Research Methods in Language
مناهج البحث في اللغة
خپرندوی
مكتبة الأنجلو المصرية
ژانرونه
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
جيلنا هذا الذي نعيش فيه، من أقل الأجيال المصرية حظا من الدعة والراحة والطمأنينة؛ لأن المرحلة التاريخية التي يمر بها هذا الجيل، تتطلب منه أقصى غايات اليقظة، ومنتهى آماد الجهد، لقد عاشت مصر قرونا طويلة في ظل الاستعباد، والخوف، والجهل، وفقدان الثقة بالنفس، فكانت الأجيال التي عاشت في هذه القرون تألف الاستعباد فلا تتعلق بالحرية، وترضخ للخوف فتعزف عن التعبير، ويغمرها الجهل فلا تبتكر في العلم، وتعوزها الثقة بالنفس فلا تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام.
ذلك الطابع السلبي في الحياة المصرية، كان صفة غالبة في كل مجالات النشاط الفردي والاجتماعي؛ فقد المصري الاعتداد بالنفس في السياسة، فساسه كل طامع حتى المماليك، وفقد اعتداده بنفسه في العلم، فرضي بالقابلية دون الفاعلية: القابلية التي تقنع من المجهود العلمي بترديد آراء السلف، دون الإضافة إليها، والفاعلية المنتجة التي لا يستغنى عنها شعب يريد الحياة لنفسه، وفقد الاعتداد بالنفس في الحرب، فأصبحت جيوش مصر من غير أبناء مصر، وفقد الاعتداد بالشعب، فلم تقم في مصر ثورة واحدة، ذات خطر طوال هذه الآماد الطويلة، التي مرت على مصر المستعبدة الخاضعة.
ثم هبت على مصر ريح جديدة شعبية وطنية، فنفخت في الصور، وهب الراقدون من موتهم حيارى في هذا الفزع الأكبر، لا يدرون أي طريق يسلكون ولا أي سبيل يقودهم إلى النجاة والفلاح، وتشعبت المسالك أمام الشعب بعد أن تثاءب، وتمطي ونفض عن نفسه غبار الموت، فوجد أمامه طريقا في الماضي يقوده إلى التراث العربي الخصب، ورأى أنه لو بعث هذا التراث، وأحياه لكان دافعا
1 / 3
لعزة جديدة لا تقل روعة عن التاريخ العربي نفسه، ووجد أمامه طريقًا في المستقبل، معالمه ما في أيدي الأمم من علوم، ومعارف يمكن أن ترقى بمصر إلى مستوى هذه الأمم ذات العلوم والمعارف، ثم رأى أنه لو سلك الطريق الأول فحسب، لا نقطع به التاريخ عن الحياة، ولو سلك الثاني فحسب لانقطعت به الحياة عن التاريخ، ففضل أن يأخذ بنصيب من التراث العربي يوحى إليه بالاعتزاز، ونصيب من الثقافة المعاصرة يمنحه العزة.
إذًا فجيلنا الحاضر نهب بين الشرق والغرب، لا في الثقافة وحدها، وإنما هو كذلك في العادات وطرق المعيشة، وهذه النفس الموزعة بين الشرق، والغرب لا بد أن تكون نفسا قلقة غير ذات استقرار، حائرة تتطلب الهدى، وطموحة تتطلب وحدة الهدف ووضوحه، فإذا أضفنا إلى هذا العنصر من عناصر الحيرة والاضطراب، والقلق أن المقادير قد ألقت على كاهل جيلنا هذا، أخطر تبعة تلقى على الأجيال، ألا وهي تبعة البناء من الأنقاض، وتمهيد الطريق، ووضع معالمه للأجيال القادمة؛ تبين لنا مقدار خطورة هذا الجيل في التاريخ المصري الحديث.
ولست بحاجة إلى أن أنبه إلى أن هذا الجيل أهل للقيام بهذه التبعات، فلقد هدم نظاما كان ثابتا كالطود، وأقام مكانه نظاما أثبت، وأقوى وأصلح، وجيلنا هذا هو الذي هاجم الجدب في الصحراء، والفساد في المجتمع، والرشوة في الحكم، والكسل في العمل، والتسويف في الإصلاح، والبلادة في الضمائر، وسيصل بعون الله إلى نتيجة باهرة لكل هجمة من هذه الهجمات.
نحن إذا في تطور يجب أن يشمل كل مرافق حياتنا، من سياسية إلى علمية إلى اقتصادية إلى حربية إلى اجتماعية إلى غير ذلك، وواجب المصري من هذا الجيل ألا يقنع بما هو كائن، وأن يفكر تفكيرا مضنيا فيما يجب أن يكون، وهذا هو المعنى الذي حفزني إلى أن أحاول هذه المحاولة في تجديد مناهج البحث في اللغة بفروعها المختلفة، وهي محاولة أترك الحكم عليها للقارئ.
ولست أريد أن أنهي القول في هذا التقديم، دون أن أنبه إلى بضع ملاحظات هامة، أولاها اعتذاري عما في هذا الكتاب من أخطاء مطبعية لم آل رغبة في
1 / 4
تجنبها، ولكن الكمال لله وحده، وسيجد القارئ قائمة بتصحيح هذه الأخطاء، فهو مرجو أن يطلع عليها، وأن يثبت كل تصويب منها في موضعه قبل البدء في القراءة.
