Repentance to Allah
التوبة إلى الله
خپرندوی
دار بلنسية للنشر والتوزيع
د ایډیشن شمېره
الرابعة
د چاپ کال
١٤١٦ هـ
د خپرونکي ځای
الرياض - المملكة العربية السعودية
ژانرونه
مقدمة الطبعة الرابعة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وسيد الأنبياء والمرسلين. أما بعد:
فإن رسالة «التوبة إلى الله» التي ألفتها عام ١٤٠٦هـ قد يسر الله نفعها وقبولها فكانت محل قبول لدى قُرائها، وطبعت ثلاث مرات.
ولما نفدت الطبعة الثالثة أعدتُ النظر فيها لإعدادها للطبعة الرابعة، فأضفتُ بعض النصوص والأدلة من الكتاب والسنة، وبعض التعليقات المختصرة، وها هي تقدم اليوم في طبعتها الرابعة.
أسأل الله أن ينفع بها كما نفع بسابقاتها، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
حرر في ٢٩/ ٣/١٤١٦هـ
أ. د. صالح بن غانم السدلان
بمدينة الرياض
* * *
1 / 5
المقدمة
الحمد لله، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير.
والصلاة والسلام على رسول الله، مُعلَّمِ الإنسانية، ومرشدها وهاديها إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد:
فإن الأمور إذا استحكمت وتعقدت حبالها، وترادفت المعاصي وطال ليلُها وانزلق المسلم إلى ذنب، وشعر بأنه باعد بينه وبين ربه، فإن الطهور الذي يعيد إليه نقاءه ويرد إليه ضياءه ويلفه في ستار الغفران والرضا أن يجنح إلى التوبة؛ لأنها النور الذي يشع للمسلم ليعصمه من التخبط، وهي الهداية الواقية من اليأس والقنوط، وهي الينبوع الفياض لكل خير وسعادة في هذه الدار وفي دار القرار.
وهي اسم جامع لشرائع الإسلام وحقائق الإيمان، لأن المعاصي بمنزلة السموم المهلكة وارتكاب الآثام سبيل
1 / 7
السقوط والإهانة، ومزلقة إلى العقاب في الدنيا والآخرة، وهذا المخلوق البشري بحكم ما رُكّب فيه من ميول وغرائز تسول له نفسه الأمارة بالسوء أحيانًا إلى درك المعصية وتهيج به فورة اللحم والدم، فينزو نزوات الحيوان في حمى الشهوة.
وليست التوبة في الإسلام مسلكًا وعرًا لا يصل إليها مبتغيها إلا بعد تعب ومشقة، أو اعتراف أمام أحد غير الله تعالى، بل إنها سهلة وميسرة، فبابها مفتوح في كل لحظة يطرقه من يشاء ليستغفر ويتطهر، لا يطرده من رحمة الله طارد، ولا يقوم بينه وبين ربه وسيط مهما أسرف على نفسه؛ قال الله - تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: ٥٣].
فمن أرد الرجوع إلى الطريق المستقيم فلا عليه إلا أن يُبادر بالتوبة ويقلع عن الذنوب من قبل أن يأتي يوم يحال فيه بينه وبينها، فيتحسر على ما فرط، ويضيق ذرعًا بما وصل إليه من واقع مرير، ويندم ولات ساعة مَنْدَم؛ فليشمر المسلم عن ساعد الجد، وليتب إلى الله بلسانه ويعزم بقلبه، محققًا مدلول التوبة بالإيمان والعمل
1 / 8
الصالح، علَّ الله يقبل عثرته، ويقبل أوبته، ويغفر ذنبه، فيأخذ طريقه على هدى من الإيمان والعمل الصالح، وينظمه الله في سلك عباده المهتدين، مصداقًا لقوله - سبحانه: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه: ٨٢].
اللهم إنا نسألك أن توفقنا للتوبة والإنابة، وأن تفتح لأدعيتنا أبواب الإجابة، وأن تذيقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك يا أرحم الراحمين.
* * *
1 / 9
تعريف التوبة
التوبة لغة:
التَّوبَةُ: بفتح التاء وسكون الواو - مأخوذة من «تَوَبَ» التاء والواء والباء كلمة واحدة تدل على الرجوع، يقال تاب وأناب إذا رجع عن ذنبه (١).
