا، تهوي إليه أفئدةٌ من الناس، فيأتونه رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، شهادةً تنجينا من كل خطب وضيق، في الحياة الدنيا وفي الآخرة بصدق الإخلاص وحسن التصديق، وصلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه المقتفين آثاره في كل جليل ودقيق.
وبعد:
فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: ٩٧]، وقال رسول الله ﷺ: "يا أيها الناس! قد فُرض عليكم الحجُّ فحُجُّوا" أخرجه مسلم، والنسائي.
وقال أهل العلم: الحر المكلَّف القادر، إذا وجد الزاد والراحلة وأمنَ الطريق، يلزمه الحجُّ، وعليه إجماع الأمة، ورأيت البحر المحيط، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة -زادهما الله تشريفًا وتعظيمًا- مرارًا في النوم، فرأيت ليلة كأني ركبت البحر، وقطعت المسافة، وبلغت مكة، ورأيتني كأني في مكان خالٍ له أساطين فخامٌ وأعمدة عظام وأنا جالس فيه، والمسجد الحرام كذلك، ورأيت مرة أخرى أني أدور وأتفرج في أسواق مكة وربوعها، وأمشي وأختلف في سِكَكها، وهي طيبة البناء، عامرة الخانات كالبلاد المأهولة، ومكة المشرفة كذلك، ورأيت المدينة المنورة كأنها بلدة قديمة، ورأيت جدرانها باليةَ البناء،
1 / 7
وربوعَها معمولة من الطين والماء، وسككَها ضيقةً خالية عن الناس، وقد وجدتهما على هذه الصفة حين سعدت بالحضور في سوحهما في سنة ١٢٨٥ خمس وثمانين ومئتين وألف من الهجرة النبوية -على صاحبها أفضل الصلاة والتحية-.
فحملني هذا على الرحلة إلى بلد الله الأمين، وشَدِّ المَطِيِّ إلى مسجد سيدنا محمد سيد المرسلين ﷺ في تلك السنة، ودعاني ذلك إلى جمع مناسك الحج والعمرة حسب ما تبين لي من الكتاب والسنة، فجمعتها على سبيل الاختصار؛ تبصرةً لنفسي، وتذكرة لمن أخلصه الله بخالصةِ ذكرى الدار، كيف والابتداع قد دخلِ العبادات من جميع الأنواع، وعارض عن الهَدْي النبوي كلُّ مُفرِط، ومُفرِّط، وخالط الحقَّ بالباطل كلُّ مخالِط ومخبط، فهذا منسك قد ربطت مسائله بالأدلة ودلائله بمذاهب الأجلة، ضمنته خمسة أبواب وخاتمة، أعاذنا الله عن النار الحاطمة، وسميته:
رحلة الصِّدِّيق إلى البيت العتيق
والله أسأل أن يُخلص نيتي، ويحسن طويتي، ويتقبل عملي، وينجح أملي، فقد قال في كتابه العزيز: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ [آل عمران: ١٩٥].
وقال رسول الله ﷺ: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امْرِىءٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرتُه إلى دنيا يُصيبها، أو امرأةٍ يتزوَّجُها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-.
* * *
1 / 8
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الباب الأول
في فضل مكة وما يتصل به
وفيه فصول:
١ - فصل في فضل مكة -زادها الله تشريفًا وتكريمًا-
* [الآيات]:
١ - قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٦].
٢ - وقال تعالى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: ٩٧]
٣ - وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا﴾ [النمل: ٩١]
٤ - وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا﴾ [العنكبوت: ٦٧]
٥ - وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا﴾ [القصص: ٥٧]
٦ - وقال تعالى: ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ [سبأ: ١٥] على بعض الروايات أنها مكة،
٧ - وقال تعالى: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ﴾ [الحج: ٢٥]
٨ - وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: ٢٥]
٩ - وقال تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ [الفتح: ٢٧]
١٠ - وقال تعالى: ﴿بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾ [الفتح: ٢٤]
١١ - وقال تعالى: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الشورى: ٧]
١٢ - وقال تعالى: ﴿بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ [البلد: ١]
١٣ - وقال تعالى: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ [التين: ٣]. فهذه الآيات وغيرها أنزلها الله ﷾ في مكة المشرفة خاصة، ولم تنزل في بلد سواها.