وثانيتها أنني قد حددت الرموز الأصواتية المستخدمة في دراسة اللغة العربية الفصحى بين صفحتي ٦، ١٣، ولست بحاجة إلى تحديد الرموز الأصواتية للكلمات الإنجليزية، التي وردت في منهج الدلالة؛ لأن كل مثال منها قد صاحبته كتابة الكلمة المرادة بالهجاء العادي، وهذا الهجاء يعين المراد بالكتابة الأصواتية، وقد وردت كلمات من لهجات الكرنك، وعدن والقاهرة في أثناء شرح منهج الأصوات، وكان لا بد من كتابتها بالرموز الأصواتية لهذه اللهجات، ولكن المطبعة العربية فقيرة في هذه الرموز، ولذلك عمدت إلى ما في يدي منها فعلا، فحاولت اسغلاله في كتابة هذه الكلمات، وأظن القارئ سيجد تباينا بين استخدام هذه الرموز من لهجة إلى أخرى، وهو تباين يقتضيه اختلاف النطق بين هذه اللهجات.
وأخيرا أرجو مخلصا أن تكون هذه المحاولة فاتحة محاولات أخرى في دراسة لهجاتنا العامية من جميع نواحيها، ومحاولات في التوسع في دراسة اللغة العربية الفصحى، بطرق البحث الجديدة الموضحة في هذا الكتاب، والله أسأل أن يهدينا إلى سواء السبيل، إنه نعم المولى، ونعم النصير.
تمام حسان.
1 / 5
مقدمة الحاجة إلى منهج للغة:
اللغة أخطر الظواهر الاجتماعية الإنسانية على الإطلاق، وكل تقدم اجتماعي كتب له الكمال إنما تم لوجود اللغة، تصو طائفة من الناس مجتمعة على عمل معين، لا يتم إلا بالتعاون بين أفراد هذه الطائفة؛ فذا التعاون يقتضي توزيعا للعمل بحيث يكون لكل فرد دوره الخاص الذي يقوم به، وبحيث يكون بعض الأفراد موجها، ورئيسا وبعضهم موجها ومرءوسا، وبحيث يلزم أن يتم اتصال من نوع معين بين الرئيس، والمرءوس لصالح العمل، ثم ابحث في خيالك وسوف لا تجد وسيلة للاتصال أنجح في هذا الباب من اللغة، وخير مثال لذلك العمل القائم الآن في كهربة خزان أسوان، والانسجام المطلق في العمل بين عمال المصانع، والتنظيم الدقيق للجهاز الحكومي؛ فكل أولئك أمثلة تتجلى فيها أهمية اللغة، كوسيلة من وسائل الاجتماع، وكأداة من أدوات تنسيق الجهود الفردية، ومزجها في مجهود جمعي عام.
واللغة أخطر رابطة تاريخية، تربط بين الأجيال المختلفة من الشعب الواحد رباطا، يجعل وحدة هذه الأجيال حقيقة ملموسة على رغم اختلاف العصور، ذلك بأن اللغة وعاء التجارب الشعبية والعادات، والتقاليد والعقائد التي تتوارثها الجيال واحدا بعد الآخر، فصفة الاستمرار لكل هذا لا تأتي إلا عن طريق اللغة، تورث معها، وتبقى ببقاء ما يدل عليها من المفردات والتراكيب، وإحساس الخلف بجهة شركة لغوية بينه، وبين السلف كفيل بخلق إحساس بالوحدة الشعبية بينه وبينه.
منذا الذي يستطيع الآن في أي بلد عربي أن يقطع بعروبته الخالصة؟ وهل يستطيع الكثيرون أن يقطعوا بأنهم عرب في أنسابهم، ودمائهم؟ الواقع أن لبعض العرب الآن من العلم بتاريخ عائلته، ما يدعوه إلى الحزم بأنه غير عربي النسب، ولكنه مع ذلك يحس بعروبته، كما يحس صريح العروبة أو أكثر، لماذا؟ لأن العربية لسان
1 / 1
كما ورد في الحديث؛ ولأن رابطة اللغة أقوى من أي رابطة اجتماعية أخرى، حتى إنها لتجعل المعاصرين من المصريين والعراقيين، والسوريين والتونسيين يفخرون في وقتنا هذا بمن غزا مصر والعراق، وسوريا وتونس في التاريخ العربي القديم؛ لأنهم يشعرون أن هؤلاء الغزاة من أسلافهم، وإن لم يكونوا كذلك من جهة النسب.
واللغة سلاح من أقوى الأسلحة النفسية، للسيطرة على الأفكار والأشياء.
وما أمر الدعاية بالخطب والإعلانات بالأمر الهين، وفي الانتخابات النيابية والمحاكمة، غالبا ما يكون الجانب الظافر أقدر الجانبين على استخدام سلاح اللغة، ويغشى المصلون من المساجد، ما تمتع بإمام مجيد لاستخدام هذا السلاح. وقد كانت القدرة على الخطابة في بعض الأحيان، سببا من أسباب الاختيار لعضوية مجلس الوزراء، وليس السحر وأثره على النفوس والأشياء بما يمكن إغفاله في هذا المقام، وحسبنا أنه يفرق بين المرء وزوجه، وأنه يجعل العصا حية تسعى، وكثيرا ما تكون الكلمة ملزمة، كما لو كانت قوة مجبرة، والهزل في نظر الفقه يوقع الطلاق والعتق، والتوقيع على ورقة قد يكون سببا في شقاء أو سعادة، وقد يحول مستقبل شخص ما إلى طريق غير الذي كان يسير فيه. والدعاء يستنزل رحمة السماء أو غضبها، ولقد كان السب في الذات الملكية -وما هو إلا حركات من حركات اللسان- كافيا لإيداع الشاتم في السجن مدة قد تطول أو تقصر، وما كان الشاتم لينزل هذا المنزل الخشن لولا حركات لغوية مماثلة تجري على لسان القاضي، ومن الناس من يشتري السلعة دون حاجة إليها؛ لأن البائع قد نجح في إقناعه بفائدة الصفقة، وتؤثر بلاغة اللغة وجودة الغناء بها في نفوسنا، حتى لنخرج عن المزاج المنقبض إلى المزاج المرح المنبسط. وقد تتصرف ونحن تحت هذا التأثير تصرفا، لا يسهل علينا لو لم نكن تحت تأثير اللغة.
