4
وإني لأذكر يوم وقفت أمام قومي في أميركا فذكرت قومي في الوطن، وها أنا الآن أمام نخبة من قومي في الوطن العزيز أذكر قومي في أميركا فتحلو لي الموازنة بين الشعبين إذا لم أقل بين البلادين، ولكن الوقت قصير والحبل أقصر، فمتى يا ترى يعود المهاجرون المنورون إلى الوطن.
وافطنوا أنني لا أريد سوى المنورين وأما ما بقي من المهاجرين فسواء على الوطن إن عادوا أو لم يعودوا فهم لا ينفعون، الأمة بأفرادها لا بجرادها، ولكن حتى م هذا الانقسام وهذا التشتيت وكيف تصان وتعزز الوطنية والمنورون من السوريين ضاربون في أربعة أقطار العالم، تائهون في فيافي النزاع والجدال، فتراهم قائمين بعضهم على بعض في كل صقع وفي كل قطر وفي كل بلاد، الشعب السوري في المهاجر جاهل ولكنه ناهض عامل، والشعب السوري في الوطن منور إلى درجة ولكنه متقاعس متغافل.
هناك ترى السوريين في هرج ومرج وشغب ونزاع وجدال وقتال، تراهم أبدا قائمين قاعدين ضاربين شاكيين، وهنا تراهم إلى السكينة والاستكانة مخلدين، هناك تضعف الوطنية ويقوى التعصب الديني من عوامل خارجية، وهنا قد ينتج ذلك عن عوامل داخلية، هناك نهاميون وزرازرة من الإكليروس عاكفون على جمع المال عاملون على إثارة الفتن، وهنا - ولكن قد فاتني أن البحث في شئون ذوي الرئاسة محظور في هذه الجمعية بل في هذه البلاد، هناك صحافة عربية نمت في ظل الحرية، فوافقها الهواء إلى حد أن صارت صحتها فيه بلية، وهنا - ولكن الصحافة بنت الزرازرة والنهاميين فكما راعينا خاطرهم يجب أن نراعي أيضا خاطر ابنتهم هذه العانس الفضفاضة الوهنانة.
الصحافة السورية في أميركا وما أدراك ما هي، سطور تلمع من خلالها الخناجر والحراب وأعمدة تطفح بالحامض الكبريتيك، وأما هنا فعندنا زنابيل من القش ملؤها قطن منفوش وبخور يحرق في مجامر التدليس حول الأرائك والعروش، ولكن قد فاتني أن الخوض في أمور السياسة محظور في هذه الجمعية، بل في هذه البلاد، هناك قوم يقدمون على غير هداية، ويخبطون خبط العشواء في البداية، وهنا كرام يرون البقاء في الخيام خيرا من الهيام في الظلام والجمود خيرا من التطواف خارج الحدود. هناك حرية يرافقها بطر وأشر وحماقة، وهنا تهذيب ناقص يتراوح بين المراعاة واللياقة، ويسير مستسلما مكتئبا من الخمول إلى الذبول، هناك قيل لا يتبعه عمل وهنا لا قول ولا عمل.
ولعمري هذا الأخير أحسن من ذاك. هناك ضجة وقعقعة وضوضاء، وهنا هدو وقناعة ورخاء، هناك صحافي يقارع كاهنا وكاهن يصارم صحافيا وهنا - كاد يطيش السهم ثانية أو بالحري كاد يصيب كبد الحقيقة لو لم ترده هذه الجمعية الزاهرة بمجن التحظير: هنا وهناك وهناك - وهل ينطق من في فمه ماء؟ نعم كدت أنسى ما وعدتكم به، ماذا تظنون لقيت على شاطئ البحر؟ أسمكة من ذهب أو صدفة من الندى المتجمد على الصخور أو لؤلؤة صفراء أو مرجانة بيضاء أو بنتا من بنات الأمواج الزرقاء اللائي يحلم ويهيم بهن الشعراء أو شيئا أندر من كل نادر تحت السماء؟ لا، لا، ما لقيت شيئا من هذا، ما لقيت على شاطئ البحر سوى الأمواج ثم الأمواج ثم الأمواج.
وهذا من مثل كلام المتصوف الذي يختلي بنفسه ويقول: قد وجدت روحي قد لقيت ذاتي ولك أن تسأل هل كانت روحه - قدس الله سره - ضائعة أم كان هو محجوبا عن نفسه. ولكنني أعجز عن الجواب؛ لأن الله يفتح علي في مثل هذه الأمور، ولهؤلاء المتصوفين ضروب من الكلام لا نلحنها نحو العوام، غير أني أهديك إلى القشيري والسهروردي إذا كنت لا تخاف أن تضيع في براري شطحاتهم وسرداب أسرارهم، وإذا أغلق عليك هناك فإليك بفلاسفة الألمان الروحيين أو ببراهمة الهند القانتين.
وأما كلامي فكلام شاعر مفتون، لا كلام متصوف مغبون، نعم، ما لقيت على شاطئ البحر سوى الأمواج القائمة القاعدة، الراغية الزابدة، الهاجمة الهائجة، سوى الأمواج تلاعب الرمل فتترك عليه أثر حنين البحر إلى ما خرج من بطنه من سواحل وسهول وجبال، لقيت هذه الأمواج أو بالحري لقيت فكرا صغيرا في موجة صغيرة منها جاءت تلثم قدمي ضاحكة وعادت إلى حجر أمها راغبة راضية، ففكرت في نفسي إذ ذاك وقلت: أليست هذه الأمواج من ذات البحر الذي تتلاطم أمواجه حول جبل طارق؟
أولا تنقل أمواج البحر الواحد من مكان إلى آخر في مدار الليالي والأيام فتسافر الموجة الواحدة إلى سواحل سوريا كما تسافر بواخر الميساجري ماريتيم، أولا تمتزج أمواج البحر المتوسط بأمواج البحر الأتلنتيكي عند مجتمع البحرين، أولا تسافر الأمواج من مرفاء نويرك إلى جبل طارق ومن ثم إلى سواحل آسيا الصغرى؟ إذن - وها قد وصلت إلى بيت القصيدة - ما الموجة التي لثمت قدمي إلا رسول خير من بلاد العلماء إلى بلاد الأنبياء، ما هي إلا موجة واحدة صغيرة من بحر النور والهدى يقذفها المغرب إلى المشرق.
إن هي إلا موجة من أمواج العقل والحجى، يسوقها الله إلى بلد ميت فيحييها بعد موتها، إن هي إلا موجة من أمواج النفس البشرية النبيلة تحملها الرياح والأعاصير إلى المستضعفين المستذلين من العباد في كل بلاد، إن هي إلا موجة من أمواج الحب والحنان يشحذ بها الأصفياء الأحرار عزم أولئك المنقادين للهوان المستسلمين للامتهان، إن هي إلا موجة من الأمواج التي تغسل قدمي إلهة الحرية الرافعة نبراسها في مدينة نويرك العظمى، وإني لأقول لكم الآن لا بد أن يرى المستقبل مثل هذا التمثال الجليل الجميل في كل مدينة كبرى من مدن الشرق الأقرب والأقصى.
ناپیژندل شوی مخ