Research on Contemporary Jurisprudential Issues
بحوث في قضايا فقهية معاصرة
د ایډیشن شمېره
الثانية
د چاپ کال
١٤٢٤هـ - ٢٠٠٣ م
ژانرونه
ـ[بحوث في قضايا فقهية معاصرة.]ـ
المؤلف: القاضي محمد تقي العثماني بن الشيخ المفتي محمد شفيع
دار النشر: دار القلم - دمشق
الطبعة: الثانية، ١٤٢٤هـ - ٢٠٠٣ م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
أعده للشاملة: سيد أبو بكر بن محمد عمر الندوي
1 / 1
الطبعة الثانية
١٤٢٤هـ - ٢٠٠٣ م
1 / 2
بُحُوثْ
فِيْ
قَضَايَا فِقْهِيَّةْ مُعَاصِرَةْ
تأليف
محمد تقي العثماني
قاضي التمييز الشرعي بالمحكمة العليا لباكستان
ونائب رئيس جامعة دار العلوم بكراتشي
ونائب رئيس المجمع الإسلامي بجدة
دَارَ الْقَلَمْ
دِمَشْقْ
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 4
كَلِمَةَ الْمُؤَلِّفْ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى كل من تبعهم بإحسان
على يوم الدين.
إن عصرنا هذا قد حدثت فيه مسائل جديدة لم تكن معهودة أو متصورة من قبل ولذلك لا يوجد لها ذكر صريح في مآخذ الفقه الإسلامي الأصيلة ولكن الشريعة الإسلامية شريعة خالدة سوف
تبقى-إن شاء الله تعالى-إلى قيام الساعة وإنه منبثقة من الوحي الإلهي الذي تجلى في صور القرآن الكريم والسنة النبوية الطاهرة-على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم-والذي لا تحول الأزمان دون إدراكه للحقائق الكونية وتطورات البشرية فإنها مهدت للأمة الإسلامية مناهجا وأصولا لا تزال غضة طرية في كل مكان وزمان دون أن يعتبرها بلىً وفساد على كرّ الأعصار ومر الدهور.
ولم يزل الفقهاء المسلمون - في كل عصر ومصر - يستنبطون أحكام الحوادث الجديدة في ضوء هذه المناهج والأصول حتى أصبح الفقه الإسلامي يمتاز على غيره من التشريعات البشرية بثروتها الهائلة وتنوعه الشامل وقواعده المحكمة وعطاءه المتواصل بحيث لا يخفى ذلك على من استقى من معينة العذب دون أن تعممه الشحناء والعصيبة العمياء.
1 / 5
وإني-كأدنى دارس للفقه الإسلامي-لم أزل أكتب على مسائل فقهية في اللغات: العربية، الأردية، الإنكليزية منذ أكثر من ثلاثين عامًا، حتى اجتمعت لدي مجموعة من بحوث فقهية معاصرة في كل من هذه اللغات الثلاث. وبما أن هذه البحوث كانت مبعثرة في عدة مجلات وصحف وكتب فربما تعسر على طلبة العلم اقتناؤها.
فأشار إليّ بعض أحبتي أن تجمع هذه البحوث في مجموعة وتنشر في صورة كتاب لتكون ميسرة للطلبة على صعيد واحد فأردت أن تكون هناك ثلاث مجموعات في اللغات الثلاث المذكورة. فابتدأت - بعون الله تعالى بهذه المجموعة التي تضم البحوث الفقهية التي كتبتها باللغة العربية. ومعظمها قد عرضت على ندوات أو مؤتمرات فقهية عالمية في بلاد مختلفة من الوطن الإسلامي.
وطبعت هذه المجموعة لأول مرة من مكتبة دار العلوم كراتشي عام:١٤١٥هـ حتى نفذت نسخها وعند طبعتها الثانية تولاها (دار القلم) - مشكورة - راجعت هذه البحوث فأصلحت ما وقع فيها
من أخطاء في الطبعة الأولى من الأخطاء المطبعية وعدلت العبارات في بعض المواضع إصلاحا لبعض التسامحات التي وقعت في أصل البحث وقد أضفت إلى أصل بعض البحوث فوائد جديدة كما أضفت بحثين جديدين: الأول: أحكام الودائع المصرفية، والثاني: أحكام الذبائح واللحوم المستوردة.