وقديما قالوا: الناس أعداء ما جهلوا. وإنك لترى الشخص الذي لا تعرفه وتجلس معه جنبا إلى جنب في القطار، فلا يهمك من أمر شيء، ولو لقي شدة وهو في حالة هذه لما دفعك دافع على التضحية من أجله، ولكنه إذا كان قد سبق فقدم نفسه إليك، وتحدث معك بعض الوقت، فقد يكون ذلك سببا كافيا من أسباب
1 / 2
اهتمامك له، والبذل من أجله لتخلصه من هذه الشدة، وإنك لتقابل الشخص تعرفه وليس بينك وبينه صادقة، فيتوقف استمراره الصلة على بضع كلمات آلية ترددانها مثل صباح الخير، أو السلام عليكم، أو كيف الحال؟ تقولانها وأنتما لا تقصدان منها غير العمل في إنهاء الموقف، دون إضرار بالمعرفة السابقة، وإذا كان الناس أعداء ما جهلوا، فإن أكثر الأمم جلبا للأصدقاء، هي تلك التي تعمل على تعريف الأمم الأخرى بها، سواء في ماضيها أو في حاضرها، أو في آمالها الطموحة إلى المستقبل، فإذا كانت اللغة خير وسيلة لهذا التعريف، فما أخطر اللغة إذا! لأن الأمة تستطيع أن تكسب الأصدقاء لنفسها، إذا عملت على أن يكثر عدد العالمين بلغتها من الأجانب، وكل أجنبي يتعلم لغتك مكسب لك؛ لأنه يجد نفسه أكثر استعدادا للشعور، كما تشعر والتفكير كما تفكر، ويعطف على آمالك وآلامك التي تعلمها من قراءة لغتك، والكلام بها.
فطن الأوربيون إلى ذلك منذ زمن بعيد؛ فأنشأوا مدارس لهم في البلاد الأجنبية تعلم لغاتهم؛ فكانت لغاتهم أول سلاح من أسلحة السيطرة على البلاد، التي استعمروها؛ لأن اللغة كانت القنطرة، التي عبرت عليها المسيحية من عقل الأوروبي إلى قلب الأفريقي والأسيوي، كما كان الإسلام من قبل يسير جنبا إلى جنب مع اللغة العربية، ولعل المجلس البريطاني قد كسب لانجلترا من الأصدقاء، ما لم تحلم به سفاراتها وبعثاتها السياسية.
فإذا كان للغة هذا الخطر على نفس المواطنين، والجانب فحري بدراستها أن تكون محل عناية، وموضع اهتمام، ولقد حاربنا المستعمرون قديما بأن غرسوا في نفوسنا احتقار اللغة العربية؛ فأفقدونا ثقتنا بأنفسنا وبتاريخنا ومستقبلنا، وأصبح الكلام بلغتنا موضع تندر، وتكلمت الأسرات العريقة إحدى اللغات الأجنبية تركية كانت، أم فرنسية أم غير ذلك، وولغ الناس في سمعة مدرس اللغة العربية، كما يعتدون على سمعة كل طائفة قليلة الدخل، ولحقت عدوى احتقار اللغة طائفة المحامين في مبدأ نشأتها، ولا تزال تلحق طائفة المسرحيين من الممثلين في بعض الأوساط، ولكن وزارة المعارف قد عملت في ربع قرن على أن تداوي بعض
1 / 3
هذه الأدواء، وعلى رفع مستوى اللغة العربية من الناحية النفسية، ففخر الناس بها، وتكلموها، وأعطوها حظا أكبر من العناية، ولكن وزارة المعارف -برغم رفعها مستوى اللغة العربية من الناحية النفسية- خضعت للظروف السياسية، فهبطت بمستوى اللغة من الناحية الدراسية، ونتج عن ذلك أن انخفض المستوى التعليمي العام؛ لأن اللغة وهي أكبر وسيلة من وسائل التعليم، ترتفع بمستوى التعليم إذا ارتفع مستواها، وتنخفض به إذا انخفض مستواها.
وعلى هذه الدعوى الأخيرة، أريد أن أبني دعوى أخرى، هي أن خير التلميذين تقبلا للعلم أكثرهما معرفة باللغة التي يتعلم بها؛ وأكثر اللغتين جلبا لأصدقاء الأمة من الأجانب، تلك التي تسهل دراستها، وتقوم على منهج مقبول.
ولقد منيت الدراسات اللغوية العربية مدة طويلة بسمعة الصعوبة، وأحيانا بسمعة التعقيد، يشهد بذلك تلاميذ المدارس من جهة؛ وهؤلاء الذين لم يتخصصوا في اللغة من جهة أخرى، والجانب المستشرقون من جهة ثالثة، ولعل نعت الدراسات العربية هذه النعوت، إنما جاءها لعدم التجديد في منهجها؛ فما ورثناه عن آبائنا من خلط في التفكير اللغوي، لا يزال كما هو لسببين: أولهما الاعتقاد بأن الأوائل قد أتوا بما لا يمكن أن يزيد عليه الأواخر، "وتلك نظرة جعلت الأتراك في مرحلة من المراحل يقفلون باب الاجتهاد، أو بعبارة أخرى يحرمون البحث العلمي تحريما تاما"، والسبب الثاني ضيق النظرة إلى اللغة العربية، واعتبارها مرتبطة بالقرآن احتراما أو امتهانا، وقد أدى ذلك إلى قطع الصلة بينها وبين اللهجات العربية الأخرى القديمة والمعاصرة، وإلى تحريم الترخيص بالإضافة إلى محصولها، حتى إن بعضهم ليلزم استعمال ما جاء في المعاجم فحسب، ولا يسمح للوليد من الكلمات أن يدخل حظيرة الاستعمال اللغوي.
