النص:
رحلة الشيخ العابد الزاهد، السالك، العارف، المحقق عماد الدين، أحمد بن الشيخ إبراهيم الواسطي ، وشرح تقلباته في عمره ، كتبت لمستفيد مشتاق إلى الوقوف على أحوال أهل العصر، فيعرف بذلك سليمهم من سقيمهم، ومعوجهم من مستقيمهم، والله - بكرمه - ينفع بها طالبا يريد بها نهج الاستقامة، واجتناب أحوال أهل الانحراف والملامة ، وذلك بعد مطالعتي لرحلة سلمان الفارسي رضي الله عنه - في طلب الهدى، وعثوره عليه بعد عناء شديد. وجدت بين رحلتي ورحلته مناسبة من بعض الوجوه، فأحببت تعليق جمل منها أرجو بها النفع للمهتدين إن شاء الله تعالى ، وبه التوفيق والعصمة، وهو حسبي ونعم الوكيل.
مخ ۲۷
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن الحمد لله الذي بين لعباده مناهج سبيله فعبدوه، وتعرف إليهم بآياته وبيناته فعرفوه، وكشف لهم عن قدره فتوكلوا عليه ووثقوه، وظهر لقلوبهم بآثار صفاته فأحبوه وألهوه، وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، الذي وعد الله عباده بمحبته لهم إذا هم اتبعوه ، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ما سبحه الأملاك وما قدسوه، وبعد: فلما كان بيان الحق والهدى، لعباد الله من النصيحة التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، ولا يتم ذلك إلا ببيان الانحراف، فإنه لا يعرف الشيء - غالبا - إلا بضده، وبالنور ينكشف الظلام، وبالشعاع يتجلى القتام، أحببت أن أشرح حال رحلتي في طلبي ، وما لقيته من الطوائف المنحرفة عن نهج الحق والصواب، إذ في الناس من يظنهم من أهل الله- وربما يتوسل بهم إلى الله- ليكون ذلك لطالب الهدى في آخر الزمان ، تبصرة ويرهانا ، ومعراجا إلى معرفة مراد الله تعالى من عباده، في مطالبهم وعقودهم وأحوالهم، ليقوم الطالب بذلك فيلقى ربه تعالى بخالص العبودية، فتقر عينه بلقائه، ويجانب من ظهر انحرافه عن طريقة أهل الحق، ويعلم ماهية أذواق الناس، وحقائق أحوالهم في رأس السبعمئة من الهجرة النبوية، فكثير من الناس من تخفى عليه حقائق أحوالهم ، ويتغطى عنه ما أنعم الله عليه، حيث أحياه في ستر العافية، وأوقعه بين أعلى السنة والجماعة من طفوليته إلى سن شيخوخيته، فهو لا يدري ما أحدث الناس، ولا ما يتقلبون فيه من خطوات الشيطان وشركائه ومصائده، ولا يدري ما بدلوا من دين الله وشريعته.
فيستفاد بمعرفة أحوال الخلق أحوال المحقين من المبطلين، والناقصين من
مخ ۲۹
الكاملين، والمنحرفين من المستقيمين، ويتوصل بذلك إلى سلوك الحق واجتناب الباطل، ويشكر الله تعالى على نعمه والعافية مما أبتلى به كثيرا من خلقه، وذلك بعد مطالعتي لرحلة سلمان الفارسي في سيرة النبي صلم، فرأيت رحلتي مناسبة من رحلته، فعلقت جملا منها، وإلى الله أرغب في النفع بذلك.
وهذا الفن من العلم حرام على من يريد به الوقيعة بين الناس، لنيل أغراضه الفاسدة ، أو الانتصار لهوى متبع . وهو مباح بل مستحب لمن يريد التوقي من التعثر في الورطات، والوقوع في المزلات، لا لمن يريد المعاياة والفرقة والمحاكاة فيتخذ ذلك فرجة وسمرا ، لا معرفة وعبرا ، فيكشف أستار الناس بلا نية صحيحة، والأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، والله الموفق للصواب.
فصل
أول ذلك أنه كان مولدي ومنشئي بين طائفة من الأحمدية، لأن أبي - عفا الله عنه - كان رئيسا من رؤسائهم ، ووزراء شيوخهم ، وكان مطاعا ، يقول بالنفع المتعدي، من قضاء حوائج الناس، وإطعام الطعام، ورد اللهفة، وذلك هو طريق الفقراء الأحمدية ، فمنهم من يعامل الله تعالى بذلك، ومنهم من يريد به إقامة رئاسته، وتحصيل قيامه ومادته، فما عرفت دين الإسلام، ولا فتحت عيني إلا بين قوم يتخذون الغناء شعارا، والرقص على القصب والكف قربة ودثارا، والاجتماع على الضيافات عادة وإلزاما، والاجتماع بالأجنبيات معروفا لا ينكر، ومحادثتهن ومسامرتهن مباحا لا يقبح.
لا يعرفون تحريم غض الأبصار عن [غير] المحارم ، ولا يفتشون على آداب الشريعة من الحدود والأخلاق والعزائم. قد أسكنوا شيوخهم في قلوبهم في محل العبادة، فإليهم يلجؤون في نوائبهم، وإياهم يذكرون عند نوازلهم. الشيخ في قومه كالنبي، بل ربما عظموه فوق تعظيم الأنبياء، من حط الرؤوس بالسجود ، وكشفها بين يديه، والاستجارة من سخطه وعقوباته الباطنة الغيبية. يعتقدون أنه يقول ما
مخ ۳۰
يشاء، يميت الحي، ويبرئ المريض، ويضرب بسهمه من يشاء فيقتله ووجدت فيهم أذكياء، يعلمون أن الأمر ليس كذلك، لكن حصل لهم بسبب تعظيمهم لشيوخهم رئاسة بين الناس وفتوحا، فهم يقيمون جاه شيوخهم إبقاءا على حظوظ أنفسهم . لا يعرفون الحلال ولا الحرام، ولا الورع عن المحارم والاحترام يجيء إليهم المحب الطالب لطريق الله فيتوبونه، ولا يعلمونه حدود الله ولا أمره وكيف وهم يجهلونها علما، ويتركون أحكامها عملا ? لا يأمرون مريديهم بإتقان العبادات، ولا تحقيق معرفة حدودها، من فرائض الطهارة وسننها، وفرائض الصلاة وسننها. ويقولون: إذا قيل لكم: ما مذهبكم ? فقولوا: الماء والمحراب !!