* [الأحاديث]:
١ - وعن عبد الله بن عدي بن حمراء -رضي الله تعالى عنه-، قال: رأيت رسول الله ﷺ واقفًا على الخرورة من مكة، وهو يقول لمكة: "والله (١)! لخيرُ
_________
(١) في الحديث: "إنَّكِ لخيرُ".
1 / 9
أرض الله، وأحبُّ أرضِ الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منك، ما خرجت" رواه أحمد، والحاكم، وسعيد بن منصور، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، وهذا لفظه.
٢ - وعن عمرو بن الأحوص، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول في حجة الوداع: "أي يوم هذا؟ "، قالوا: يوم الحج الأكبر، قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، ألا! لا يجني جان إلا على نفسه، ألا! لا يجني جانٍ على ولده، ولا مولود على والده، ألا! وإن الشيطان قد أَيِسَ أن يُعبد في بلدكم هذا أبدًا، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم، فسيرضى به" رواه ابن ماجه، والترمذي، وصححه.
٣ - وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-، قال: قال رسول الله ﷺ يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حَرَّمه الله يومَ خلق السموات والأرض، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحلَّ القتالُ فيه لأحد قبلي، ولم يحلَّ لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعْضَدُ شوكه، ولا يُنَفَّرُ صيدُه، ولا يلتقط لقطته إلا من عَرَّفها، ولا يختلَى خلاها"، فقال العباس: يا رسول الله! إلا الإذخر؛ فإنه لِقَيْنِهم ولبيوتهم، فقال: "إلا الإذخر" متفق عليه، وفي رواية: لقبورنا وبيوتنا.
٤ - وعن جابر -رضي الله تعالى عنه-، قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لا يحلُّ لأحدِكم أن يحملَ بمكة السلاح" رواه مسلم، وكان ابن عمر يمنع عن ذلك في أيام الحج، وأما عام الفتح، فهو مستثنى من هذا الحكم،
٥ - وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ لمكة! ما أطيبَكَ من بلد وأحبَّكِ إلي! ولولا أن قومي أخرجوني منكِ، ما سكنتُ غيَركِ" رواه ابن حبان، والحاكم، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب إسنادًا.
قال الحسن البصري: ما أعلم اليوم على وجه الأرض بلدةً تُرفع فيها من الحسنات وأنواع البر، كلُّ واحدة منهما بمئة ألف ما تُرفع بمكة، وما أعلم أنه ينزل في الدنيا كلَّ يوم رائحة الجنة ورَوْحُها ما ينزل بمكة، ويقال: إن ذلك
1 / 10
للطائفين، وبالجملة: فهي بلدة الله، وبلدة رسوله، وبلدة أصحابه الكرام، ومأوى جميع المؤمنين -جعلنا الله تعالى من صالحي أهلها-.
ولله درُّ ما قيل فيها:
أرضٌ بها البيتُ المقدَّسُ قبلةٌ ... للعالَمين له المساجدُ تعدلُ
حَرَمٌ حرامٌ أرضُها وصيودُها ... والصيدُ في كلِّ البلاد محلَّلُ
وبِها المشاعرُ والمناسِك كلُّها ... وإلى فضيلتِها البريةُ ترحلُ
وبها المَقامُ وحوضُ زمزمَ مُتْرَعًا ... والحِجْرُ والركنُ الذي لا يرحلُ
والمسجدُ العالي الممجَّدُ والصفا ... والمَشعرانِ لمن يطوفُ ويَرْمُلُ
وبمكةَ الحسناتُ يُضْعَفُ أجرُها ... وبها المسيء عن الخطيئة يغسلُ
يُجزى المسيء من الخطيئة مثلَها ... وتضُاعف الحسناتُ فيها تُقبلُ
ما ينبغي لكَ أن تفاخرَ يا فتى ... أرضًا بها وُلد النبيُّ المرسَلُ
بالشِّعْب دونَ الردم مسقطُ رأسه ... وبها نشا صلَّى عليه المرسِلُ
وبها أَقامَ وجاءه وحيُ السما ... وسرى به الملكُ الرفيعُ المنزلُ
نبوة الرحمن فيها أنزلَتْ ... والدينُ فيها قبلَ دينك أولُ
٢ - فصل في أسمائها
قد أتت لها أسماء جليلة جرى ذكرها في التنزيل، وكثرةُ الأسماء تدل على شرف المسمَّى، كما قيل في أسماء الله تعالى ورسوله، قال النووي: ولا يُعلم بلد أكثرُ أسماءً من مكة والمدينة، لكونهما أفضلَ بقاع الأرض، وذلك لكثرة الصفات المقتضية لها، انتهى.