ولم يعدم العالم العربي في مختلف العصور، من يدعو إلى التجديد في منهج الدراسات اللغوية؛ ولعل أول محاولة لها خطرها في هذا الباب، هي محاولة ابن مضاء الأندلسي الظاهري المذهب، الذي دعا إلى اعتبار ما هو مستعمل فحسب من سيغ اللغة، دون الحاجة إلى التقدير والتعليل، وقد كثرت هذه المحاولات في العصر الحديث؛
1 / 4
حتى إن بعض هذه المحاولات، جاءت من أكثر الهيئات الثقافية محافظة على القديم وغيرة عليه، ألا وهي الأزهر، على أن هذه المحاولات قامت دائما على الذكاء، والاجتهاد الشخصيين ولم تقم على فلسفة لها عمقها في فهم اللغة. ولست أدعي لنفسي قسطا من الذكاء الشخصي، أكبر من حظ هؤلاء الذين قاموا بهذه المحاولات، بل إنني لا أسمح لنفسي -وهم أساتذتي الأجلاء- أن أساوي ذكائي بذكائهم الذي أشهد لهم به، ولكنني لا أستطيع أن أغمط حق النظرية، التي بنيت عليها هذه الدراسة، وهي نظرية جاءت نتيجة تجارب القرون في الغرب، فهيكلها غربي، وتطبيقها على اللغة العربية هو القسط الذي أنا مسئول عنه في هذا الكتاب.
ولقد جئت في هذا الكتاب بشرح مناهج الفروع الرئيسية في الدراسات اللغوية، وكم كنت أود أن يتسع الزمان، والمكان لدراسة فصول ثلاثة أخرى هي:
١- التركيب والتحليل في اللغة.
٢- المستوى الصوابي والمجتمع اللغوي.
٣- الأبجدية "وظيفتها وتاريخها وإصلاحها"، ولعل المستقبل كفيل بأن أخصص لهذه الفصول الثلاثة مجلدا مستقلا، أقوم فيه على شرحها.
ويقوم تطبيق النظرية في هذا الكتاب على اللغة العربية الفصحى أولا، وقبل كل شيء، وحين يقضي المقام بالتمثيل من اللهجات العامية، يجد القارئ أن معظم الأمثلة، قد جاءت من لهجة الكرنك بمديرية قنا، وقد درستها لرسالتي التي حصلت بها على الماجستير من جامعة لندن، ولهجة عدن في جنوب بلاد العرب، وقد حصلت بدراستها على الدكتوراه من نفس الجامعة، فأما ما عدا ذلك من ذكر لهجات أخرى، فأمثلته مقتبسة من بطون المراجع، أو من ذاكرتي السمعية.
وتبدو الحاجة ملحة في أيامنا هذه إلى بناء الدراسات اللغوية على منهج له فلسفته، وتجاربه إراء للروح العلمية الخالصة من جهة، وتوفيرًا لجهود عشاق اللغة من جهة أخرى، فقارئ اللغة العربية في الوقت الحاضر، يجد نفسه أمام أمشاج من الأفكار غير المتناسبة يأتي بعضها من المنطق، وبعضها الآخر من الميتافيزيقا، وبعض ثالث من الأساطير، ورابع من الدين وهلم جرا، ومن هنا كانت الرغبة ملحة إلى تخليص منهج اللغة من هذه العدوى، حتى يسلم لقارئ اللغة نص في اللغة واللغة فحسب، غير
1 / 5
معتمد على أسس من خارجها، تلك هي الرغبة التي أملت هذا الكتاب، وستملي غيره إن شاء الله. وكم أود أن يمنح المجمع اللغوي هذا النوع من الدراسات قسطا من العناية بعد أن بدأت الجامعات في الاحتفال به، وكم أود أيضا أن يتسع صدر الجامعة، وكيسها لإنشاء معامل لهذه الدراسة في كلية دار العلوم وغيرها؛ وسوف لا يكلفها ذلك كثيرا من المال، وفي دار العلوم الآن نواة لهذا المعمل لا ننتفع بها، لعدم وجود أجزاء أخرى متكاملة معها، والله ﷾ أسأل أن ينفع بهذا الكتاب؛ وأن يوفقنا إلى أن نتبعه ما وعدنا به من فصول أخرى عن اللغة، إنه سميع مجيب.
المؤلف.
1 / 6
تعريف بالرموز المستعملة في هذا الكتاب:
لا تكفي رموز الأبجدية العربية بنفسها للقيام بدراسة أصواتية لا للغة العربية الفصحى، ولا لأي لهجة من اللهجات العامية، ذلك؛ لأن رموز هذه الأبجدية قاصرة قصورا عظيما من وجهة نظر العلل، وقصورا أقل شأنا من وجهة نظر الصحاح.