أبغض ما لهم الفقهاء، إلا عند نكاحهم وطلاقهم أو بيوعهم، فيحتاجون إليهم لأن أمرهم لا ينفذ إلا بذلك، ولو أمكن الاستغناء عنهم لاغتنوا، فلا محاسبة في الجوارح، ولا مراقبة في الباطن، ولا مراعاة لحدود الشرع، ولا حرصا على آداب الرسول صلى الله عليه وسلم في عباداته وعاداته، بل يحرصون على سيرة شيخهم الأكبر ، مثل حضور مجلس السماع بعد العشاء ، يزعمون أن رجال الغيب تحضره ، فترى شيوخهم حريصين في ذلك الوقت على الاجتماع، وجمع الهمم فيه، فإذا جاء وقت الصلاة نقروا نقر الغراب، لا يصدق أحدهم متى ينفلت من صلاته، فيخرج من صلاته إلى السماع، كما يخرج المحبوس من بيت مظلم ضيق إلى الفضاء يسافرون بأصحابهم معهم المغاني والرايات، تتبعهم الرجال والنساء، يقيمون السماع، وتضرب النساء منطقة حول الرجال، بارزة وجوههن، وربما بات النساء في مواضعهن رغبة في الأجر ، ولكونه - في معتقدهم - مجمع الأولياء فيتعبدون بالمبيت حول الرجال، وفي ذلك الدسائس وقضاء أوطار النفوس، فإذا أقاموا السماع عمد مولهوهم إلى حيات لهم معدة في الأكياس، فيستخرجونها ويقضمونها قضم الخيار، وتسيل دماؤها على أشداقهم، ثم ينفخونها على الناس يزعمون أن ذلك يستحيل في أفواههم زعفران وفاكهة، ورأيت منهم من يأكل الضفادع يعدها قبل السماع في عبه، فإذا قام الطابق أخرج واحدة وقضمها، ولا ينكر ذلك أحد
مخ ۳۱
عليهم ، لا من فقهائنا ولا من ضلحائنا ، بل صارت هذه البدع عندنا سنة معروفة، وشعارا ظاهرا، فيحق لذلك تملك التتر بلادهم واستيلاؤهم عليهم، بل هم طيبون في دولتهم، لأنهم معتقدون فيهم، معظمون لهم، فهل تقوم الطريقة العمياء إلا في الدولة السوداء ? كما لا تقوم الطريقة المنورة إلا قي الدولة البيضاء ، دولة أهل الإسلام ? ، وربما لم ينقطع أثر الخلفاء في بغداد إلا لكونهم لم ينكروا مثل هذه الأشياء، و[لما] لم يغيروها وسلموها لهم، قطعهم الله تعالى لذلك.
أيها السالك، إن أردت الطريقة المثلى فاعكس هذه الأمور، واعتمد خلافها تصب مراد الله منك، فهذا سلوك لك إن فهمت، وهو كافيك.
أول التوبة - عندهم في البداية - الرقص وخدمة الفقراء ، والنهاية عندهم التي ينتهي إليها الطالب ويحصل الوصول ؛ أن يصير للفقير قبول بين الناس ، ويصير صاحب أخذ وعطاء، [و] من لم يكن كذلك لم يصل، ومن حصل له ذلك فقد كمل، ولهم مع ذلك أمور تكاد تخرجهم من الإسلام، منها: أنهم كانوا يأخذوني - وأنا طفل - إلي زيارة قبة الشيخ، فيمشى في المركب إلى القرية التي هو فيها مدفون - أعني أم عبيدة - فإذا لاحت القبة كشفوا رؤوسهم وتضرعوا وابتهلوا، وربما بكوا وانتحبوا، ورقت قلوبهم ودعوا بحوائجهم فإذا جاؤوا إلى باب قبة الشيخ كشفوا رؤوسهم، وسجدوا على عتبته، وكنت أسجد معهم في صغري، ووقفوا على بابه أذلاء وقوفا طويلا، علم الله ما يعظمون الكعبة كما تعظم قبة الشيخ ، بل هناك في الرواق سارية فإذا رأوا قبة الشيخ - من الذي يستجرئ أن يدخل القبة ? بل فيهم من قد شاخ ولا يدري ما داخل القبة - ثم يطفون سبعا بتلك السارية ، فيكون الوقوف على باب القبة كعرفة ، وتلك السارية كالكعبة ، فيكون ذلك حجا لهم كحج الرافضة إلى قبر الحسين.
وحكى لي بعض شيوخهم مادحا لبعضهم، ومترحما عليه، أنه: كان يحرم إذا لاحت القبة ، ويتجرد من مخيط الثياب حتى يدخل القرية ، ويقضي أربه من الزيارة ، ثم يحل من إحرامه، وفيهم من لا يجز شاربيه إلا عند قبة الشيخ.