هذا، وإن معظم المسائل المدروسة في هذه البحوث مسائل جديدة تحتاج إلى دراسة متقنة واستنباط عميق، وتعرض لاختلاف بعض الآراء والأنظار ولم آل جهدا في تحقيقها وتنقيرها، وفي مراجعة ما يتعلق بها من الأصول الشرعية والنصوص الفقهية ولكن لا عصمة إلا لرسل الله تعالى فإن كان ما أثبته صوابا فهو توفيق من الله ﷾، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان، ورحم الله تعالى أمرا نبهني على ما وقع فيها من خطأ،
1 / 6
وأسأل الله العلي القدير أن يجعل هذه الدراسات خالصة لوجهه الكريم وينفع بها الطالبين ويجعلها ذخرا لمؤلفها يوم لا ينفع مال ولا بنون إنه تعالى على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير وله الحمد أولا وآخرًا.
محمد تقي العثماني
دار العلوم كراتشي ١٤
باكستان
1 / 7
..
1 / 8
(١)
أحكام البيع بالتقسيط
بحث عرض على مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من (١٧) إلى (٢٣) شعبان (١٤١٠) الموافق (١٤) إلى (٢٠) مارس عام (١٩٩٠) م.
1 / 9
..
1 / 10
بسم الله الرحمن الرحيم
أحكام البيع بالتقسيط
وسائله المعاصرة في ضوء الفقه الإسلامي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فإن البيع بالتقسيط من البيوع التي قد شاع تداولها في عصرنا الحاضر في جميع البلدان الإسلامية، وهو البيع الذي يلجأ إليه كثير من الناس لشراء حاجاتهم، وتأثيث منازلهم، والتمتع بالآلات الحديثة الغالية التي لا يمكن لهم شراؤها بثمن حال.
فمست الحاجة إلى بيان الحكم الشرعي لهذا البيع، وما يتفرع عليه من مسائل مختلفة، وإن هذا البحث الموجز يهدف إلى إنجاز هذه الحاجة، والله ﷾ أسأل أن يوفقني فيه للسداد والصواب، ويشرح صدري لما فيه رضاه ﷿.
حقيقة البيع بالتقسيط:
البيع بالتقسيط بيع بثمن مؤجل يدفع إلى البائع في أقساط متفق عليها، فيدفع البائع البضاعة المبيعة إلى المشتري حالّة، ويدفع المشتري الثمن في أقساط مؤجلة، وإن اسم (البيع بالتقسيط) يشمل كل بيع بهذه الصفة سواء كان الثمن المتفق عليه مساويا لسعر السوق، أو أكثر منه، أو أقل، ولكن المعمول به في الغالب أن الثمن في (البيع بالتقسيط) يكون أكثر من سعر تلك البضاعة في السوق، فلو أراد رجل أن يشتريها نقدا، أمكن له أن يجدها في السوق بسعر أقل ولكنه حينما يشتريها بثمن مؤجل
1 / 11
بالتقسيط، فإن البائع لا يرضى بذلك إلا أن يكون ثمنه أكثر من ثمن النقد، فلا ينعقد البيع بالتقسيط عادة إلا بأكثر من سعر السوق في بيع الحال.
زيادة الثمن من أجل التأجيل:
ومن هنا ينشأ السؤال: هل يجوز أن يكون الثمن المؤجل أكثر من الثمن الحال؟ وقد تكلم الفقهاء في هذه المسألة قديما وحديثا، فذهب بعض العلماء إلى عدم جوازه، لكون الزيادة عوضا من الأجل، وهو الربا، أو فيه مشابهة للربا، وهذا مذهب مروي عن زين العابدين علي بن الحسين، والناصر والمنصور بالله، والهادوية، كما نقل عنهم الشوكاني ﵀ (١)
أما الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء والمحدثون، فقد أجازوا البيع المؤجل بأكثر من سعر النقد، بشرط أن يبت العاقدان بأنه بيع مؤجل بأجل معلوم، وبثمن متفق عيه عند العقد، فأما إذا قال البائع: أبيعك نقدا بكذا ونسيئة بكذا، وافتراقا على ذلك، دون أن يتفقا على تحديد واحد من السعرين، فإن مثل هذا البيع لا يجوز، ولكن إذا عين العاقدان أحد الشقين في مجلس العقد، فالبيع جائز. يقول الإمام الترمذي ﵀ في جامعه: تحت حديث أبي هريرة ﵁: نهى رسول الله ﷺ عن بيعتين في بيعة، وقد فسر بعض أهل العلم قالوا: بيعتين في بيعة أن يقول: (أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، فإن فارقه على أحدهما، فلا بأس، إذا كانت العقدة على أحد منهما) (٢) .