والتوبة: هي الرجوع إلى الله، بحل عقدة الإصرار عن القلب، ثم القيام بكل حقوق الرب ﷾.
والتَّوْبُ والتَّوْبَةُ معناهما واحد، والمراد: ترك الذنب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار.
والتوبة في الشرع:
ترك الذنب مخافة الله، واستشعار قبحه، وندم على المعصية من حيث هي معصية، والعزيمة على ألا يعود إليها إذا قدر عليها، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة.
* * *
_________
(١) «معجم مقاييس اللغة» لابن فارس، ج١/ ٣٥٧.
1 / 10
حقيقة التوبة
التوبة شعور وجداني بالندم على ما وقع، وتوجه إلى الله فيما بقي، وكف عن الذنب، وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل، كما يحققها الكف بالترك؛ فهي فعل وجودي يتضمن إقبال التائب على ربه وإنابته إليه، والتزام طاعته؛ فمن ترك الذنب تركًا مجردًا ولم يرجع منه إلى ما يحبه الله - تعالى - لم يكن تائبًا إلا إذا رجع وأقبل وأناب إلى الله ﷿ وحل عقد الإصرار وأثبت معنى التوبة في الجنان قبل التلفظ باللسان، وأدام الفكر فيما ذكره الله - تعالى - من تفاصيل الجنة، ووعد به المطيعين، وما وصفه من عذاب النار وتوعد به العاصين، وواظب على ذلك حتى يقوى خوفه ورجاؤه، فيدعو الله - تعالى - رغبًا ورهبًا أن يقبل توبته، ويغسل حوبته، ويحط عنه خطاياه، وبهذا يكون قد حقق مدلول التوبة بالرجوع عما يكرهه الله إلى ما يحبه ويرضاه؛ بأن يتوب من الذنب ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضَّرع، ويندم بقلبه ويستغفر بلسانه، ويمسك ببدنه،
1 / 11
ويتقي الله - تعالى - ويعمل بطاعته على نور منه يرجو ثوابه ويخاف عقابه، ويرغب إلى خالقه وفاطره أن يقي نفسه شرها، وأن يؤتيها تقواها ويزكيها فهو خير من زكاها، فإنه ربها ومولاها، وألا يكله إلى نفسه طرفة عين.
«نعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا»
1 / 12
من معاني التوبة في القرآن الكريم
ورد لفظ التوبة في القرآن الكريم دالًا على معان عدة منها:
١ - التوبة بمعنى الندم:
ومنه قوله - تعالى -: ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤].
وقوله - تعالى -: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: ٣١].
٢ - التوبة بمعنى التجاوز:
ومنه قوله - تعالى -: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ [التوبة: ١١٧]، أي تجاوز عنهم.
وقوله - تعالى -: ﴿وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [الأحزاب: ٧٣].
٣ - التوبة بمعنى الرجوع عن الشيء:
ومنه قوله - تعالى - على لسان موسى ﵇: ﴿سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٤٣]، أي رجعت عن سؤالي الرؤية.
1 / 13
فضل التوبة إلى الله
أمر الله - سبحانه - بالتوبة فقال: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: ٣١].
ووعد بالقبول عليها، فقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ [الشورى: ٢٥].
وفتح لعباده أبواب الرجاء في عفوه ومغفرته، وأمرهم أن يلجؤوا إلى ساحات كرمه وجوده، طالبين تكفير السيئات وستر العورات، وقبول توبتهم، لا يطردهم من رحمة الله طارد، ولا يوصد بينهم وبين الله باب.
قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: ٥٣].
فمن تاب واستغفر تاب الله عليه؛ قال - تعالى -: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ١٥٣].
وقد أثنى الله على عباده المتقين المداومين على
1 / 14
الاستغفار، فقال - تعالى -: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: ١٦، ١٧].
والتائب من ذنبه محل رعاية الله وأهلٌ لحفظه ورحمته، يغدق عليه من بركاته، ويمتعه بسعة الرزق ورغد العيش في الدنيا، وينعم عليه بالثواب العظيم والنعيم المقيم في الآخرة؛ قال تعالى في ثواب التائبين إليه: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾
[آل عمران: ١٣٦].