فمنها:
١ - مكة،
٢ - وبكة،
٣ - والبلد،
٤ - والقرية،
٥ - وأم القرى،
٦ - والبلدة،
٧ - والبلد الأمين،
٨ - وأم رُحُم،
٩ - وصَلاحِ -مبنيٌّ على الكسر-،
١٠ - والباسة -بالموحدة-،
١١ - والناسة -بالنون-،
١٢ - والنساسة،
١٣ - والحاطمة،
١٤ - والرأس،
١٥ - وكوثى،
١٦ - والعَرش -بالفتح-،
١٧ - والعرش -بالضم-،
١٨ - والعريش،
١٩ - والقادس،
٢٠ - والقادسية،
٢١ - وسَبوحة -
1 / 11
بالفتح-،
٢٢ - والحرام،
٢٣ - والمسجد الحرام،
٢٤ - والمعطشة،
٢٥ - وبَرَّة
٢٦ - والرتاج،
٢٧ - وأم،
٢٨ - ورحم،
٢٩ - والبلد الحرام،
٣٠ - وأم الرحمة،
٣١ - وأم كوثى،
٣٢ - والأمينة،
٣٣ - وأم الصفا،
٣٤ - والمروية،
٣٥ - والمتحفة،
٣٦ - وأم المشاعر،
٣٧ - والبلدة المرزوقة،
٣٨ - والحجاز،
٣٩ - وبلدة طيبة.
وفي وجه تسميتها بهذه الأسماء أقوال ذكرها الحضراوي في "العقد الثمين".
٣ - فصل في ألقابها وحدودها
فمنها:
١ - المشرفة،
٢ - والمكرمة،
٣ - والمهابة،
٤ - والوالدة،
٥ - والنادرة،
٦ - والجامعة،
٧ - والمباركة.
قال السروجي: حدُّ الحرم من جهة طريق المدينة دون التنعيم على ثلاثة أميال من مكة، ومن طريق اليمن على سبعة أميال من مكة، ومن طريق الطائف للمار على عرفات من بطن نمرة على ثلاثة أميال من مكة، ومن طريق العراق للمار على ثنية جبل بالمقطع سبعة أميال من مكة، ومن طريق الجعرانة ومن شعب آل عبد الله بن خالد على تسعة أميال، ومن طريق جُدَّة على عشرة أميال، وهذا قول الجمهور، وهو أصح الأقوال، وقد نظمها بعضهم:
وللحرم التحديدُ من أرضِ طيبةٍ ... ثلاثةُ أميال، إذا رُمْتَ إتقانَهْ
وسبعةُ أميال، عراقٌ وطائفٌ ... وجُدَّةُ عشرٌ، ثم تسعٌ جِعرانَهْ
ومن يمنٍ سبعٌ بتقديمِ سينِه ... وقد كَمُلَتْ فاشكر لربك إحسانه
٤ - فصل في جبالها وحكم زيارتها
قالوا: جبال مكة لا تحصى، قال ابن النقاش: دونها جبال من ذهب وفضة وكنوز وجواهر، وربما ينكشف عن بعضها لمن هو موعود بذلك، قلت: ولم أقف على نص في هذا الباب، فلا أدري من أين قاله، فمن جبالها:
١ - أَبو قُبيس، وهو الجبل المشرف على الصفا، وهو أحد أخشبي مكة المشرفة،
٢ - وجبل حِراء بأعلى مكة، وهذا الجبل على ثلاثة أميال، وهو مقابل ثبير
1 / 12
والوادي بينهما، وهما على يسار السالك إلى منى، وحراء قبل ثبير مما يلي شمال الشمس، ويسمى: جبل النور. قال الحضراوي: وهو كذلك؛ لكثرة مجاورة النبي ﷺ له، وتعبده فيه،
٣ - وجبل ثور بأسفل مكة، وهو من مكة على ثلاثة أميال، قاله ابن الحاج، وابن جبير، وقيل: على ميلين، وارتفاعه نحو ميل، وفي أعلاه الغار الذي دخله النبي ﷺ مع أبي بكر، والبحر يُرى من أعلى هذا الجبل، قال الحضراوي: وهذا الغار يزوره الناس، يدخلون إليه من بابه، قلت: وليست زيارة شيء من هذه الجبال بسنة. ومنها:
٤ - جبل ثبير وهو على يسار الذاهب من منى إلى مزدلفة، قال القزويني: إنه جبل مبارك، وقال ابن النقاش إنه يستجاب الدعاء به،
ومنها:
٥ - الجبل الذي بظهر مسجد الخَيْف بمنى، ويدل له الحديث الثابت في "صحيح البخاري" عن ابن مسعود، قال: بينما نحن مع رسول الله ﷺ في غارٍ بمنى، إذ نزلت عليه ﴿الْمُرْسَلَاتِ﴾. . . الحديث، ويكفي ذكر هذه الخمسة من جبالها، وإن كانت كثيرة.