_________
(١) نيل الأوطار: ٥/١٢٩.
(٢) جامع الترمذي، كتاب البيوع، باب ١٨، حديث ١٣٣١: ٣/٥٣٣، طبع بيروت.
1 / 12
وحاصل قول الإمام الترمذي رحمه الله تعالى: أن علة النهي عن هذا البيع إنما هو تردد الثمن بين الحالتين، دون أن تتعين إحداهما عند العقد، وهذا يوجب الجهالة في الثمن، وليس سبب النهي زيادة الثمن من أجل التأجيل، فلو زالت مفسدة الجهالة بتعيين إحدى الحالتين فلا بأس بهذا البيع شرعا.
وإن ما ذكره الإمام الترمذي ﵀، هو مذهب الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء (١)، وهو الراجح بالدليل، لأنه ليس في القرآن والسنة ما يمنع جواز مثل هذا البيع، وإن تعريف الربا لا ينطبق على هذه الزيادة في الثمن، لأنه ليس قرضا، ولا بيعا للأموال الربوية بمثلها، وإنما هو بيع محض، وللبائع أن يبيع بضاعته بما شاء من ثمن، ولا يجب عليه أن يبيعها بسعر السوق دائما، وللتجار ملاحظ مختلفة في تعيين الأثمان وتقديرها فربما
تختلف أثمان البضاعة الواحدة باختلاف الأحوال، ولا يمنع الشرع من أن يبيع المرء سلعته بثمن في حالة، وبثمن آخر في حالة أخرى.
وبالتالي: فإن من يبيع البضاعة بثمانية نقدا، وبعشرة نسيئة، يجوز له الإجماع أن يبيعها بعشرة نقدا، ما لم يكن فيه غش أو خداع، فلم لا يجوز له أم يبيعها بالعشرة نسيئة؟ وبما أن هذه المسألة متفق عليها فيما بين المذاهب الأربعة المتداولة، وبين أكثر الفقهاء والمحدثين، فلا نريد الإطالة في بيان دلائلها من الكتاب والسنة، بل نريد أن ننطلق في هذا البحث على أساس جواز هذا البيع، ونذكر بعض التفاصيل والمسائل المتفرعة على هذا الجواز.١- الجزم بأحد الثمنين شرط للجواز:
قد تبين فيما سبق أنه لا بأس
_________
(١) . راجع المغني، لابن قدامة:٤/٢٩٠؛والمبسوط، للسرخسي:١٣/٨؛والدسوقي على الشرح الكبير:٣/٥٨؛ومغني المحتاج للشربيني: ٢/٣١.
1 / 13
للبائع أن يذكر الأثمان المختلفة عند المساومة، فيقول: أبيعه نقدا بثمانية، ونسيئة بعشرة، وهل يجوز أن يذكر أثمانا مختلفة باختلاف الآجال، مثل أن يقول: أبيعه إلى شهر بعشرة، وإلى شهرين باثني عشر مثلا؟ لم أر في ذلك تصريحا من الفقهاء، وقياس قولهم السابق أن يجوز ذلك أيضا؛ لأنه إذا جاز اختلاف الأثمان على أساس كونها نقدا أو نسيئة، جاز اختلافها على أساس آجال مختلفة، لأنه لا فارق بين الصورتين.
ولكن اختلاف الأثمان هذا إنما يجيز ذكرها عند المساومة، وأما عقد البيع فلا يصح، إلا إذا اتفق الفريقان على أجل معلوم وثمن معلوم، فلا بد من الجزم بأحد الشقوق المذكورة في المساومة.
فلو قال البائع مثلا: إن أديت الثمن بعد شهر، فالبضاعة بعشرة، وإن أديته بعد شهرين، فهو باثني عشر، وإن أديته بعد ثلاثة أشهر، فهو بأربعة عشر، وافترقا على ذلك بدون تعيين أحد هذه الشقوق، زعما من المشتري أنه سوف يختار منها ما يلائمه في المستقبل، فإن هذا البيع حرام بالإجماع. ويجب على العاقدين أن يعقداه من جديد بتعيين أحد الشقوق واضحا.