مخ ۳۲
وأهل الرواق المجاورين يتعبدون برؤية قبة الشيخ كأنها إله يعبد، فيرمقونها بأبصارهم، وتتصاعد لذلك أنفاسهم، ويأنسون أنس العابد بمعبوده، وكيف لا ? وهم يرون العالم من آفاق الدنيا يقصدونها بالتعظيم ، وحط الرؤوس والسجود لها ويبذلون أموالهم نذرا لها، من الدراهم والشموع وغير ذلك، ومن ذلك أنهم كانوا لا يتحاشون مؤاخاة النساء الأجانب، ولا المبيت معهن ولا يتحاشون من مؤاخاة الصبي الجميل، ولا المبيت معه ، يزعمون أنهم في المبيت لا يصدر منهم زنا، وربما يتخذ الشيخ منهم أخوات وبنات في الله - بزعمه - فينام في جانب وأخواته وبناته - في الله - في البيت في جانب آخر، ثم يطفئ المصباح، فمن أراد أن يتبرك بقدم الشيخ يكبسها - فلا بأس، فإن قبل الشيخ إحداهن وضاجعها فلا يدرى ما يصنع بعد ذلك!!
فإذا جاء الشيخ الأكبر إلى مريد من مريديه ، ممن استخلفه وجعله شيخا، فيجيئون أصحاب الشيخ الأصغر، ويطالبونه بأن يجمع لهم أخوات يسكنون إليهن، فيجمع الشيخ من نساء أصحابه جمعا، ويفرقهن على أصحاب الشيخ. حدثني من لا أتهمه، سعد الأكال - يقع في قواصر تمر، فيزعم أنه يأكلها بالحال. وأنه [لما] كان صبيا ينام في عناق فلان -خادم الشيخ أحمد الكبير - كأنه يفتخر بذلك وبعناقه له!! فذكر لي - والله أعلم بصدقه من كذبه - أنه ليلة من الليالي - وهذا سعد كان يعتقد أن الشيخ نجم الدين هو مدبر الأمر، وأنه حتي ما مات، لأنه لو مات لم يقم أمر !! سمعت ذاك من لفظه . كأنه اختفى كما اختفى المنتظر الذي للرافضة ، ويستدل بهذا أن المضاجعة عندهم غير محرمة، يفعلها البر والفاجر، فإن تنزه منها ورع من ورعيهم، إنما يفعل ذلك تنزيها لا تحريما !!
هذا الذي شرحته في حق خيارهم، وأما شرارهم فسمعت منهم من يقول: إن الصندوق إذا كان طاهرا - يعنى الصدر - فلا يضر الميل إذا كان في المكحلة. وكان يقوله ممازحا، وهو جد في قالب هزل. ومثل هذا الجنس إذا وقع في كفه امرأة أو صبي واقعه فيما دون الفرج، وقضى شهوته، لا أشك في ذلك. هذا إذا امتنع عليه،
مخ ۳۳
وكم قد أفسدوا من امرأة - وربما حبلوها، ورأيت من حبل منهن من الزنا - وكم أتلفوا صبيا أخرجوه عن أبويه وحسنوا له الفقر، فيتخذونه ولدا كما يتخذون في الشام الحوار ، ثم يعانقونه طول الليل ، جهده الاجتماع والمعاشرة والاهتمام بالرقص بالغداة والعشي، وشغل قلب بعضهم ببعض. يبتلى الصبي بذلك فيغيب عن قلبه ما يجري عليه بالليل منهم، فيصبح من فراش أحدهم، فيقبل يد الشيخ ويرقص، ويعدو ويدور في الطابق، يتوارى عن قلبه مخازيهم بالليل، ويقولون: السماع شبكة!! نعم شبكة لمأكلتهم، ورجوع من شرود إلى شرود.
وحكى لي من لا أتهمه : أنهم كانوا يجتمعون في بيت؛ الرجال والنساء خلطاء، ثم يقيمون السماع فيأخذهم الحال، فيتعرى الرجال عن جميع ملابسهم لورود الحال، وتبقى عوراتهم بادية - وهم بادية - فإذا انطفأ المصباح أخذ كل فقير في
مخ ۳۴
عناق فقيرة إلى الصباح، والله أعلم بما كان بعد ذلك، وذلك قبيل أخذ التتر بغداد بشؤمهم ، وكان الشيخ العارف نجم الدين الإصفهاني -أعاد الله من بركته - يقول : ما أتلف الدين كطائفتين : الأحمدية في النساء، والحريرية في الصبيان، وأقول أنا: والاتحادية في العقائد أيضا، واليونسية قريبون منهم، وكل هؤلاء أتلفوا الدين ووسخوه، وقلبوا حقائقه وضيعوا حدوده واستهانوا به، وأحلوا حرامه، وبدلوا أحكامه، وانتهكوا حرماته، طهر الله الأرض منهم، وأراح الأرض من أنجاسهم، إنه على كل شيء قدير.