أما من جهة العلل، فلم تعن الأبجدية العربية بها لا من الناحية الأصواتية، ولا من الناحية التشكيلية؛ بل جعلت لها رموزا إضافية تابعة لرموز الصحاح، وتدل على الحرف أكثر مما تدل على الصوت، وحسبنا أن نعلم أن الفتحة القصيرة مثلا ذات أصوات ثلاثة في العربية الفصحى أحدهما مفخم، وثانيها أقل تفخيما، وثالثها مرقق ومع ذلك لم يعن واضعوا الرموز العربية بهذا؛ بل وضعوا لكل أولئك خطا يوضع فوق رمز الحرف الصحيح، قلما يستعمل في أيامنا هذه إلا في ظروف خاصة، ومواقف معينة، ولكن رموز الأبجدية العربية للصحاح، إن قصرت عن غرض هذا الكتاب، وهو الدراسة المفصلة للقيم الأصواتية في الحرف الواحد، فلن تقصر عن الأغراض العملية، التي خلقت من أجلها؛ بل إن المرء ليستطيع أن يدعي أن الأبجدية العربية، ربما كانت من أوفى النظم الكتابية في العالم بالغرض الذي وضعت له، ذلك بأنها تضع لكل حرف من حروفها رمزا كتابيا خاصا، وهو أمر لا يستطيع كثير من لغات العالم أن يفاخر به.
فرق إذا بين أن نضع رموزا للأصوات، وأن نضع رموزا للحروف فالأصوات في كل لغة من لغات العالم أكثر من الحروف، ومن هنا يتحتم أن تكون رموز الأولى أكثر من رموز الثانية، وإذا كانت رموز الحروف ثابتة العدد؛ لأن عدد الحروف لا يزيد، ولا ينقص فإن رموز الأصوات ليست كذلك، وليس تغير عدد رموز الأصوات نتيجة لتغير عدد الأصوات نفسها، كما قد يبدو من سياق الكلام، فعدد الأصوات ثابت أيضا، ولكن الزيادة والنقص في هذه الرموز، إنما تأتي من إرادة واضعها أن يمثل الكثير من صفاتها، فيضع له الكثير من الرموز، أو أن يكتفي
1 / 7
بالصفات الهامة فحسب، فيضع لها رموزا أقل فأقل مايدل عليه الرمز المنفصل هو الاختلاف في المخرج، أو في الشدة والرخاوة، والتركيب والتوسط أو في الجهر والهمس؛ ولكن الباحث قد يريد أو يبين أمورا إضافية في النطق كالتفخيم والترقيق، وكالإجهار والإهماس، وكالتحليق والإطباق والتغوير وكالهمز، وكالشدة الأنفية، فيضيف إلى الرمز ما يوضح هذه الملامح الإضافية فيه، ومن هنا تكثر رموز الأصوات بحسب هذه الإضافة.
ووضع الرموز اصطلاح لا أكثر ولا أقل، أي أن العلاقة بين الرمز ومدلوله علاقة اعتباطية، لا منطقية ولا طبيعية، ووضع الرمز ككل نواحي الاصطلاح بحاجة إلى الإيضاح قبل الاستعمال؛ فيوضح صاحب الاصطلاح معناه، وقيمته حتى لا يوجد حيرة القارئ في تطبيقه واستعماله، يقول شوخارت١: "للحيرة في تطبيق الاصطلاح من الأثر على البحث العلمي، ما للضباب على الملاحة، بل هي أكثر خطرا؛ لأن الناس قلما يحسون بوجودها". ومن هنا أرى لزاما علي -وعلى كل من يستعمل الاصطلاحات الجديدة على القارئ- أن نقدم بين يدي القارئ تعريفا بها، وتحديدا لها، وإنما اكتفيت في هذا المقام بتحديد الرموز؛ لأنني قد أتيت مع الاصطلاحات الأخرى، بتحديد جاء في عرض القول، وفيما يأتي إيضاح للرموز الأصواتية المستعملة في هذا الكتاب.
_________
١ Ulman. p. ٤.
1 / 8
رموز الأصوات:
"b": يدل هذا الرمز على صوت شفوي شديد، مجهور هو صوت الباء، وقد يرد للباء أكثر من صوت واحد من جهة التفخيم والترقيق، والإجهار، والإهماس في اللهجات العامية، ولكننا اكتفينا بهذا الرمز ليدل على كل هذه الاحتمالات، لعدم تأثيرها تأثيرًا ذا خطر على المعنى.
1 / 9
رموز الحروف
...
1 / 13
استقلال المنهج اللغوي:
سوف يرى من يتتبع تاريخ الدراسات اللغوية، أن هذه الدراسات كانت جزءًا لا يتجزأ من التفكير الفلسفي القديم، وسوف يرى قارئ الفلسفة اليونانية، أن هذه الفلسفة قد افترضت اللغة اليونانية مقياسًا للغات العالم، وبنت على ذلك اعتقادات تخطئه الدراسات اللغوية الحديثة، هو أن دراسة اللغة اليونانية في تراكيبها، وطرقها صادقة على كل لغات العالم؛ إذ أن هذه اللغات تجري على مقياس اليونانية١، وهذه الدراسات اللغوية القديمة تختلط إلى حد كبير جدا بالنظريات المنطقية، والميتافيزيقية، ولقد اعتبر كتاب اللغة من الإغريق الجملة حكما منطقيا، واعتبروا طرفي الإسناد النحوي بنفس الطريقة، التي اعتبروا بها الموضوع والمحمول في المنطق، وإن من من يقرأ ما كتبه أرسطو في المقولات والعبارة، والتحليلات الأولى والثانية ليجدها مليئة بالنظرات، التي تخلط بين التفكير اللغوي، والفلسفي، خذ مثلا من كلامه في مقولة الكم: ويقال نفس الشيء عن الكلام، فمن الواضح أن الكلام ذو كمية؛ لأنه يقاس بالمقاطع الطوال والقصار، وأقصد بذلك الكلام المنطوق٢"، ويقول: في الفصل العاشر من المقولات: "إن الأزواج المتقابلة التي تنضوي تحث مقولة الإضافة تتضح بنسبة كل فرد منها إلى الآخر؛ وهذه النسبة تدل عليها علامة الإضافة، أو أي حرف آخر"، ويقول أيضًا: "إن العبارات المتقابلة من جهة الإثبات، والنفي تقع بوضوح في نطاق قسم آخر متميز؛ لأنه من الضروري في هذه الحالة، وهذه الحالة فحسب أن يكون أحد المتقابلين صحيحا، والآخر خطأ"، ويقول: "والكلمات التي تقع في عبارات متقابلة، يقع بعضها في نفس الوقت عكسًا للبعض الآخر، وتختص الكلمات بهذا أكثر مما تختص به أي مجموعة من الأمور المتقابلة".