٢ - إنما الجائز زيادة في الثمن، لا تقاضي الفائدة:
ومما يجب التنبيه عليه هنا: أن ما ذكر من جواز هذا البيع إنما هو منصرف إلى زيادة في الثمن نفسه، أما ما يفعله بعض الناس من تحديد ثمن البضاعة على أساس سعر النقد، وذكر القدر الزائد على أساس أنه جزء من فوائد التأخير في الأداء، فإنه ربا صراح، وهذا مثل أن يقول البائع: بعتك هذه البضاعة بثماني ربيات نقدا، فإن تأخرت في الأداء إلى مدة شهر، فعليك ربيتان علاوة على الثمانية، سواء سماها "فائدة " (Interest) أو لا، فإنه لا شك في كونه معاملة ربوية، لأن ثمن البضاعة إنما تقرر كونه ثمانية، وصارت هذه الثمانية دينا في ذمة المشتري، فما يتقاضى عليه البائع من الزيادة فإنه ربا لا غير.
1 / 14
والفرق العملي بين الصورتين، أن ما تصور كونه ثمنا في الصورة الأولى، صار ثمنا باتا بعد جزم الفريقين بأحد الشقوق، ولا يزيد هذا الثمن بعد تمام البيع ولا ينقص باختلاف أحوال المشتري في الأداء فلو كان المشتري اشترى البضاعة بعشرة على أنه سيؤدي الثمن بعد شهر، ولكنه لم يتمكن من الأداء إلا بعد شهرين، فإن الثمن يبقى عشرة كما هو، ولا يزيد بزيادة مدة الأداء الفعلي، وأما في الصورة الثانية، فالثمن ثمانية، وما يزيد عليه فائدة تطالب من أجل التأخير في الأداء، فلا تزال تزيد الفائدة كلما يطول التأخير، فتصير ربيتين في شهر، وأربع ربيات في شهرين، وهكذا، فالصورة الأولى نوع من أنواع البيع الحلال، والصورة الثانية داخلة في الربا المحرم شرعا.
٣- توثيق الدين وأنواعه:
وبما أن الثمن في البيع المؤجل يصير دينا على المشتري فور تمام العقد، فإنه يجوز للبائع أن يطالبه بتوثيق لهذا الدين، أو بضمان للتسديد عند حلول الأجل.
الرهن:
أما ضمان التسديد، فيمكن بطريق الرهن، أو بكفالة من الطرف الثالث، وفى الصورة الأولى يرهن المشتري شيئا من ممتلكاته لدى البائع، ويحق للبائع أن يمسكه كضمان للتسديد، بدون أن ينتفع به في صورة من الصور، لأن الانتفاع بالمرهون شعبة من شعب الربا، ولكن يبقى الشىء المرهون بيد البائع لضغط المشتري على الاهتمام بأداء الأقساط في موعدها، وليحق له إذا قصر المشتري في الأداء عند حلول الأجل، أن يبيع الشيء المرهون ويسدد دينه بذلك، ولكن لا يجوز له أن يتجاوز عن الثمن المتفق عليه في العقد، فإن فضل من قيمة الشيء المرهون شيء بعد تسديد الدين رده إلى المشتري الراهن، وكما يجوز رهن الأعيان المملوكة للمشتري كذلك يجوز رهن مستندات الملكية لتلك الأعيان.
1 / 15
إمساك البائع المبيع لضمان التسديد:
وقد اطلعت على صورة من المعاملات المعاصرة الجارية بين الناس، وهي أن البائع في البيع المؤجل يمسك المبيع عنده إلى أن يتم التسديد من قبل المشتري، أو إلى أن يتم تسديد بعض الأقساط.
وإن إمساك المبيع بيد البائع في هذه الصورة يمكن أن يتصور بطريقتين:
الأول: أن يكون على أساس حبس المبيع لاستيفاء الثمن.
والثانى: أن يكون بطريق الرهن، والفرق بين الصورتين أن المبيع المحبوس عند البائع مضمون عليه بالثمن، لا بالقيمة، فلو هلك المبيع وهو محبوس عنده، ينفسخ البيع، ولا يكون مضمونا عليه بقيمته السوقية، أما في الرهن، لو هلك عند البائع بغير تعد منه، لا ينفسخ البيع، بل يضمنه المرتهن بأقل من قيمته ومن الدين عند الحنفية (١) وإذا هلك بتعد منه، يضمنه المرتهن بقيمته السوقية، لا بالثمن.
فأما الطريق الأول، وهو حبس البائع المبيع لاستيفاء الثمن، فإنه لا يجوز في البيع بالتقسيط، لأن البيع بالتقسيط بيع مؤجل، وإن حق البائع في حبس المبيع لاستيفاء الثمن إنما يثبت في البيوع الحالة، وليس له ذلك في البيوع المؤجلة، جاء في الفتاوى الهندية:
(قال أصحابنا رحمهم الله تعالى: للبائع حق حبس المبيع لاستيفاء الثمن إذا كان حالا، كذا في المحيط، وإن كان مؤجلا فليس للبائع أن يحبس المبيع قبل حلول الأجل ولا بعده، كذا في المبسوط) (١) .
