وكانت ثمرة كل هذه العوامل جمعاء: البيئة المسرحية، والخيال الحي، والميل الأدبي، والتعليم الذاتي؛ كانت ثمرة هذه العوامل هي تلك المفاجأة التي واجه بها ريتشارد ذات يوم أفراد أسرته؛ إذ تقدم إليها بدراما هي «ليوبالد وأدلايده
Leubald und Adelaide »، وأعلن عزمه على الانقطاع عن الدراسة والتفرغ للشعر. ووقع النبأ على الأسرة وقع الصاعقة، وخاصة تلك الأم التي كانت تود أن تنفذ وصية زوجها الراحل جاير، الذي كانت آخر كلماته: «لقد أردت أن أجعل منه شيئا مذكورا!»
وتلقى ريتشارد العاصفة في سكون: «وبينما كانت الأسرة تصب علي لومها وتتحسر على وقتي الضائع ونفسي التي أفسدها الغرور، كنت أشعر بعزاء مبهم وسط تلك المظاهر المؤلمة ... كنت أعرف ما يجهله الجميع؛ وهو أن قطعتي لن تقدر حق قدرها إلا إذا وضعت لها موسيقى ملائمة؛ فاستقر عزمي حينئذ على أن أؤلف وأعزف بنفسي تلك الموسيقى.»
وهكذا كانت نظرة ڤاجنر إلى الدراما ممتزجة بالألحان منذ البداية ، بحيث لم ير لأية قطعة من مؤلفاته معنى إلا بعد أن يعبر عنها بالموسيقى، ومن الغريب حقا أن تنضج تلك الفكرة الجامعة بين الشعر والموسيقى، والتي لم تتمثل لدى أي موسيقي أو شاعر آخر سواه - في وقت كانت محاولاته الشعرية لا تكاد تقوى فيه على الوقوف على قدميها، وكان تعليمه الموسيقي فيه هزيلا قاصرا إلى أبعد حد. وإنها لثقة عجيبة بالنفس تلك التي أوحت إليه هذه الفكرة الملازمة له طوال حياته، في ذلك العهد المبكر، والتعليم المحدود.
وهكذا يمكن القول إن عبقرية ڤاجنر الموسيقية لم تظهر متأخرة كما قد يبدو لأول وهلة؛ وإنما استيقظت تلك العبقرية فيه كغيره من الموسيقيين، وإن كانت لم تجد ما يعبر عنها في عالم الأصوات، بل في عالم الشعر والمسرح؛ فالمسرح الدرامي يشغل في نمو ڤاجنر الموسيقي تلك المكانة التي كان يشغلها البيانو وقواعد الهارموني عند موتسارت أو بيتهوفن، فلما تجاوز ڤاجنر مرحلة المراهقة واتضح أمامه العالم الجديد، عالم الصوت، أصبح التعبير يشتمل على المرئيات والمسموعات معا.
وإذن فالعنصر الفني الأول في شخصية ڤاجنر هو العنصر التعبيري، وهو الذي تنبع الموسيقى والشعر فيه معا من المجال العاطفي، فيصبحان مجرد وسائل لإخراج عاطفة أو إحساس باطن إلى حيز الوجود. ولم يكن ذلك الإخراج التعبيري بالأمر العسير على ذلك الذي نشأ منذ نعومة أظافره في جو مسرحي خالص. •••
ولكن ما هي تجارب ڤاجنر الأولى في عالم الموسيقى؟ كانت تلك التجارب على قلتها ووردوها في عهد متأخر بالقياس إلى غيره من «الأطفال المعجزين» مثل موتسارت ومندلسون - كانت ذات أثر حاسم في حياته؛ إذ حددت منذ الوهلة الأولى الاتجاه الذي سار فيه طوال حياته الفنية ... كانت عائلة ڤاجنر تربطها صلة شخصية بالموسيقار الألماني «فيبر
Karl Maria von Weber »، ولتلك الصلة أهمية كبرى في تنمية الذوق الموسيقي عند ڤاجنر، وتحديد الاتجاه الذي سار فيه فيما بعد، إذا كان «فيبر» يتردد على العائلة ومعه مغن إيطالي زري الهيئة يدعى ساسارولي
Sassaroli . وهكذا بينما كان فيبر يثير الإعجاب في نفس ڤاجنر بشخصيته الجذابة، كان «ساسارولي» يثير في نفسه الضحك والسخرية على الدوام؛ لذلك اختار ڤاجنر جانب الأوبرا الألمانية منذ البداية، في خلال ذلك النزاع الهائل الذي قام بينها وبين الأوبرا الإيطالية في ذلك الوقت. وكان هذا الاختيار أمرا فاصلا في حياة ڤاجنر.
ومن الظواهر الفريدة في تربية ڤاجنر الموسيقية، أنه لم يتعلق - كغيره من الموسيقيين في صباهم - بآلة موسيقية معينة يتخذها وسيلة للتعبير عن مشاعره؛ وإنما تلقى دروسا قليلة على «البيانو» على يد أستاذ غير كفء، وما إن وصل إلى الحد الذي يستطيع فيه أن يعزف افتتاحية فرايشتز
ناپیژندل شوی مخ