ويعرف أرسطو الاسم بأنه اللفظ، الذي لا يدخل الزمن في مدلوله، ولا يدل
_________
١ Bloomfield Language، p. ٥.
٢ The works of Aristotle translated into English Categorae.
1 / 14
جزء منه مستقلا عن الأجزاء الأخرى١، وهو يقول: إن الاسم لا يوصف بالصدق، أو الكذب إلا إذا أسند ويضرب لذلك مثلا بكلمة "وعل"، فهي لا توصف بأي الصفتين، إلا إذا أضيف إليها فعل، وواضح أن الصدق والكذب ليس من الدراسات اللغوية؛ وإنما هو من الدراسات المنطقية، فالنحوي يحلل العبارة الكاذبة، كما يحلل العبارة الصادقة، ولا يهمه منها إلا التحليل اللغوي، ولا يهم النحوي من قول الشاعر
يزيد جمال وجهك كل يوم
إن كانت هذه الشطرة صادقة أم كاذبة، وإنما يعنيه منها أن يحللها تحليلا لغويا لا أكثر ولا أقل، وتعريف الأداة في نظر أرسطو هو تعريف الاسم، إلا أنها حين يضاف إليها الفعل لا يدل معها على إسناد، والفعل ما كان الزمن من مدلولاته، ولا يدل جزء منه بمفرده، أما الجملة فهي الكلام المفيد الذي لبعض أجزائه معان مستقلة، باعتبارها ألفاظا لا اعتبارها أحكاما إيجابية"٢، فالجملة في نظر أرسطو إذا حكم منطقي، ولكنها في نظر الدراسات اللغوية الحديثة ليست كذلك، ثم يتكلم عن التقرير والنفي لا باعتبارهما من الأبواب النحوية، وإنما ينظر إليهما نظره إلى قضايا المنطق، ويقول: "وكل قضية لا بد أن تحتوي فعلا أو تعبيرا عن معنى الزمن في الفعل"٣، ويدخل بعد ذلك في الكلام عن القضايا مستغنيا به عن دراسة الجمل.
فالدراسات الإغريقية على سعتها، وعمقها لم تخلق للدراسات اللغوية منهجها الخاص، ولم تفكر في اللغة إلا في ظل المنطق والميتافيزيقا، يقول يسبرسن٤ "أما بالنسبة للعقول المتأملة التي كانت لفلاسفة الإغريق، فإن المسألة التي بدت أشد ما تكون جاذبية كانت عامة وتجريدية: هل الكلمات تعبيرات طبيعية عن الأفكار التي تدل عليها، أو هي علامات عرفية اعتباطية على أفكار يمكن أن يدل عليها بأصوات أخرى، دلالة لا تقل شأنًا؟ وهذه ولا شك أفكار ميتافيزيقية مجردة، طرحتها الدراست اللغوية الحديثة لهذا؛ ولأن هذه المسألة لم تعد موضع نقاش في العصر الحديث؛ إذ هي من بديهيات الدراسات اللغوية.
_________
١ Interpretatione، Ch. ٢.
٢ Interpretatione، Ch. ٤.
٣ ibid، Ch. ٥.
٤ Language، p. ٩.
1 / 15
وجاء الإسلام وله كتاب كريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكان حرص المسلمين على حفظ هذا الكتاب من أن يغير، أو يبدل فيه حرصا مصحوبا بالغيرة والرغبة في العمل، ولقد كان هذا الحرص وتلك الغيرة، وما صحبهما من رغبة من الدوافع التي دفعت المسلمين، والعرب إلى خلق طائفة من الدراسات اللغوية، كالنحو والصرف والمعجم والتجويد وهلم جرا، جعلت العرب يلمعون في أفق العصور الوسطى، ويبدون بحق في مظهر القادة الفكريين في العالم، فهل خلص العرب الدراسات اللغوية من شوائب التفكير غير اللغوي بصفة عامة، والتفكير الفلسفي بصفة خاصة؟ وهل استطاعوا أن يجعلوا للمنهج اللغوي استقلاله عن مناهج العلوم الأخرى؟ ذلك سؤال سنحاول الإجابة عليه في الصفحات التالية:
لقد عاصرت نشأة الدراسات اللغوية العربية نشاطا علميا ضخما في البلاد الإسلامية، شمل التدوين والسفر لطلب الروايات، والترجمة من اللغات الأجنبية ترجمة تناولت فروع المعرفة، التي تخدم الثقافة العربية، فترجموا الفلك والرياضات من الهندية، كما ترجموا عن البهلوية والسريانية واليونانية، ونشأت المدارس التي احترفت الترجمة احترافا في حران والرها، وغيرهما من بلاد الخلافة؛ فأصبحت العقلية العربية لأول مرة في احتكاك مباشر بالأمم، والديانات الأخرى ذات الثقافات المكتوبة١، وكان لا بد والحالة هذه أن يتتلمذ العرب على هذه الأمم، وأن تتأثر عقولهم بعقولها، وأن ينهجوا في نشاطهم العلمي نهجا تظهر فيه سمات اطلاعهم على تراث هذه الأمم.
ولعل العرب لم يترجموا عن أمة كما ترجموا عن اليونانية، إما مباشرة أو عن طريق السريانية١، ومن المعلوم أن أرسطو كان له نصيب الأسد في الكتب المترجمة إلى اللغة العربية، وأن منطقه أصبح شهيرا في البلاد الإسلامية في العصر العباسي.