ثم إن الاستغفار مع الإقلاع عن الذنوب سبب للخصب والنماء، وكثرة النسل وزيادة العزة والمنعة؛ قال تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: ١٠ - ١٢].
ففي الإيمان رحمةٌ بالعباد، وفي الاستغفار بركات الدين والدنيا، وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن عباس ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل
1 / 15
ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب» (١).
وباب التوبة مفتوح على مصراعيه تنسم منه نسمات الرحمة واللطف والنعم؛ قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾ [مريم: ٦٠، ٦١].
فالتوبة التي تنشئ الإيمان والعمل الصالح، فتحقق مدلولها الإيجابي الواضح .. تُنجي من ذلك المصير فلا يلقى أصحابها ﴿غيًا﴾، إنما يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئًا.
فما أعظم بركات الاستغفار والإنابة إلى الله، بهما تُستنزل الرحمات، وتبارك الأرزاق، وتكثر الخيرات، ويعطي الله الأموال والبنين، ويغفر الذنب، ويمنح القوة والسداد والرشاد.
والله عفو غفور تواب، يقبل التوب ويغفر الذنب،
_________
(١) «سنن ابن ماجه» ج٢/ ١٢٥٤، رقم (٣٨١٩) ورواه «أبو داود» (١٥١٨) والإمام أحمد في «المسند» ١/ ٢٤٨ وفي سنده الحكم بن مصعب القرشي المخزومي: متكلمٌ فيه، لكن صححه العلامة أحمد شاكر (٢٢٣٤) حيث ترجم البخاري للحكم في «تاريخه الكبير» ولم يذكر فيه جرحًا فهو ثقة عنده.
1 / 16
ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، فضلًا منه - سبحانه - وإحسانًا؛ فينبغي للعاقل أن يشتغل بطاعة ربه ولا يغفل طرفة عين عن مراقبته والخوف منه، وأن يستحضر عظمة الله دائمًا، ويخشاه في السر والعلانية؛ فعلمه محيط وغضبه شديد، يملأ قلوب الخائفين من غضبه أمنًا، ويعوض النادمين الآسفين على ما كان منهم بمحو السيئات وغفران الذنوب وقبول التوبة ورفع الدرجات.
اللهم يا مَنْ يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين، هب لنا من لدنك توبة صادقة، وإنابة كاملة، لا يشوبها تردد ولا يعتريها نقص أو تسويف.
1 / 17
وجوب التوبة على الفور
إذا كان عموم الناس محتاجين إلى التوبة، فإنه لا بد وأن يكونوا مشتغلين بها في كل حين وآن، وقد دّلت النصوص المتضافرة على أن المبادرة بالتوبة من الذنب فرضٌ على الفور، ولا يجوز تأخيرها، وأن التوبة عند المعاينة لا تنفع؛ لأنها والحالة هذه تصبح توبة ضرورة لا اختيار.
لهذا كان قبول التوبة حقٌ على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب، قبل أن تنقطع الآمال وتحضر الآجال، وتساق الأرواح سوقًا، ويغلب المرء على نفسه؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: ١٧، ١٨].
فمتى تاب العبد إلى الله نادمًا على ما فعل جادًا عازمًا باذرًا بذور التقوى والعمل الصالح راجيًا رحمة ربه، قَبِلَ الله توبته، لا يتركه منبوذًا حائرًا، ولا يدعه مطرودًا خائفًا؛
1 / 18
بل يدله على الطريق ويأخذ بيده، ويسند خطواته، وينير له الطريق، ولا على العبد حينئذ سوى:
١ - أن يُعجَّل بالتوبة؛ حتى لا تصير المعاصي رانًا وطبعًا لا يقبل المحو.