٥ - فصل في حكم المجاورة بها
ذهب الشافعي، وأحمد، وأبو يوسف ومحمد: إلى استحباب المجاورة بمكة، وخالف في ذلك ابن عباس، ومالك، قال في "المبسوط": لا بأس بالمجاورة؛ في قولهم، وإنه الأفضل، وعليه عمل الناس، خصوصًا مع ظلم الفَجَرة في سائر الأقطار، فلا بأس بالهُروع إلى بلد الله، والالتجاءُ ببلد رسوله والاعتصامُ بالله أولى من تحكم الأعداء في ضعفاء المسلمين، فضلًا عن أغنيائهم، وقال أحمد: جاور بها جابرٌ، وابن عمر، وليت أني الآنَ مجاور بمكة، قلت: قد جاور بها خلقٌ كثير، وسكنها من المعوَّل عليهم جمع عظيم، واستوطنها من الصحابة أربعة وخمسون رجلًا، ذكرهم أَبو الفرج، ومات بها أيضًا من الصحابة ومن كبار التابعين ومَنْ بعدهم جَمٌّ غفير، ذكرهم الطبري.
قال علي بن الموفق: جلست يومًا في الحرم بمكة المشرفة، وقد حججت ستين حجة، فقلت في نفسي: إلى متى أتردد في هذه المسالك والقفار؟ ثم غلبتني عيني، فنمت، وإذا قائل يقول: يا بن الموفق! هل تدعو إلى بيتك إلا مَنْ
1 / 13
تحبُّ؟ فطوبى لمن أحبَّه المولى، وحملَه إلى المُقام الأعلى، وأنشد يقول:
دعوتُ إلى الزيارةِ أهلَ وُدِّي ... ولمْ أطلبْ بها أحدًا سواهُمْ
فجاؤوني إلى بيتي كِرامًا ... فأهلًا بالكرام ومَنْ دعاهُمْ
وقال بعضهم:
هي البلدُ الأمين وأنتَ حِلٌّ ... فطاها يا أمينُ فأنت طاها
ووجِّهْ حيث كنتَ كذا إليها ... ولا تعدِلْ إلى شيء سواها
فوجهُ الله قبلةُ كلِّ حيٍّ ... لمن شهد الحقيقةَ واجتلاها
وهذا البيتُ بيتُ الله فيه ... إذا شاهدْتَ في المعنى سناها
فهلِّلْ عند مشهده كفاحًا ... وزمزمْ عندَ زمزمِه شِفاها
وقلْ بلِسان عرفك في رباها ... لنفسي في مِنى بلغَتْ مُناها
إليكَ شددتُ يا مولاي رَحْلي ... وجئتُ ومهجتي تشكو ظَماها
وها أنا جارُ بيتك يا إلهي ... وبالأستار ممتسكٌ عُراها
وللجيرانِ والضيفانِ حقٌّ ... على الجارِ الكريمِ إذا رعاها
إليكَ شفيعَنا الهادي محمَّد ... ومن قد حلَّ جهرًا فَي حِماها
شفيع الخلقِ يومَ الحشر حقًا ... رسولُ الله أقوى الخلق جاها
عليه من المهيمِنِ كلَّ وقتٍ ... صلاةٌ غيرُ منحصِرٍ مَداها
٦ - فصل في الموت بها، وذكر من دُفن بها
عن حاطب بن بَلْعَتة (١)، عن النبي ﷺ: أنه قال: "من مات في أحد الحرمَيْن، بُعث يوم القيامة من الآمنين" أخرجه أَبو الفرج وأخرج نحوه وأبو حفص المَيَّانشي، وفي الباب أخبار وآثار، وبمكة خلق كثير من الصحابة: منهم: سيدنا عبد الله بن الزبير، وقصته مشهورة، وسيدنا عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وكان شقيق عائشة -رضي الله تعالى عنهما-، وفي "أسد
_________
(١) الصواب: حاطب بن أبي بلعتة ﵁، وهو صحابي، ومن فرسان قريش وشعرائها، ومات بالمدينة.