والذي أعتقده - إن شاء الله -أن التتر لم تستول على أهل الإسلام إلا بشؤم هؤلاء الطوائف وظهورهم ، وعهدة ما هم عليه على شيوخهم الأكابر ، كالشيخ أحمد الكبير وأمثاله، فإنهم أول من ابتدع هذه الاجتماعات، ولم يضبطوا أصحابهم على تحريم النظر، وغض الأبصار، وتحرير المراقبة والمحاسبة، وكأن
مخ ۳۵
لهم نصيبا من ربهم استغنوا به عن تحرير الشريعة، ومع ذلك فهم يقرؤون القرآن قراءة من لم تبلغه عن الله دعوة، ويعظمون النبي صلى الله عليه وسلم تعظيم من لا يعلم بأي شريعة جاء، لا تجاوز قراءتهم حناجرهم ، بكم غتم كالبهائم السارحة، والأنعام الراتعة ينادون من مكان بعيد، ويرون الشريعة من بعيد، يبغضون القائمين بها - وهم العلماء - بغضا ما عليه مزيد ، فما قولكم - معشر العقلاء - في طفل لم يفتح عينه إلا بين هؤلاء ? ولم يعرف دين الإسلام إلا هكذا ? ومن ألطاف الله تعالى بي أن خلق في غريزة في حال الطفولة كنت أعلم بها أن هؤلاء ليسوا على شيء ، وأن الحق وراء ما يدعونه ، وكنت أتشبث برسالة القشيري، وكتاب (القوت)و(الإحياء) فأعلم باطلهم علما في القوة، ولا سبيل إلى ظهوره في الفعل، لأن الدولة لهم، فلا يمكن ظهور ذلك في الفعل أصلا، وأكابر العلماء المحدثين ، كعز الدين الفاروثي من أشياعهم وأنصارهم يحضر مجالس سماعاتهم، وحضرته - وأنا طفل مراهق وقلت : قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل محدثة بدعة)، فكيف حال هذا السماع؟ قال: فتشاغل عن جوابي، ولم يعجبه ذلك. وكان أنهى ورعه أنه كان يكره السماع في المسجد ، وربما حضره في المسجد تقية ومدارة. رأيته في مسجد يعمل فيه السماع، فهذا حال المشايخ المحدثين العلماء فكيف يقوم الحق المحمدي، والدين الفرقاني بين هؤلاء ? بل كيف يعرف ويعلم فضلا عن قيامه ونصرته? ومعلوم إذا انطاع أهل المدن لمشايخ البر الفلاحين فسد دينهم وانقلبت أمورهم ، وإن كانوا أولياء، وذلك لأن قلة العقل على أهل البر ظاهرة، ولم
مخ ۳۶
يبعث الله نبيا من أهل البر قط ، ولا من عرب البادية ، فإذا انطاع أهل المدن للعلماء صلح أحوالهم، ومتى انطاعوا لفقراء البر فسدت أحوالهم، ثم سرت هذه البدع من الأحمدية في سائر طوائف فقراء البطائح ومشايخهم ، من مؤاخاة النساء والصبيان ومضاجعتهم، ومسك الحيات، ونزول النار ، وغير ذلك من المخازي، فالوفائية - عندنا- ينزلون النار ، والبدرية - عندنا أيضا - يؤاخون المردان، وأنسب الطوائف -عندنا - الحلوبية ، أصحاب الشيخ ابن حلوبا ، عندهم شيء من التمسك ، لكن غلبتهم طريقة الأحمدية ، من إظهار شعار السماع بين الخاص والعام، واجتماع النساء على رؤوسهم في السطوح يتفرجون على رؤوسهم وتهتكهم، فالأحمدية كانوا كالجرب جرب بهم الناس، واقتبسوا من ظلماتهم، وقامت دولتهم أي قيام، فكيف يقوم الدين مع هذه الظلمات?
فصل
ثم انتقلت من هذه الطبقة إلى طبقة الفقهاء الشافعيين لأتعلم العلم، فوقعت بين طائفة خير من الطائفة الأولى ، عندهم علم الحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، وعلم ما يجوز وما لا يجوز، وعلم ما يترتب عليه الثواب والعقاب واعتقاد ذلك وعلمه في تلك الظلمات نور وهدى، فضلا عن العمل به، لكن القوم فيهم الفقة لا غير، وفيهم من يشارك في أصول الفقه، واصطلاح ابن الخطيب مع تعظيمه وتبجيله، والإقرار بأنه الإمام الأعظم، وأنه ركن من أركان الدين، وإذا ذكر[ذكر] قبل الإمام وترضي عنه، وغالب ما فيهم علم خصومات الناس ووقائعهم، فقلوبهم مشحونة بمسائل (التنبيه)، و(المهذب)، و(الوجيز)، و(الوسيط)، و(شرح الوجيز)، و(الحاوي)، و(اللباب)، و(العجاب) لعبد الغفار، و(المحرر) للرافعي لا يوجد عندهم أصول السنة ؛ من علوم الحديث وقواعده ، ومعرفة رجاله، وعلم صحيحه من سقيمه، ولا علم معاملة الله بالسنة، ولا معرفة عندهم بقواعد الاعتقاد ، من طريق الصحابة والسلف الأول ، كالسفيانين ، والحمادين ، وابن
مخ ۳۷
المبارك، وأحمد، وإسحق، وأمثالهم بل قواعد عقائدهم من أصول المتكلمين بالعقل والنظر. والصالح الورع فيهم الممسك عن الخوض في العقائد، ويسلم أمر ذلك إلى مراد الله، فيؤمن بذلك إيمانا مجملا، لا تفصيل فيه، يابسة طباعهم، خالية قلوبهم عن راوئح المحبة لله، والخوف منه، والتعظيم له، والشوق إليه، لا يشم منهم روائح العبودية ، ولا الصدق في المعاملة و[لا] الإخلاص فيها، ولا المسارعة إلى البر بالقصد الصحيح وانشراح الصدر ، متكالبين على الرئاسة والمعلوم ، مزاحمين على المناصب، تخرج نفس أحدهم إذا جلس أحدهم فوق مرتبته، حتى ربما ينغص عليه طعامه وشرابه، وربما وقع فيه بالغيبة والطعن، فهم أوعية فقه وأحكام وخصومات الناس لا غير إذا جاءت حكومة فرجوا عنها بما ينقلونه من الكتب لإباحتها، ولا تفتيش على أصل هذه المسألة من الحديث ، بل إذا وصل الأمر إلى الشرح أو إلى نص فلان انتهى الأمر عنده ، ومع ذلك فو الله لقد استفدت منهم علم ما يجوز وما لا يجوز ومن العجائب أنني أجد فيهم من يعتقد في تلك الطائفة، ويزوره مع علمه بانحراف طريقهم، فاستدل بذلك على أنه ليس عنده من النور المحمدي ما ينكشف به أحوال القوم، فبقيت معهم برهة من الزمان محبوسا كالطائر في القفص، ولا أشم الهواء إلا من كتب الصوفية.
