بكون مصيره للفساد
والمؤرخ الدهري يختلف عن الفيلسوف الدهري في أن هذا يعتقد - على الأقل - بأزلية المادة وخلودها وذاك لا يعتقد بخلود شيء. إنما حياة الأشياء والمخلوقات إلى أجل مسمى. بل هي خيال زائل يظن ذاته حقيقة ثابتة دائمة، في مثل هذه الأقاويل يبرهن كارليل على أن الثورة الإفرنسية لا تؤثر قط في تاريخ الشعوب والعمران، ولن تؤثر حتى في أحوال أوروبا السياسية والاجتماعية.
وفي الفصل الثاني من الكتاب الأول يرفع الستار حتى النهاية عن فلسفته الاجتماعية الدهرية، ومن يقرؤه مفكرا تنجلي له النتائج التي استخلصناها منه، وهي أن تعظيم الصغائر يلذ متى كان النافخ في فقاقيعها كاتبا عظيما ككارليل، ولكن الحفول في الصغائر يبعدنا عن الجوهر الحقيقي، وأن الفكر الروحي الداخلي زائل لا أزلي هو ولا خالد بل هو يتغير ويتحول ويتلاشى كالمادة صحيحا كان أو فاسدا، وأن النهضات الاجتماعية السياسية تظهر فجأة وصدفة لا بعد أن تنضج في خفايا الزمان، وأن الفلاسفة مخطئون على الإطلاق في مبادئهم الاقتصادية وفلسفتهم الاجتماعية.
وفي بقية الفصول دليل واضح على كل هذا، وفي ما كتبه عن ميرابو بالأخص وعن ليلة رابع آب دليل أنصع وأوضح. ومعلوم أن مجلس النواب ألغى في تلك الليلة الشهيرة - في ظرف ساعتين من الزمن - نصف شرائع الحكومة القديمة وقوانينها. وإذا أراد القارئ أن يطلع على مثال جلي طلي من تهكمه الفظ وانتقاده العنيف الشديد ليقرأ الفصول التي يصف فيها فرار الملك والمحالفة الوطنية في شأن دي مار والمشاغب التي نجمت عن قلة الحنطة واحتكارها. وكم مرة ردد في كتابه عن مجلس الأمة الذي نشل فرنسا من الهوة التي كادت تبتلعها قوله إن «قد اجتمع أعضاء المجلس ليصلحوا قواعد الأفعال الشاذة.»
قد لا يحترم كارليل إلا القوة المادية وكثيرا يكبر نزوات الإنسان وأهوائه ويمجدها، فهو لا يرى في نهضة الإفرنسيس على أرباب الظلم والظلام سوى خمسة وعشرين مليون معدة فارغة وخمسة وعشرين مليونا من الألسنة الملتهبة حماسة الملتوية جنونا في عالم من الفساد مضطرب مدلهم. فالخبز في مذهب كارليل هو سبب الثورة ونتيجتها هو الأول وهو الآخر، وأما المؤرخ الذي يعتقد بالصعود المتواصل بالترقي الدائم فهو لا شك يرى أن ليس بالخبز فقط يحيا الإنسان.
إن بين الكمالات النظرية والاختلال الحقيقي في حياتنا الاجتماعية علاقة خفية، تكاد لا تنظر بالعين المجردة ولا تتجلى دقائق الحكمة فيها إلا لمن خصتهم الطبيعة بشيء من البصيرة والذكاء وبنفس صافية شفافة صحيحة، تنعكس فيها الأشياء انعكاسا تاما جليا صحيحا. ولا شك أن بين ما هو كائن في تصوراتنا وما هو حادث في حياتنا فرقا ظاهرا، ومع ذلك فإن هذا إلا انعكاس ضعيف مختل لذاك، كأن العقل البشري اليوم أشبه بمرآة مكسرة لا تنعكس فيها الأشياء كما ينبغي. وألا يجوز لنا مع ذلك أن ننفخ في الحوادث روح الكمالات النفسية، فتبقى مدفونة فيها إلى أن ينشرها الزمان فتظهر ولو بعد ألوف من السنين بمظهر من الحياة سام نقي جميل؟ ألا نستطيع أن نمزج القليل مما هو كائن في تصوراتنا بما هو كائن حادث في حياتنا، ألا نستطيع - بكلمة أوضح - أن نزرع فيما نقص وفسد من الأعمال بذور ما تعالى من الآمال، لتنبت وتنور ولو في جيل بعيد بل آت من الأجيال.
هذه سؤالات يضحك منها كارليل الساخر بآمال الناس المستخف بتشوقات الروح الكمالية، فهو لا يمنحنا شيئا ولا يدعونا إلى شيء ولا يؤملنا بشيء، القوة الحيوية المادية التي تظهر في عظام الرجال وأبجال التاريخ إنما هذه في مذهبه كل شيء.
أنا آكلك وآخر يأكلني، براڤو! والأخير من البشر فريسة من يكون؟
ولا نظن أن المؤلف حاول أن يضع تعليما جديدا في الثورة الإفرنسية، فالمؤرخون - كما سبق القول - ينصرون الثورة أو يقاومونها، أما كارليل فشاء أن ينصرها ويقاومها معا. ولكن هي التخمة وعرض بل مرض آخر ولدا فيه السويداء فأصيب بالفتور والشك وأصبح لا معها ولا عليها، ولا نظنه - ولو شاء - يستطيع أن يؤسس حزبا ثالثا غير متحيز؛ لأنه في كل ما كتبه عن الثورة لم يبد قط رأيا وضعيا ثابتا يتخذه الحزب دستورا لأعماله بل كان كريشة في مهب الريح طوع تأثيراته وأسير وساوسه.
هل الملكية لازمة نافعة للناس، كلا، إنها مبنية على أساس فاسد، هل الجمهورية أصلح منها، كلا، فهي قد نشأت من الظلمة وشيدت على جثث الملايين من العباد، إلينا إذا بالفوضى، هذي هي نتيجة فلسفة غير المتحيزين من المؤرخين.
ناپیژندل شوی مخ