ولم يكن الاحتكاك بين العرب، وبين العقلية الإغريقية في ذلك العصر مقصورا على الترجمة فحسب، بل إن الصلة بين علماء المسلمين، وبين رجال الدين من المسيحيين ظلت قائمة وثيقة في هذا العهد، كما كانت من قبل، وكما استمرت من بعد كذلك، وقد
_________
١ Read O'Learv، How Greek Science Passed to the Arabs.
pp. ١٥٥-٧٥.
1 / 16
كان رجال الدين من المسيحيين، كما نعلم يعرفون من اللغات ما كتبت به الأناجيل، ولذلك كانوا يعرفون أكثر من لغة واحدة، وقد جمع الكثير منهم بين العربية، لغة الدولة التي يدينون لها بالطاعة، وبين الإغريقية لغة الدولة التي يدينون لها بالعطف والولاء، وقد كانت الإغريقية في ذلك العصر لغة الكنيسة الأرثوذكسية، التي كان أكثر المسيحيين في الدولة١ الإسلامية تابعا لها، وكم دارت المناظرات بين هؤلاء المسيحيين، وبين علماء الإسلام في قصور الخلفاء وفي خارجها، وكم دون المسلمون من الحجج على النصارى٢. وكم دون النصارى من الحجج على المسلمين، ولقد كانت هذه المناظرات في بدايتها من الدوافع، التي حفزت المسلمين على خلق علم الكلام، وكانت الأدلة في كل هذه المناقشات تصاغ على مثال الأقيسة الأرسطوطاليسية، وكان منطق أرسطو عند الفريقين مرجعا نافذ الحكم والقضاء.
كان لا بد والحالة على ما ذكرنا، أن يظهر أثر الأفكار الأجنبية في الدراسات اللغوية عند العرب، وأن تنتقل عدوى التفكير الأرسطوطاليسي، الذي يخلط بين الدراسات اللغوية والدراسات المنطقية، والميتافيزيقية إلى اللغة العربية ودراساتها، وبالأخص دراسات أصل اللغة والدراسات النحوية.
يقول ابن جني في باب القول على اللغة، وما هي٣: "أما حدها فهي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، هذا حدها، وأما اختلافها، فلما نذكره في باب القول عليها أمواضعة هي أم إلهام؟ " فالمواضعة أو التعارف والإلهام، أو التوقيف كانا عند العرب أساسين تتراوح الأفكار بينهما في الكلام عن أصل اللغة، ولقد كانت العلاقة بين الكلمة وبين مدلولها، "وهي دراسة ميتافيزيقة كالكلام في أصل اللغة"، من نصيب دراسة الفلسفة الإسلامية، أكثر مما كانت من نصيب اللغويين.
أما النحو العربي، فإن أثر المنطق فيه يبدو من جانبين اثنين؛ أولهما جانب المقولات، وتطبيقها في التفكير النحوي العام، وثانيهما الأقيسة والتعليلات في المسائل النحوية
_________
١ O'Leary، ٣٦-٤٦.
٢ للجاحظ في الفصول المختارة رسالة في الرد على النصارى، يصلح مثالا لذلك.
٣ الخصائص ص٣١.
1 / 17
الخاصة مع ما يساير ذلك من محاكاة التقسيمات اللغوية، التي جاء بها أرسطو في دراساته، والتي ذكرنا أنه خلط فيها بين النحو، وبين المنطق ويعلم القارئ، أن المقولات عشر هي الجوهر والكم والكيف والزمان، والمكان والإضافة والوضع والملك، والفاعلية والقابلية "أو كما تسميها المتون العربية: أن يفعل وأن ينفعل١".
ويعلم القارئ أيضا أن هذه المقولات عليا الأجناس؛ أي أن الأجناس فيما عداها أخص منها، وتندرج تحتها ولا يعلو على هذه المقولات جنس واحد منها، ثم هي كذلك أسس تفهم الأشياء مبنية عليها، فللشيء جوهر وكم وكيف، وهو في زمان ومكان، ثم هو يفهم بالإضافة إلى شيء آخر، ويدرك في وضع معين، وقد يكون مالكا، أو مملوكا وفاعلا أو قابلا.
نظر النحاة إلى اللغة نظرتهم إلى الأشياء والمحسوسات، فجعلوا للكلمة جوهرًا كما جعلوه للمادة، ورأوا أن جوهر الكلمة لا يتغير إلا بإعلال أو إبدال. فالأصل أو الجوهر في "قال" "قَوَل" وفي فعل الأمر من "وفي" "إوف" وفي كلمة "نهى" "نَهَيَ" وفي "قاض" قاضي إلخ. ويذهب النحاة في ذلك مذاهب لا تخلو من التعسف الظاهر؛ يقول ابن جني٢ تحت عنوان "باب في قلب لفظ إلى لفظ بالصنعة، والتلطف لا بالإقدام والتعجرف": وذلك كأن يقول لك قائل: كيف تحيل لفظ وأيت إلى لفظ أويت، فطريقه أن تبني من "وأيت" فوعلا، فيصير بك التقدير فيه إلى "وَوْأَيُ" فتقلب اللام ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فيصير "وَوْاْآ" ثم تقلب الأول همزة، لاجتماع الواوين في أول الكلمة، فيصير "أوأآ" ثم تخفف الهمزة فتحذفها، وتلقى حركتها على الواو قبلها، فيصير "أوا" اسما كان أو فعلا، فقد رأيت كيف استحال لفظ "وأى" إلى لفظ "أوا"، من غير تعجرف ولا تهكم على الحروف، وكذلك لو بنيت مثل فوعال لصرت إلى "ووأ آى"، ثم إلى "أو أى" ثم "أوآإ" ثم تخفف، فيصير إلى "أوآء"، فيشبه حينئذ لفظ "أآة" أو أويت....".