فصل
ثم انتقلت عنهم إلى صحبة مطاوعة البغاددة وفقرائهم، فوجدتهم خيرا من أولئك الأولين بألف طبقة: يحرمون الحرام، ويحلون الحلال، ويتمسكون بمعظم مذاهب الفقهاء غير أنهم أهل دلوق، ومرقعات، وشراشح رقاع، ظراف لطاف، غالب هممهم في الشهوات من طيب الطعام ، وحسن اللباس ، وهندام الثياب، ومنادمة الأغنياء ، ومصادقتهم ومباسطتهم والتواضع الزائد لهم ، والمزح معهم، واستجلاب رفقتهم، وفتوحهم.
مخ ۳۸
عليها، فإذا رقصوا فلهم في رقصهم هيئة ظريفة من التوقيع على الموسيقا، مثل أن يرفع رجلا ويحط أخرى ، ومثل أن يتحدبوا وينطوا نطا على ذلك الانحداب راكعين. ليس في قلوبهم شيء من الأذواق، ولا يظهر عليهم ذبول العبودية، ولا سيماء الخوف، ولا خرقة المحبة، ولا جمع الهم على العبادة بالقصد الصحيح، ولا يوجد منهم روانح الطلب، ولا يسمع منهم قواعد السير والسلوك والوصول، وقطع عقبات النفس، ووجدان الأذواق من الطوالع والبوارق واللوائح، ولا يرى عليهم ذبول الخوف، ولا سيماء المحبة، اللهم إلا في السماع، ربما رقوا وخشعوا، فإذا خرجوا عن السماع عادوا إلى تلك العوائد النفسانية ، والأوضاع الاصطلاحية ، لكنهم أهل تألف، وتوادد وتواصل وتراحم، وخلق وإيثار، بل غالب ما هم عليه هو ما يظهر منهم من الأخلاق والخلاعة ، والترسم بظاهر الدين، وفيهم من له ورد بالليل وصيام وحج، بل غالب مجاهدتهم المجاورة بمكة، فمن جاور سنة انتهى سيره في سلوكه!!
العادات عليهم غالبة، ونفوسهم عن الحقائق محجوبة، لم أر فيهم ناقدا، ولا طالبا، ولا من يشير إلى طلب الوصول أصلا هذا فن قد مات عندهم، وليس الفقير عندهم إلا من مد كسيرة، أو يكرم الأخوان بالضيافة، أو يفتح الطابق بالسماع فترق القلوب له، فيضيف الناس برقة القلوب. هذا أعز أحوالهم وأعلاها، وانتهى الأمر عند ذلك.
يعظمون المشايخ لا كتعظيم أولئك، بل فيهم شعبة منهم،يكشفون رؤوسهم عند قبة ابن إدريس من الصحراء ، ويقبلون عتبة بابه - فعلت ذلك معهم وأنا شاب - إلا أنهم لا يقعون في تلك المناجس، وربما عشق أحد منهم أمرد على معرفة منه أن ذلك باطل لا يجوز، وإذا رأوا صاحب عبادة وورع لا يتكايس معهم، ولا يحضر السماع، ولا يطيب فيه، قالوا: هذا يابس ثقيل، فعاشرتهم، فلم تعجبني حالهم ، وعرفت بغريزتي أن الأمر فوق ذلك. ولا أشم الهواء إلا من كتب
مخ ۳۹
الصوفية.
فصل
فألقى الله تعالى في قلبي معرفته وقبه، وهام قلبي بذلك، ولا أعلم حقيقة ما وقع بقلبي، ولا أجد من يدلني على مطلبي، ولا من يوقعني على دوائي، ولا من يعرفني ما هذا الهيمان الذي وقع بي، فبقيت متحيرا والها لا أجد القرار، وصدري يضيق من جميع الطوائف التي صحبتها وعاشرتها ، وذلك في سنة ثلاثة وثمانين وستمئة (683 ه) أو قريبا منها، فهاجرت إلى بلاد الشام ومصر، فوجدت بها من الطوائف مثل الذين شرحت أحوالهم ، من الفقهاء والفقراء والمطاوعة سواء بسواء، ومع ذلك أجد قوما أهل سيماء حسن وعبادة، يسيرون إلى صيام الدهر والعبادة، ولا شعور عندهم بالطلب ولا المطلوب، ولا السير ولا السلوك. عباد صرف، أو فقهاء صرف أو مطاوعة صرف. لا أجد من يشير إلى المطلوب أو يعبر عنه، فلطف الله تعالى بي، فوقعت في الإسكندرية بطائفة عرفوا مقصدي ومطلبي فأنست بهم بعض الأنس شهد قلبي بأن معهم شيئا صحيحا ، فإني وجدتهم يشيرون إلى معرفة الذات والصفات والعبودية لله تعالى وطريق ذلك، وبأي وجه يحصل ذلك، ويشيرون إلى محبة الله تعالى واتباع أمره واجتناب نهيه، والرضا بقضائه وقدره، والانجذاب بالهمة إليه، وشممت من أنفاسهم أن هناك قوما خصوا بالمحبة والاصطفاء والتخصيص والتولية ، دخلوا في حضرات الأسماء ، وتحققوا بشيء منها ، وأعطوا حقيقية اسم أو صفة عرفوا الله - عز وجل - بها، فهاموا بحبه، وانقادوا لإرادته، وصارت بذلك إرادتهم تبعا لإرادة ربهم، ثم كشف لهم عن شيء من سبحات العظمة والجلال والبهاء والكمال، والبقاء الأزلي والجمال، فلزم قلوبهم من ذلك الكشف هيمان واحتراق فهم يراقبون مشيئاته ويرضون بها، ويراعون أوامره ويقومون بها
مخ ۴۰
وأرواحهم مختطفة بأشعة عظمته وكبريائه، والهة بقربه، وأعضاؤهم ومفاصلهم ممتلئة من أنواره المخزونة من أنوار جلاله وعظمته، وفيهم من له مكالمة ومحادثة وتعريفات من ربه، يعرفه بها في اليقظة والمنام، وفيهم من له هاتف وتعريف من الإلهام.