٢ - أن يعجلها قبل الموت أو المرض:
وليحذر المغرورون الذين يعملون السيئات ويصرون على المعاصي ويسوفون في التوبة، حتى إذا حضر أحدهم الموت قال: إني تبت الآن. وقد رسخت المعاصي في قلبه، وأنست بها نفسه، حتى صارت ملكات وعادات يتعذر أو يتعسر عليه الإقلاع عنها، حتى إذا جاءه الأجل الموعود، فاضطر إلى التوبة بعد أن لجَّت به الغواية، وأحاطت به الخطيئة، فهو لم يتب إلا حين عاين العذاب وحضره الأجل، ولم يعد هناك متسع لارتكاب الذنوب.
فهذه التوبة غير صحيحة بل هي مردودة لأنها لا تُنشيء صلاحًا في القلب ولا استقامة في الحياة؛ ذلك لأنها توبة اضطرار لا اختيار؛ فهي كالتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها، ويوم القيامة، وعند معاينة بأس الله - تعالى.
فليبادر المؤمن بالتوبة إلى الله قبل أن يحضر الأجل، وينقطع الأمل، فيندم ولات ساعة مندم، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
* * *
1 / 19
تأخير التوبة ذنب تجب التوبة منه
إن العبد إذا عمل المعصية وخطرت بباله التوبة فإنه ينبغي عليه أن يسارع إلى ذلك ولا يركن إلى التسويف والأماني؛ فإنه لا يدري متى تنقضي أيامه، وتنقطع أنفاسه، وتنصرم لياليه.
وقد دعا القرآن الكريم إلى الاعتراف بالذنب والمبادرة بالتوبة، قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ١٧].
فقبول هذه التوبة حقٌ للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب؛ إنه حق كتبه الله على نفسه رحمة منه وفضلًا، وكل من عصى الله خطأ أو عمدًا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب (١).
فالمبادرة إلى التوبة من الذنب فرضٌ على الفور ولا يجوز تأخيرها؛ فإن أخرها وجب عليه أن يتوب، وتعد هذه توبة من تأخير التوبة.
* * *
_________
(١) انظر «تفسير ابن كثير» سورة النساء، الآية: ١٧.
1 / 20
شروط التوبة
التوبة إلى الله - تعالى - من أعظم الحسنات؛ لأنها تزيل العوائق التي تقوم بين العبد وبين ربه: تلك العوائق الكامنة في النفس من شهواتها ونزواتها؛ فالتوبة تملأ النفس بالأمل، وتقود القلب إلى مصدر النور.
ولن تكون التوبة صحيحة مقبولة حتى تتحقق فيها شروط تثبت صدق التائب في توبته.
من هذه الشروط:
أولًا: أن تكون خالصة لله ﷿ لأن الله - سبحانه - لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا له وحده مبتغىً به وجهه، وموافقًا أمره باتباع رسوله ﷺ؛ فلا بد أن يكون العمل خالصًا إلى الله - تعالى - صوابًا؛ أي موافقًا للسُّنَّة؛ إذ قد يكون العمل صوابًا ولا يكون خالصًا، فلا يقبل، وقد يكون خالصًا ولا يكون صوابًا فلا يقبل - أيضًا - وكان من دعاء عمر ﵁: «اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا».
1 / 21
فيكون الباعث للتوبة حُبُّ الله وتعظيمه ورجاؤه، والطمع في ثوابه، والخوف من عقابه، لا تزلفًا إلى مخلوق، ولا قصدًا في عرض من عرض الدنيا الزائل.
ثانيًا: الإقلاع عن المعصية: لأن النفس المشغولة بلذة المعصية قلَّما تُخْلص عمل الخير؛ فيجاهد التائب نفسه لاقتلاع جذور الشر من قلبه، حتى يصبح نقيًا خالصًا صافيًا، تصدر عنه أعمال الخير بنية صالحة مقبولة عند الله؛ فإن كانت المعصية بفعل محرم تركه في الحال، وإن كانت بترك واجب فعله في الحال إن كان مما يمكن قضاؤه، وإن كانت مما يتعلق بحقوق الخلق تخلص منها وأداها إلى أهلها أو استحلهم منها، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
ثالثًا: الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال والعزم على ألا يعاود الذنب في المستقبل، فلن تكون التوبة صحيحة حتى يكون نادمًا آسفًا حزينًا على ما بدر منه من المعاصي، ندمًا يوجب الانكسار بين يدي الله ﷿ والإنابة إليه؛ ومن هنا فلا يُعَدُّ تائبًا ونادمًا ذلك الذي يتحدث بمعاصيه السابقة التي قارفها يفتخر بذلك ويتباهى به؛ بل هذا من المجاهرة التي قال
1 / 22
عنها رسول الله ﷺ: «كل أمتي معافى إلا المجاهرون» (١).