1 / 14
الغابة": ولما اتصل خبرُ موته بأخته عائشةَ، ظعنت إلى مكة، فوقفت على قبره، وبكت عليه، وتمثلت بِقَولَةِ متمِّم بنِ نُوَيرة في أخيه مالك، فقالت:
وَكُنَّا كندمانَيْ جَذيمةَ حقبةً ... من الدَّهر حتى قيل لن يتصدَّعا
ولمَّا تفرقنا كأنِّي ومالكًا ... لطولِ اجتماعٍ لم نبتْ ليلةً معا
ثم قالت: أما والله! لو حضرتُك ما بكيتُك، وبها: عتاب بن أسيد، وبها: أم المؤمنين خديجة الكبرى، روى الشيخان والترمذي عن علي -رضي الله تعالى عنه-، قال: خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد. وفضائلها لا تعد، ومناقبها لا تحد. وبها دفن القاسم بن رسول الله ﷺ بالمعلى، وبها قبر طاوس، وكان مستجاب الدعوة، وحج أربعين حجة، وبها قبر عبد الله بن عمر بن الخطاب، مات بمكة، وهو آخر من مات بها، قاله ابن الجوزي، والصحيح أن الآن بمكة قبرًا على الجبل المقابل للمعلى على يمين الخارج من باب مكة، وعلى يسار الذاهب إلى التنعيم، أشار بعض الصالحين أنه قبره -رضي الله تعالى عنه-.
وبها: أبو محذورة مؤذنُ رسول الله ﷺ، وقبره بالمعلى غيرُ معروف، وبها حبيب بن عدي، وعبد الله بن كريز، وسهل بن حُنيف، وأبو قحافة والدَ أبي بكر الصديق، وأبو عبيد القاسمُ بنُ سَلاَّم، وعطاء بن رباح (١)، وسُفيان بن عُيينة، وأحمد بن حجر الهيتمي، وأم المؤمنين ميمونة، والفُضيل بن عياض ﵃، والإمام عبد الله ابن أسعد اليافعي، والشيخ دلاصي، وقبر الديسي، وقبر القشيري بن هوازن، وقبر الشيخ عمراي، والنسفي، وغيرهم من الصحابة والتابعين والأئمة والعارفين، ولو عبرنا عنهم، لم يسعهم الكتاب، فمن زار مقبرة المعلى يستحب له أن يزور هؤلاء الكرام، ويسلم عليهم، ويُكثر من الدعاء والاستغفار لهم ولسائر المؤمنين بها. ومما أنعم الله به على سكان هذا البلد الحرام: أَلاَّ يبيت فيه جائع، كيف لا، وفيه طعام طعم وشفاء سقم. وقال الحضراوي في وجه تسميتها بالبلدة المرزوقة: إنك إذا دخلت مكة في أي وقت
_________
(١) عطاء بن أبي رباح- تقريب التهذيب-.
1 / 15
من الليل، فإنك تجد ما تطعَمُ فيها، فضلًا عن النهار، ولا يبيت فيها إنسان إلا شعبانًا حامدًا شاكرًا، انتهى، فينبغي لزومُ الأدب بها حسبَ الطاقة، والشكرُ لله.