_________
(١) بدائع الصنائع:٦/١٦٠.
(٢) الفتاوى الهندية: ٣/١٥، باب ٤، من كتاب البيوع.
1 / 16
وأما الطريق الثاني، وهو أن يمسك البائع المبيع عنده بصفة كونه رهنا من المشتري بالثمن الواجب في ذمته، فإنه يمكن بطريقين أيضا:
الأول: أن يرهنه المشتري قبل أن يقبضه من البائع، فهذا لا يجوز أيضا، لأنه في معنى حبس المبيع عند البائع لاستيفاء الثمن، وذلك لا يجوز في البيوع المؤجلة، كما ذكرنا.
والثاني: أن يقبضه المشتري من البائع أولا، ثم يرده إليه بصفة كونه رهنا، فهذا جائز عند أكثر الفقهاء رحمهم الله تعالى، قال الإمام محمد في الجامع الصغير: (ومن اشترى ثوبا بدراهم، فقال للبائع: أمسك هذا الثوب حتى أعطيك الثمن، فالثوب رهن) . ونقله المرغيناني في الهداية، وقال شارحها في الكفاية: (لأن الثوب لما اشتراه وقبضه، كان هو وسائر الأعيان المملوكة سواء في صحة الرهن) (١) .
وذكر الحصكفي هذه المسألة في الدر المختار، وأوضحها بقوله: (ولو كان ذلك الشيء الذي قال له المشتري: أمسكه، هو المبيع الذي اشتراه بعينه، لو بعد قبضه، لأنه حينئذ يصلح أن يكون رهنا بثمنه، ولو قبله لا يكون رهنا، لأنه محبوس بالثمن) . وقال ابن عابدين تحته: (قوله: " لأنه حينئذ يصلح ... إلخ "، أي لتعيين ملكه فيه، حتى لو هلك يهلك على المشتري، ولا ينفسخ العقد، قوله: " لأنه
_________
(١) الكفاية شرح الهداية بهامش فتح القدير: ٩/٩٩.
1 / 17
محبوس بالثمن "، أى وضمانه يخالف ضمان الرهن، فلا يكون مضمونا بضمانين مختلفين، لاستحالة اجتماعهما، حتى لو قال: أمسك المبيع حتى أعطيك الثمن قبل القبض، فهلك، انفسخ البيع، زيلعي) (١) .
والذي يظهر أن جواز مثل هذا الرهن ليس فيه خلاف بين الفقهاء المتبوعين إذا لم يكن هذا الرهن مشروطا في صلب عقد البيع، أما إذا كان مشروطا في صلب العقد فقد حكى ابن قدامة ﵀: (وإذا تبايعا بشرط أن يكون المبيع رهنا على ثمنه، لم يصح، قال ابن حامد ﵀، وهو قول الشافعي، لأن المبيع حين شرط رهنه لم يكن ملكا له، وسواء شرط أنه يقبضه ثم يرهنه، أو شرط رهنه قبل قبضه ... وظاهر الرواية صحة رهنه ... فأما إن لم يشترط ذلك في البيع، لكن رهنه عنده بعد البيع، فإن كان بعد لزوم البيع، فالأولى صحته، لأنه يصح رهنه عند غيره، فصح عنده كغيره، ولأنه يصح رهنه على غير ثمنه، فصح رهنه على ثمنه، وإن كان قبل لزوم البيع انبنى على جواز التصرف في المبيع، ففي كل موضع جاز التصرف فيه وجاز رهنه، ومالا فلا، لأنه نوع تصرف فأشبه بيعه) (١) .
الرهن السائل: وهناك نوع آخر من الرهن يوجد في قوانين كثير من البلاد الإسلامية، لا يقبض فيه المرتهن على الشيء المرهون، وإنما يبقى
_________
(١) . رد المحتار مع الدرالمختار، كتاب الرهن: ٦/٤٩٧، طبع كراتشي.
(٢) . المغني، لابن قدامة: ٤/٤٢٧ و٤٢٨، كتاب الرهن، دار الكتاب العربي، بيروت ١٣٩٢هـ.