ووجدتهم أشد الناس تعظيما للشريعة والأوامر والنواهي ، زاهدين في الدنيا راغبين في الآخرة، محبين لله والهين بقربه، قد رفضوا كل شيء سواه، فلما خلت قلوبهم من غيره امتلأت من حبه، ومن كشف أسمائه وصفاته، وعظمته وقدس ذاته، يرى أحدهم تدبيره واختياره من أكبر الذنوب، فهو فرح مستبشر بحسن اختيار ربه، مطمئن إليه، ساكن إلى ما ذكره به في أزله، على وفق حكمته ورحمته، حتى كأن أحدهم مع ربه، يراه عيانا بقلبه، ويشرق على وجهه آثار جلاله ومحبته وتعظيمه والانقياد لحكمه، ووجدت آثار ذلك فيهم وفي حركاتهم وسكناتهم وتقلباتهم، فوالله لقد فرحت بهم فرحا شديدا، وسكن قلبي إليهم وإلى طريقهم بعض السكون، لأني رأيت معهم شيئا هو غاية الغايات، ومنتهى الطلبات.
ثم إني فتشت على أساس هذه الذروة التي عندهم على أي أساس قام من العقائد والأصول، فوجدت القوم لا شعور لهم بالسنة، ولا الأيام النبوية، ولا السير الصحابية، ولا الأخلاق الدينية، ووجدتهم يعتقدون شيئا من التجهم ، إلا أني لم أجدهم يصرحون بالتعطيل، بل ميلهم إلى الوقوف، ولا أشك أنهم ينكرون بعض الصفات أو يقفون فيها، كما هو مذهب المتكلمين، ومن ذلك وجدت عليهم كشفة، وفي لمحات وجوهم سعفة، ووجدت هذه الأحوال المذكورة عندهم قد اقتبسوها من شيوخهم، فهم لا يذكرون إلا شيوخهم، لا يستندون فيها إلى الحديث، وإن لم تخالفه لكن مادتهم من أنفاس شيوخهم، وشيوخهم قبل قلوبهم، إليهم يتوجهون في أحوالهم، وعلى كشفهم يعولون، ولا يعرفون ربهم إلا من حين قدمه وأزليته، حيث كان ولا شيء معه، ولا يشيرون إلى كشوف القرآن ، ولا إلى تجليات الصفات في تلاوته، ولكن مع ذلك وجدت معهم شيئا وأي شيء، كما قيل على مثل ليلى يقتل المرء نفسه وإن كنت من ليلى على الهجر طاويا
مخ ۴۱
فحصلت بتوفيق الله تعالى ما حصلت من فوائدهم، وبركة صحبتهم ضمن ما حصلته من فوائد الفقهاء اليابسين ، من معرفة ما يجوز وما لا يجوز، فصار ذلك كالقالب الجسمي وهذا كالروح ، لكن كلاهما يابسان ، فقه يابس عن رطوبة الحديث ، ومقابلة النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام والأخلاق ، وحال يابس عن مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقه مقابل لأئمة الفقه، وحال مقابل لأئمة التصوف والرسول صلى الله عليه وسلم له السكة والخطبة ، والحكم والتوجه إلى غيره ، فبقيت كالعائز الذي حصل أول الدرجات ولاحت له أعلاها وهو عائز بينهما من الدرج، فقنعت بذلك في الحالة الراهنة وتغذى قلبي بذلك من جوعه، فإن الجائع يتغذى بمهما كان قوتا.
فصل
فوقعت بعد ذلك بين طوائف صوفية الرسم، في الرباط، فوجدت قوما أهل سيماء ظاهرة، وسجادات وهيئة، وأشكال وذقون مسرحة، وشيء من الأنوار لائحة، فصحبتهم، فوجدهم يشيرون إلى الذكر والخلوة ، وتناول المعلوم ، والاشتغال بالعبادة، لكنني وجدت قلوبهم مشحونة بحركات إخوانهم، لا يطرف بعضهم إنكارا وتطلعا، وحسدا وغيبة. يقولون: خرج فلان، دخل فلان، رأيته يتحدث في السوق مع فلان، فتوجه كذا. فلان له معلوم كذا، بحيث لا يخلو قلب من يصحبهم عن حركاتهم، إلا نادرا، ومع ذلك فربانية الرسوم في صدورهم يعبدونها، قد استعبدتهم وملكتهم، لا تخلص لهم فريضة لله، مثاله: يتوضأ أحدهم حتى يصلي لله الفريضة ، وهو مع ذلك ملتفت إلى الخدام إن تأخر عن الصلاة مع الجماعة في الرباط أن يتكلموا فيه، وإن دام ذلك التخلف منه يوما أو يومين خاف أن يقطعوا معلومه ، ولذلك يخاف أحدهم إن فاتته وظيفة العصر معهم، أو وظيفة يوم الجمعة أن يتكلموا فيه، ولو تأخر عن ذلك أياما قطعوا معلومه، وأخرجوه من بينهم فقط، لا تخلص عبادتهم لله، وكيف تخلص عبادة من يخاف غير الله ? أو يعمل عملا لغير الله? وإن كان لله فهو مشوب بالنظر إلى غير الله.