٧ - فصل في آداب المجاورة بها
عن عياش (١) بن ربيعة المخزومي، قال: قال رسول الله ﷺ: "لا تزال هذه
الأمة بخير ما عَظَّموا هذه الحرمةَ حَقَّ تعظيمها، فإذا ضَيَّعوا ذلك، هلكوا" رواه
ابن ماجه، فمن أراد المجاورة بها ينبغي له أن يتأدب بآداب أهل التقى؛ لأنها
حضرة الله الخاصة في الأرض، وهي كثيرة، منها:
١ - ألا يخطر بباله معصية قطُّ مدة مجاورته بمكة، ولو في بيته، فضلًا عن المسجد الحرام، فضلًا عن الطواف، فضلًا عن الصلوات، فمن لم يعلم من نفسه السلامةَ، فلا ينبغي له الإقامةُ هناك حتى يجاهد نفسه، ولهذا احتاط ابن عباس لنفسه، فسكن الطائف دون مكة، وكذلك كره مالكٌ المجاورةَ بها، وقال: ما لنا ولبلد تُضاعف فيها السيئات كما تُضاعف الحسنات، ويؤاخذ الإنسان فيها بالخاطر؟
قلت: لم أقف على نص صريح في تضاعُف السيئات فيها، والمؤاخذةِ بالخاطر، بل عفا الله عن هذه الأمة ما حدَّثت به نفسَها، نعم المعصيةُ فيها أشدُّ وأكبر من غيرها؛ لشرف المكان، والعاصي فيها أسوأ حالًا وأقبح مآلًا؛ لقلة مبالاته بسخط الرحمن، كيف! والمعصية -وإن كانت فاحشة حيث وجدت- لكنها في حضرة الإله وفِناء بيته ومحلِّ اختصاصه وحرمه أفحشُ وأقبح، وأمرُ الذنب بها عظيم، فليبادر الإنسان من حينِ نزوله بها إلى الذل والانكسار، والتوبة والافتقار، والندم والاستغفار. ومنها:
٢ - أن يأكل الحلال الصِّرْفَ مدةَ إقامته: إما بعملِ حرفة شرعية؛ كالكتابة والخياطة والقِصارة والبِزازة ونحوِها، وإما أن يتوجه إلى الله تعالى أن يسخر له الحلال، من بين فَرْثِ الحرام ودم الشبهات.
قلت: وذلك كله غيرُ مخصوص بمكة، بل يتحرى له في كل بلدة. ومنها:
٣ - أن لا يبيت وعليه دينار أو درهم دين لأحد إلا أوفاه أو أوصى به.
_________
(١) في سنن ابن ماجه: عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي، وهو هاجر هجرتين.
1 / 16
ومنها:
٤ - ألا يسأله أحدٌ في الحرم شيئًا، ويمنعَه منه، إلا إن كان هو أحوجَ إليه من السائل. ومنها:
٥ - ألا يحنو قطُّ إلى وطنه وبلاده وأصحابه وأولاده، فيصير ملتفتا عن حضرة ربه. ومنها:
٦ - يقلل الأكل جهدَه، ويجعلُ أكثرَ غذائه زمزمَ. ومنها:
٧ - ألا يأكل قط وعينٌ تنظر إليه من المحتاجين إلا وأشرَكَه معه في الأكل. ومنها:
٨ - ألا يغالي هناك الملابسَ الفاخرة الغالية ولا الروائح الطيبة إلا أن يعلم أنه ليس بمكة عريان ولا جوعان. ومنها:
٩ - ألا يرى نفسَه قط أنه خير من أحد من المسلمين في سائر أقطار الأرض. ومنها:
١٠ - ألا يبول ولا يتغوط في الحرم إلا إذا كان يتأتى له ضرر من البول والغائط خارج الحرم. قلت: ولا يساعده دليل يعتمد عليه. ومنها:
١١ - ألا يمشي في الحرم بتاسومته إلا لضرورة؛ كشدة حر أو برد أو جرح أو نحو ذلك. قلت: وهذا أيضًا يحتاج إلى دليل يصار إليه. ومنها:
١٢ - ألا يرى منه عبادة هناك على وجه الكمال من غير إعجاب أبدًا؛ لئلا يقع في الزهو فيهلك، أما الاعترافُ بالنعمة فلا بأس. قلت: وذلك لا يختص بها، بل يعم البلاد كلها. ومنها:
١٣ - ألا يستحليَ قولَ من قال في حقه: هنيئًا لفلان. ومنها:
١٤ - ألا يذكر أحدًا بسوء من سكان الحرم وسائر أقطار الأرض.
قلت: وهذا هو الغيبة وحكمها معلوم. ومنها:
١٥ - أن يخاف تعجيل العقوبة حالًا. وكان عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- يدور على الحجاج بعد قضاء النسك بالدرَّة، ويقول: يا أهل اليمن! يمنَكُم، ويا أهل الشام! شامَكُم، ويا أهل العراق! عراقَكم، أبقى لحرمة بيت ربكم في قلوبكم، ولذلك همَّ بمنع الناس من كثرة الطواف، وقال: خشيت أن يأنس الناس بهذا البيت، فتزول هيبته من صدورهم.