1 / 18
بيد الراهن، ولكن يحق للدائن إذا قصر المدين في الأداء أن يطالب ببيعه وتسديد دينه من حصيلة بيعه، وهذا النوع من الرهن يسمى أحيانا (الرهن الساذج) (SIMPLE MORTGAGE) وأحيانا: (الذمة السائلة) (FLOTING CHARGE) وهذا مثل أن يرهن المدين سيارته لدي الدائن، ولكن تبقى السيارة بيد المدين الراهن يستعملها لصالحه كيف يشاء، ولكن لا يجوز له نقل ملكيته إلى شخص ثالث حتى يفتك الرهن السائل بتسديد الدين، ويثبت للدائن المرتهن حق في بيعها إذا قصر صاحبها في أداء دينه، وإن هذا الحق يسمى (الذمة السائلة) (FLORTING CHARGE) فهل يجوز شرعا توثيق الدين بهذا النوع من الرهن؟ وربما يقع الإشكال في جوازه من الناحية الفقهية، أن معظم الفقهاء قد اشترطوا قبض المرتهن لصحة عقد الرهن أو لتمامه على أساس قوله تعالى: ﴿فرهان مقبوضة﴾ [البقرة: ٢٨٣] . وفي (الرهن السائل) لا يقبض المرتهن على الشيء المرهون، فينبغي أن لا يصح هذا الرهن.
والواقع أن الفقهاء، وإن اشترطوا قبض المرتهن للشيء المرهون، ولكنهم في الوقت نفسه أجازوا بعد ذلك للراهن أن يستعير ذلك الشيء منه، وينتفع به لصالحه، ولا يفسد بذلك الرهن، بل يحق للمرتهن أن يسترده متى شاء، ولئن هلك الشيء المرهون عند الراهن، فإنما يهلك على مكة، ويحق للمرتهن أن يبيعه لتسديد دينه عند حلول الأجل، ولا يكون فيه أسوة لسائر الغرماء عند إفلاس الراهن أو موته. وقد جاء في الهداية للمرغيناني: (وإذا أعار المرتهن الرهن للراهن ليخدمه أو ليعمل له عملا، فقبضه، خرج من ضمان المرتهن، لمنافاة بين يد العارية ويد الرهن، فإن هلك في يد الراهن هلك بغير شيء، لفوات القبض المضمون، وللمرتهن أن يسترجعه إلى يده، لأن عقد
1 / 19
الراهن باق، لا في حكم الضمان في الحال، ألا ترى أنه لو هلك الراهن قبل أن يرده على المرتهن، كان المرتهن أحق به من سائر الغرماء، وهذا لأن يد العارية ليست بلازمة، والضمان ليس من لوازم الرهن على كل حال) (١) .
ولكن هذا إذا تم عقد الراهن بقبض المرتهن مرة، أعارة المرتهن للراهن، أما إذا لم يقبض المرتهن الرهن أصلا، فهل يثبت حكم الإعارة في تلك الصورة أيضا؟ الظاهر من عبارات الفقهاء أنه لا يثبت ذلك في تلك الصورة بناء على اشتراط القبض لصحة الرهن، ولكن هاهنا ملاحظ أذكرها لتأمل الفقهاء المعاصرين، وهي:
١ - إن المرتهن في (الرهن السائل) وإن كان لا يقبض الشيء المرهون، ولكنه في عموم الأحوال يقبض على مستندات ملكيته، فيحتمل أن يقال: إن الرهن قد تم بقبض المستندات، ثم صار الشيء المرهون كالعارية في يد الراهن.
٢ - إن علة اشتراط القبض في الرهن، كما ذكر الفقهاء، هو تمكن المرتهن من تسديد دينه ببيع ذلك الشيء عند الحاجة، وإن هذا المقصود حاصل في " الرهن السائل " على أساس شروط الاتفاقية المعترف بها قانونا، فيحتمل أن يكون القبض الحسي غير لازم في الصورة المذكورة، لحصول المقصود بهذه الشروط المقررة.
٣ - المقصود من الرهن هو توثيق الدين، وقد أجازت الشريعة لحصول هذا المقصود أن يحبس الدائن ملك المديون ويمنعه عن التصرف فيه إلى أن يتم تسديد الدين، فإن رضي الدائن بحصول مقصوده بأقل من ذلك، وهو أن يبقي العين المرهون بيد الراهن، ويبقى للمرتهن حق
_________
(١) الهداية مع فتح القدير: ٩/١١٦؛ وراجع أيضا: رد المحتار: ٦/٥١٠ و٥١١.
1 / 20