رابعًا: العزم الجازم على عدم معاودة الذنب: فيتوب من الذنب وهو يُحَدَّث نفسه ألا يعود في المستقبل، والقصد لتدارك ما فات وإصلاح ما يأتي، ودوام الطاعة ودوام ترك المعصية إلى الموت، والعزم الجازم - أيضًا - على فعل المأمور، وترك المحظور، والتزام ذلك طيلة حياته.
وإذا وصل العبد إلى هذه الدرجة من العزم الجازم فلا يضر توبته لله مرة أخرى إن ندم وأسف وسارع إلى التوبة؛ قال ﷺ: «أذنب عبدٌ ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي. فقال ﵎: أذنب عبدي، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال ﵎: عبدي أذنب ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال ﵎: أذنب عبدي فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. اعمل ما شئت فقد
_________
(١) رواه البخاري (٦٠٦٩) ومسلم (٢٩٩٠).
والمجاهرون: هم الذين جاهروا بمعاصيهم وأظهروها وكشفوا ما ستر الله عليهم فيتحدثون بها لغير ضرورة ولا حاجة. انظر: «شرح صحيح مسلم» ١٨/ ١١٩ للنووي.
1 / 23
غفرت لك» (١). ومعنى قوله: فقد غفرت لك. أي ما دمت تذنب ثم تتوب، غفرت لك.
خامسًا: عدم الإصرار على المعصية:
والإصرار: هو عقد القلب على شهوة الذنب، والاستقرار على المخالفة، والعزم على المعاودة؛ لأن التوبة مع الإصرار توبة الكذابين الذين يهجرون الذنوب هجرًا مؤقتًا، يتحينون فيها الفرص المواتية لمعاودة الذنب، وقد بقيت حلاوته في قلوبهم، يتمنون مقارفته ما وجدوا السبيل إليه، وقد شرط الله لوجوب المغفرة ودخول الجنة عدم الإصرار على فعل الفاحشة أو ظلم النفس؛ قال - تعالى -: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٥، ١٣٦].
سادسًا: أن التوبة كما تكون بالقلب واللسان تكون أيضًا
_________
(١) رواه «البخاري» (٧٥٠٧) و«مسلم» (٢٧٥٨). وانظر لشرحه «فتح الباري» ١٣/ ٤٧١.
1 / 24
بالعمل الصالح الذي يكون ترجمة عملية لما في قلب الإنسان؛ إذ العمل الصالح ينشيء التعويض الإيجابي في النفس للإقلاع عن المعصية؛ فيعوض التائب ما صرفه من عمره في اللهو والمعصية بالعمل الصالح وفعل الطاعات؛ ليمحق بذلك أثر الخطيئة والسيئات، فإذا تاب وأقلع عن الذنب فينبغي أن يصدق توبته تعويض ما فاته بأعمال صالحة؛ لكي يرجى فلاحه، فليؤد التائب الفرائض وجميع شعب الإيمان البضع والسبعين قدر المستطاع.
سابعًا: أن يستمر التائب في توبته ولا يأتي بما ينقضها ويخالفها؛ إذ الاستمرار في التوبة شرط في صحة كمالها ونفعها، ولهذه المسألة مزيد بيان سيأتي إن شاء الله.
ثامنًا: من شروط التوبة أن تصدر في زمن قبولها؛ وهو ما قبل حضور الأجل، وطلوع الشمس من مغربها، وسيأتي بيان وقت التوبة ونهاية وقتها إن شاء الله.
بهذا يتضح أن التوبة كلٌ متكاملٌ يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه؛ كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره؛ فمن أتى بشرط وأغفل آخر لا يعتد بتوبته ما لم يحقق بقية الشروط ... والله المستعان.
1 / 25