٨ - فصل في مساجدها ودورها
منها:
١ - مسجد بأعلى مكة عند بئر جُبير بن مطعِم، ويعرف اليوم بمسجد
الراية، يقال: إن النبي ﷺ صلى فيه،
٢ - ومسجد بأسفل مكة، ينسب إلى أبي بكر الصديق،
٣ - ومسجد خارج مكة من أعلاها، يقال له: مسجد الجن، ويسمى مسجدَ البيعة،
٤ - ومسجد الشجرة بأعلى مكة مقابل لمسجد الجن،
1 / 17
٥ - ومسجد الإجابة،
٦ - ومسجد بمنى عند دار منحر بين الجمرة الأولى والوسطى على يمين الصاعد إلى عرفة،
٧ - ومسجد الكبش الذي فدي به إسماعيل ﵇،
٨ - ومسجد الخيف، وهو مشهور عظيم الفضل،
٩ - ومسجد النعيم؛ حيث أمر رسول الله ﷺ باعتمار عائشة،
١٠ - ومسجد بذي طوى، يقال: إن رسول الله ﷺ نزل هناك حين اعتمر،
١١ - ومسجد بأجياد، يقال إن النبي ﷺ اتكأ هناك،
١٢ - ومسجد الجعرانة،
١٣ - ومسجد الفتح بقرب الجموم،
١٤ - ومنها: الموضع الذي يقال له: مولد النبي ﷺ، وهو معروف بسوق السيل،
١٥ - وموضع يقال له: مولد علي بن أبي طالب، وفي "تاريخ الخميس": ولد علي في جوف الكعبة،
١٦ - ومولد سيدنا حمزة بن عبد المطلب،
١٧ - ومولد جعفر بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنهم-،
١٨ - ودار خديجة -رضي الله تعالى عنها-،
١٩ - ومولد فاطمة -رضي الله تعالى عنها-،
٢٠ - ودار سيدنا أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه-،
٢١ - وحجرٌ سلَّم على رسول الله ﷺ، وروى الترمذي ومسلم: أن رسول الله ﷺ قال: "إني لا أعرف حجرًا بمكة، كان يسلِّمُ عليّ قبل أن ينزلَ عليَّ الوحي"، قال المرجاني في "بهجة النفوس": قيل: هو الحجر الأسود، وقيل: هو الحجر المستطيل بدار أبي سفيان بزقاق الحجر، قال: وهذا الحجر باقٍ إلى اليوم، انتهى. قال الحضراوي: وهو كذلك باق إلى الآن، والله تعالى أعلم. قلت: وتعيينه بالدليل الصحيح لا يخلو عن عسر،
٢٢ - ومنها: دار الأرقم المخزومي، وفيها مسجد مشهور،
٢٣ - ودار العباس بن عبد المطلب،
٢٤ - ومعبد الجنيد،
٢٥ - وإبراهيم بن أدهم،
٢٦ - ومسجد الكندرة،
٢٧ - ومسجد المحناطة،
٢٨ - ومسجد قرن مقلة،
٢٩ - ودار أبي سفيان التي قال فيها رسول الله ﷺ: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن". قلت: هذه المساجد والمواضع ليس دخول شيء منها لمن اجتاز بها فرضًا ولا سنة.
٩ - فصل في خطاها والمشي فيها
قالوا: المشي في أرضٍ مشى فيها رسول الله ﷺ يكفر السيئات، خصوصًا مع النية الصالحة التي هي أكبر الأعمال، وفيها بشرى له برجاء أن يكون متبعًا آثاره
1 / 18
الشريفة. قلت: وذلك يحتاج إلى سند؛ لأن المكفِّر إنما هو اتباع هديه وسننه ظاهرًا وباطنًا دون تتبع آثاره الأرضية فقط فتدبر.
١٠ - فصل في النظر إلى البيت
إذا وقع النظر على البيت، فليكنْ ذلك مقترنًا بالتعظيم والإجلال، وليحضر في نفسه ما خُص به من تشريف النسبة وأوصاف الجلال والجمال. روي عن النبي ﷺ: "النظر إلى البيت الحرام عبادة" أخرجه ابن الجوزي. وقال ابن عباس: النظر إلى الكعبة محض الإيمان، وعن سعيد بن المسيب: من نظر إلى الكعبة إيمانًا وتصديقًا، خرج من الخطايا كيوم ولدته أمه، رواه الأرزقي، وفي الحديث: "فيه عشرون رحمة للناظرين"، وهذه الآثار تحتاج إلى النظر في سندها، وروي أن الشِّبْليَّ لما حج البيت ووصل إليه ورآه، عظم عنده ذلك، فأنشد طربًا:
أبطحاءَ مكةَ هذا الذي ... أراهُ عِيانًا وهَذا أنا
وصار يكرره حتى غُشي عليه.