_________
١ حاشية العطار على شرح مقولات السجاعي.
٢ الخصائص ص٤٨٣.
1 / 18
ونحن نجد الجوهر اللغوي في هذه العبارة، يبدو في صورة متعددة، والتشكل غير غريب على الجوهر الفلسفي المنطقي أيضا، والذي أحب أن أشير إليه هنا هو أن ابن جني لا يرى في كل هذا التعجرف تعجرفا، ولا ف يكل هذا التهكم على الحروف تهكما، وإنما يراه صنعة وتلطفا، كما رآه النحاة من قبل ومن بعد.
ولم يعن النجاة بجوهر الكلمة فحسب، بل انساقوا أيضا إلى التفكير في جوهر الجملة، فاخترعوا فكرة تقدير ما غاب من هذا الجوهر، والتقدير بلية فلسفية ميتافيزيقية، ومنطقية ابتلي بها النحو العربي ولا زال يبتلى، ومن الطلائع الذين هاجموا الكثير من الأفكار التقليدية في النحو العربي، ومنها التقدير ابن مضاء القرطبي.
ومن كلامه في ذلك١: "فإن قيل: فما تقول في مثل "زيد قام"، إذ قالوا: إن في قام ضميرا فاعلا؟ وليس داع يدعو إلى ذلك إلا قول النحويين: الفاعل لا يتقدم ولا بد للفعل من فاعل، وقولهم هذا لا يخلو من أن يكون مقطوعا به أو مظنونا، فإن كان مظنونا، فأمره أمر الضمير المدعي في اسم الفاعل، وإن كان مقطوعا به صح هذا الإضمار، ولابد أن يتقدم قبل الكلام في هذا الموضع مقدمات تعين الناظر فيه على ما قصد تبيينه، وهي أن الدلالة على ضربين: دلالة لفظية مقصودة للواضع، كدلالة الاسم على مسماه، ودلالة الفعل على الحدث والزمان، ودلالة لزوم، كدلالة السقف على الحائط، ودلالة الفعل المتعدي على المفعول به وعلى المكان.
ودلالته على الفاعل فيها خلاف بين الناس، منهم من يجعل دلالته عليه كدلالته على الحدث والزمان، ومنهم من يجعل دلالته عليه، كدلالته على المفعول به، فإذا قيل "زيد قام"، ودل لفظ "قام" على الفعال دلالة قصد، فلا يحتاج إلى أن يضمر شيء؛ لأنه زيادة لا فائدة فيها"، ولا شك أن ابن مضاء مصيب فيما يقول، وإن كنت آخذ عليه أنه لم يسلم من قيود المنطق، حين تكلم عن الدلالة اللفظية دلالة اللزوم، والدراسات اللغوية لا تعترف بدلالة اللزوم، وإنما تعتبر دلالات الألفاظ بذواتها، وتأخذ الفعل الماضي "قام" على أنه صورة دلت على المفرد الغائب
_________
١ كتاب الرد على النحاة نشره، وحققه الدكتور شوقي ضيف ص١٠٣.
1 / 19
بشكلهما كما دلت على الحدث والزمان، هذا ما يمكن أن يقال في مدى تطبيق النحاة لمقولة الجوهر في تفكيرهم اللغوي.
وأما الكم، فواضح أن النحاة، والقراء ربما عرفوا أن المدة "durtion" التي
يستغرقها نطق صوت من الأصوات، لا تتناسب طردا ولا عكسا مع كميته الطولية 'Quantity"، ومع هذا أصروا على خلق وحدات طولية فكرية في دراسة الأصوات العربية، فالحرف المشدد بحرفين، وإن قصرت مدته عن مدة الحرف المفرد في بعض النطق، والفتحة نصف الألف اللينة في نظرهم، إذا كانت كتلك القصيرة المدة التي في آخر "منى" من قولنا "منى النفس١"، والتفكير المنطقي هنا واضح كل الوضوح، وعلى الأخص إذا عرفنا أن بعض التجارب الآلية، التي قمت بها على لهجة عدن، قد برهنت إلى درجة تعزز ملاحظتي الخاصة تعزيزا كاملا، على أن الصوت لا مفرد الأخير الساكن في الكلام أطول من نظيره المشدد في الوسط من جهة المدة، وإن كان أقصر منه من جهة الكم.
وخطر هذا التقسيم يتضح في الصرف بصفة خاصة، حيث تقوم الكمية في الحروف بدور القيمة الخلافية، التي تفرق بين معاني الكلمات، كما يبدو ذلك في التفريق من جهة المعنى بين "عَبَدَ" و"عبَّد" و"ضرب" و"ضربا" وما أشبهها من الموازنات، ولست بذلك أريد أن أهجن الاعتماد على الكمية في دراسة الحروف، كما يعتمد على المدة في دراسة الأصوات، على العكس. إن النظرة اللغوية الحديثة تحتم اعتبار الكمية في الفونولوجيا "التشكيل الصوتي"، كما تحتم اعتبار المدة الفوناتيك "الأصوات"، ولكن أريد أن أنبه إلى الصلة بين مقولة الكم، وبين التفكير في كمية الحرف، كما فهمها النحاة والقراء القدماء.
ويتضح تطبيق مقولة الكيف من نسبة كيفيات استعدادية لبعض الأفعال الثلاثية، ولبعض الأسماء وفي تسمية بعض الحروف، فمن أسماء أنواع الأفعال
_________
١ راجع دراسة الكمية والمدة في منهج التشكيل الصوتي.
1 / 20