مخ ۴۲
يخاف أحدهم بينهم من رثة ثيابه أو وسخه أن يمقتوه، أو يخرجوه من بينهم وكذا لا يقدر بينهم أن يلبس عباءة مخططة إلا سوداء أو بيضاء، فيخاف أحدهم أن يخرج عن هيئتهم، إذ لو خرج عنها لقطعوا معلومه.
وفيهم شيء من طبيعة التتر كل من قام بالرسم قبلوه ؛ اتحاديا كان أو زنديقا، لا يعترضون عليه، وكذلك - دائما - يكون عندهم الصدرية والعربية مع علمهم بانحرافهم. كذلك التتر، كل من قام بالطاعة قبلوه يهوديا كان أو نصرانيا.
ويرون القيام بذم البدع فضولا، ليس من وظيفة الصوفي ذلك، بل وظيفته السكوت والقيام بالرسم، وتناول المعلوم، [و] إذا قام بذلك حصل المقصود.
يعظمون - بينهم - ذا الهيئة من صاحب المزدوجة الكبيرة ، والأكمام الواسعة والذقن الطويلة خصوصا إذا كانت بيضاء، كان هو المشار إليه بينهم. فوجدت قطعا - [قوما] لا يقدر العبد على عبادة الله وحده ، لا شريك له بينهم ، ولا يجد بينهم لذة الطاعة، ولا الامتلاء من الذكر، ولا استيلاء ربانية الحق على القلوب، ولا وجود ذوق خالص العبودية ، ووجدتهم في ظلمة وعماء، لهم صورة بين العالم، وقلوبهم مغمورة برسم العبادة، وشيء يسير من الحقائق، مخلوط بأمثاله من ربانية المخلوقين وأوضاعهم، فاسترحت بينهم من وجه، ولم أسترح من وجه آخر، فالراحة بينهم بسبب الجمعية لصفاء النظر، فإن ذلك إنما يكون بالكفاية والقطع عن الشواغل، وذلك موجود بينهم، فلما صفا العقل والفكر، وأبصر الإنسان ما بين يديه، وأراد أن يعبد الله بكمال العبادة وجد نفسه مقيدا بينهم عن النفوذ.
فصل
واعترني في الربط قوم يشيرون إلى المحبة والتوحيد، ويشيرون إليه، ويقولون: فلان موحد، وفلان ما شم من التوحيد شيئا، ويعظمون شأن توحيدهم، ويقولون: من يصل إليه ? ويذكرون شيوخهم كابن عربي، والصدر القونوي، فبقيت مدة أفتش على التوحيد الذي يشيرون ، فوجدن حاصل توحيدهم أنهم يجعلون الحق تعالى هو الوجود المطلق الساري في جميع الأكوان ، وأنه حقيقة الأعيان ، من
مخ ۴۳
الحيوان والجماد، ويزعمون أن من وصل إلى ذلك شهد الكل في الكل، فهم قوم يقولون : (الله) ، والله عندهم هو الوجود الساري ، الذي هو ضد العدم الذي سرى في كل شيء ، فوجدت - على ما يزعمونه - أن إلههم الذي هو الوجود سار في الكلاب، والخنازير ، والفئران، والخنافس، تعالى الله البائن بذاته وصفاته، عن جميع مخلوقاته، أن يكون بهذه المثابة، فإنهم لا يقولون وجودا قديما، ووجودا حادثا، بل الوجود عندهم وجود واحد ، سار في كل شيء ، والعبد عندهم لا وجود له ، إنما الوجود الذي هو الحق ، والحق هو الوجود فيه ، والعبد كالمظهر له ظهر الوجود بواسطته، إذ لولاه لم يظهر الوجود، ولولا الوجود لم يظهر هو. وحقيقة معتقدهم أن الباري - تعالى - ليس شيئا منفصلا عن الخلق فوق العرش بل عندهم الحق شيء ظهر في السماوات والأرض، وفي كل شيء ظهر فيه بذاته.
هو مطلق تقيد في هذا، وفي هذا، والمجموع شيء واحد، فالوجود الذي قام بالإنسان، والكلب، والنبي، والملك، والسلطان هو وجود واحد عندهم، وهو الحق تعالى ، ليس الحق شيئا زائدا على مطلق الوجود.
هو بعينه الوجود المطلق ، الذي تقيد بالإنسان والحيوان ، والنبات والجماد والكلاب والحمير، والبقر والذباب، والحيات والعقارب، فمثاله عندهم كالحرارة المطلقة، التي تقيدت بالأشياء الحارة في كل حار، على اختلاف أجناسها وأشكالها وأنواعها ، هذا حار ، وهذا حار ، فالحرارة شيء واحد ، مطلقة فتقيدت بعين هذا الحار وكذلك عندهم الحق تعالى ، وحدة مطلقة تقيدت الوحدة بهذا الموجود وبهذا الموجود رفيعا - كان - أو خسيسا.
فلما رأيتهم بهذه المثابة نفر قلبي منهم نفورا شديدا، ولم أكن أقدر على تفصيل معتقدهم، لكني أسمع شيئا أكرهه ولا أحبه بفطرتي، فإني وجدتهم منحلين في باب الحلال والحرام والحدود، وربما قيل لي عن رجل منهم: إنه يبقى جنبا أياما، وربما صلى بنا إماما.
وإذا قصدوا ملكا أو صاحب ولاية، يخاطبونه ويتضرعون إليه كما يتضرعون
مخ ۴۴
إلى الله، فإنه - عندهم - هو مظهر وجوده، وإنما يخاطبون الوجود فيه.