وقال آخر:
هذه دارهم وأنتَ محبٌّ ... فما بقاءُ الدموعِ في الآماق
قلت: وقد تمثلتُ بهما عند وصولي مكة، وكان العارفون وأرباب القلوب ينزعجون إذا دخلوا مكة، ولاحت لهم أنوار الكعبة، فيهيمون عن مشاهدة ذلك الجمال؛ لأن رؤية المنزل تذكِّر صاحبَ المنزل. وحجت امرأة عابدة، فلما دخلت مكة، جعلت تقول: أين يبيت ربي؟ أين يبيت ربي؟ فاشتدت نحوه تسعى حتى ألصقت جبينها بحائط البيت، فما رُفعت إلا ميتة -رحمها الله تعالى، ورضي عنها-.
١١ - فصل في محلات يستجاب الدعاء بها
قال الحسن البصري: الدعاء مستجاب هناك في خمسةَ عشرَ موضعًا:
١ - في الطواف،
٢ - وعند الملتزم نصف الليل،
٣ - وتحت الميزاب،
٤ - وداخل الكعبة عند الزوال،
٥ - وعند زمزم، وقت غيبوبة الشمس،
٦ - وخلف المقام،
٧ - وعلى
1 / 19
الصفا،
٨ - وعلى المروة،
٩ - وفي المسعى،
١٠ - وفي عرفات،
١١ - وفي المزدلفة،
١٢ - وفي منى،
١٣ - ١٤ - ١٥ - وعند الجمرات الثلاث.
وقيل: عند الحجر الأسود نصفَ النهار، وعند رؤية البيت، وفي الحطيم، وهو الحِجْر، وعند المستجار في ظهر الكعبة، وبين الركن والمقام، وفي موقف النبي ﷺ بعرفات، وفي المواقف عند المشعر الحرام، وباب بني شيبة، وباب إبراهيم، وباب النبي ﷺ، وباب الصفا، ومجاور المنبر حيث يقف المحمديون. وذكر مجد الدين الشيرازي في "الوصول والمُنى في فضل مِنى" مواضعَ أخرى بمكة وحرمها يستجاب فيها الدعاء، وقيل: في ثبير، وفي مسجد الكبش، وفي مسجد الخيف، وفي مسجد المنحر ببطن مِنى، وفي مسجد البيعة، وفي دار خديجة، ومولد النبي ﷺ يوم الاثنين عند الزوال، ومسجد الشجرة يوم الأربعاء، وفي المتكأ غداة الأحد، وفي جبل ثور عند الظهر، وفي حراء وثبير مطلقًا، وعند الركن اليماني مع الفجر، ويمنى ليلة البدر، وبالمزدلفة عند طلوع الشمس، وبعرفة وقتَ الزوال تحت السِّدرة، وفي ثور عند الغروب، وفي رباط الموفق بأسفل مكة، وفي جبل أبي قبيس، وعند قبر خديجة، وقبر سُفيان بن عيينة، وقبر الفُضيل بن عياض، وقبر القشيري، وقبر اليافعي، وعند باب المعلى، وفي شعبة النور.
قال الحضراوي: فهذه جميع الأماكن التي يُستجاب فيها الدعاء، وهي تنوف عن خمسة وخمسين موضعًا، انتهى. قلت: ولعل ذلك ثبت بكشف الأولياء، فإنه لم يرد بهذا حديث في الصحاح، ولا في السنن، إلا ما روي عنه ﷺ من الدعاء على الصفا والمروة وبعرفة وأمثالها، والدعاء عند القبور ليس بمأثور، فالأولى لمريد الآخرة الاقتصار على ما وردت به السنة، وثبت عنه ﷺ، وإلا فجميع مكة مباركة، وأماكنها طيبة.
١٢ - فصل في بعض آياتها
منها:
١ - الحجر الأسود وما روي فيه من أنه من الجنة، ومنها:
٢ - بقاء وبنيانها الموجود الآن، ولا يبقى هذه المدة غيرُ بنائها على ما يذكر المهندسون،
1 / 20