وكان من شيوخهم من يقول للشجاعي - وكان نائب السلطنة معروفا بالظلم والاعتداء - يقول له : أنت اسم الله الأعظم، وأمثال ذلك.
ثم الأمرد الجميل - عندهم - في رتبة عالية من المظاهر الجمالية الإلهية.
والسماع عندهم أشهى شيء، يحرك بواعثهم، ويثور فيها معارف الوجود المطلق.
ويتكلمون على مراتب الأنبياء ، كأنهم من فوقهم . والشريعة عندهم سياج طام لصلاح العالم، وإلا فمن العابد ? وعن المعبود ? الأمر عندهم كما قال قائلهم :
ما الأمر إلا نسق واحد
ما فيه من مدح ولا ذم
وإنما العادة قد خصصت
والطبع والشارع بالحكم
ووجدت بعد ذلك كتاب (الفصوص) لابن عربي دالا على هذا المذهب الخبيث، في تفصيله بعبارات متنوعة، يقول: ما ثم غيره، ثم يقول: فاختلط الأمر وانبهم، ويقول:
فيعبدني وأعبده
ويحمدني وأحمده
وأمثال ذلك ففصل بذلك مذهبهم وعرفت به حقيقة مقاصدهم فتعبت بهم
مخ ۴۵
دهرا طويلا.
فصل
ثم فتشت الحاصل الذي حصل لي من مجموع الطوائف، فلم أجدني انتفعت إلا بطائفتين - كما سبق - بالفقهاء من معرفة ما يحل ويحرم ، وأن الطاعة موجبة للثواب، والمعصية موجبة للعقاب، واعتقدت ذلك عقيدة، وذلك خير كثير، وانتفعت بطائفة الصوفية الإسكندرا نيين ، عرفت بهم المطلوب ، وصفة الصديقين ، والواصلين والمصطلمين، وذلك - أيضا - خير كثير ووجدت نفسي - كما سبق ذكره - قد والمحبين والمحبوبين وأحكام العبودية، وصفات المتوكلين والراضين، والزاهدين حصل لها الدرجة الأولى والعليا ، وهي عائزة ما بينهما من قواعد الدين وأصوله وتفاصيل الشريعة من الكتاب والسنة ، وأجد جميع ذلك العلم الظاهر ، والحال الباطن من الله ورسوله، في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فصل
فلم أزل في هذا العوز حتى لطف الله تعالى بي، واجتمعت بطائفة بدمشق من الله تعالى علي بهم، فوجدتهم عارفين بأيام النبوة، والسير الصحابية، ومعاني التنزيل وأصول العقائد المستخرجة من الكتاب والسنة ، عارفين بأذواق السالكين وبداياتهم، وتفاصيل أحوالهم، يرونها من كمال الدين، لا يتم الدين إلا بها، ولا تشبه أنفاسهم أنفاس أهل العصر من فقهائهم وصوفيتهم، وما شبهت أنفاسهم إلا بأنفاس القرن الأول والثاني والثالث، في عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم، وكأني - باجتماعي بهم، ورؤيتهم - وجدت أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، ووجدت التابعين كسعيد بن المسيب، والحسن البصري، والربيع بن خثيم، وثابت البناني، وأمثالهم وكأني وجدت - برؤيتهم - مالكا والشافعي والسفيانين والحمادين وابن المبارك، وإسحاق، وأحمد بن حنبل، وأقرانهم، ونظراءهم،
مخ ۴۶
فإني وجدتهم عارفين بحقائق العلم الذي أنزل من السماء على محمد صلى الله عليه وسلم مسارعين إلى إقامة أوامر الله تعالى ، كمسارعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معظمين للدين، مهتمين بإقامته وإظهار شرائعه وشعائره، حنقين على من هتك حدود الدين، أو انتقص شريعة من شرائعه، اعتقادا أو عملا، وليست أصوله أصول المتكلمين، بل أصول عقائدهم على الآيات والأخبار الصحيحة، وأمروا الصفات كما جاءت بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه، وأثبتوا حقائقها لله كما يليق به من الاستواء أو النزول ، وجميع الصفات وظهر لهم - مع ذلك معارف صحيحة ، وأنوار ظاهرة من معرفة الله تعالى، ومعرفة صفاته القائمة بذاته ذوقا وحالا، مع العلم والنظر، ووجدت آثارها في قلوبهم عند صلاتهم وأذكارهم ودعوتهم إلى الله تعالى.
يعرفون ربهم من فوقهم، ويعبدونه كما وردت به النصوص الدالة على أنه فوق العرش، بذاته وصفاته بفوقية تليق بجلاله وعظمته، لا يجعلونه محصورا في الفوقية، بل كان ولا شيء معه، قبل خلق العرش والأكوان، فلم يكن هناك في الفردانية شيء غيره، فيقال: هو فوقه، فلما أحدثت الأكوان حدثت في جهة التحت بالنسبة إلى علوه الذاتي، فإنه سبحانه بالذات علي على كل شيء، ولا يجوز أن يكون سبحانه تحت الأكوان، لا ممتزجا بها، ولا بائنا عنها، وليس تحتها فلزم بالضرورة أن يكون فوقها.
ثم من صفاتهم: يبذلون أنفسهم وأموالهم في سبيل الله تعالى، وإقامة الدين، يعرفون قدر الدين، وقدر أهله وحملته، والقائمين به، لأنهم أهله وأنصار السنة والحديث، وأعوان الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعوان دينه، وأركان شريعته. يوالون من والاها ويعادون من عاداها، مستعملون مكارم الأخلاق ، من الرحمة والتودد، والإنصاف والصدق، والبذل والمواساة، والحلم والصبر، وكظم الغيظ والرحمة للخلق، وإعانة
مخ ۴۷