أما الجهاد العقلي المتواصل فقد ينفع العالم في الأحايين، ولكنه يضر بصاحبه دائما، وكلما شاخ الرجل كبر عليه دين عقله، وما قيمة ما يدفعه الفيلسوف المحاط بالحقائق المكروهة إلى هذا العقل المتطلب الكمال. قد شبهت النبوغ بمملكة ولكن أي رجل فاضل لا يخشى أن يكون ملكا فيها؟ القوي هو أقرب إلى السقوط من الضعيف، وكلما ارتفع المرء تكاثفت حوله غيوم الأخطار والمحن فلا تحسد الرجل الذي ألف هذا الكتاب ولا تعجب به، بل أشفق عليه، إن كنت شفوقا.
فتعجب الرجل من حكمة الشيخ السوداء وألبس تعجبه ثوبا من السكوت، وكانا قد دخلا الطريق التي تؤدي إلى قصر فرساي فمرت بالقرب منهما مركبة أطلت من نافذتها امرأة جميلة وصرخت إذ رأت الشيخ قائلة: ها هو جان جاك، ها هو روسو.
أما رفيق الشيخ فلبث مذهولا مبهوتا وسمع روسو يخاطبه بلهجة عنيفة وصوت حاد: أرأيت هذا، أرأيت هذا، لا يقدر جان جاك - على الأقل - أن يخفي نفسه عن الناس فالبعض يذكرونه باحتقار والبعض بإكرام وإعجاب، والجميع يدلون عليه بالأصابع ويظنونه ملكا مشاعا كهذا التمثال مثلا أو كتلك الخربة، فالمرء الذي ينال قليلا من الشهرة ويبتسم له النجاح يصبح سلعة يتصرف بها الجمهور. فكل امرئ ينبش في أرض حياته ويردد عنه أتفه الأمور ويمس بذلك حاساته ويجرح كرامته، الرجل، المشهور هو مثل هذا الحائط الذي يشوه بالإعلانات والتزاويق، ولعلك تقول إنني شجعت الناس على التداخل في شئوني الخاصة إذ نشرت شيئا من كتاب الاعترافات ولكن العالم اضطرني إلى ذلك. نظر الناس إلى داخل بيتي من الشقوق وعيروني فوجب علي أن أفتح لهم النوافذ والأبواب ليروني كما أنا لا كما يتصورون ويتوهمون.
الوداع يا سيدي، وإذا ذكرت الشهرة ثانية فاذكر أنك قابلت أعظم وأشأم بنيها.
وليم غاريسون
لا مراء في أن الناس يقرءون غالبا كل ما يكتب عن كبار الرجال ومشاهير الكتاب، ولكن ليس كل ما يكتب فيهم يستحق القراءة وليس كل ما يقرأ يحفظ وينقل، وقد يكون غالبا بين قصد الكاتب وبساطة القارئ أو تعصبه أودية ووهاد. أي: أن أكثر القراء لا يتفهمون أقوال الكاتب إلا بالناقص أو بالزائد، وقليلون من يزنون الكلام والمعاني بميزان المؤلف لا بميزانهم، أو بالحري بميزان العقل لا بميزان الحماسة أو البساطة أو الغيرة أو التعصب أو الكل معا.
وما الغاية يا ترى من هذه الملاحظات، هل هي مقدمة لأقوال جديدة في رجل عظيم جديد؟ لا، بل هي تمهيد صغير لكلمتين موجزتين في واحد من أولئك الكتاب المنسيين في ظلمة النسيان المحكوم عليهم بالخمول ظلما وعدوانا من جمهور الأدباء والمطالعين. وأما هوغو ورنان وتولستوي وغيرهم من النوابغ الذين تكثر من ذكرهم الجرائد والمجلات فأولئك لا خوف عليهم من الإهمال، بل الخوف كل الخوف عليهم وعلى شهرتهم الحسنة مما تتناقله الجرائد عنهم ويكتبه الكتاب عن مبادئهم وآرائهم وكتبهم.
نعم جئت أحدثك اليوم بواحد من أولئك الكتاب المنسيين الذين جاهدوا في حياتهم جهادا عظيما في سبيل الحق والحرية، وخدموا الإنسانية خدمات جليلة كبيرة. ولكن الإنسانية يا صديقي لا تعترف لبنيها بالجميل إلا إذا نبهت إليه بالأجراس والطبول والمدافع، إلى هذا الحد تبلغ بنا القساوة، وهكذا يحملنا الإهمال على نسيان من جنح في حياته إلى السكينة فتعشقها، وإلى الحق فكان من عبيده، وسعى سعيا جليلا عظيما عاملا عمله بنشاط وثبات وشقاء بعيدا عن التبجح والتصلف والادعاء؟ تعال معي أيها القارئ، امش ولو فرسخا بنور مصباحي، اسقط معي إلى ظلمات النسيان لنعيد إلى الحياة أحد أمراء تلك الديار، أفلا تحلو لك مثل هذه الرحلات، ألا يجدر بك هذه المرة أن تجيء معي وتصرف النظر عن زيارة المتحف المصري مثلا لتشاهد هنالك جثث الفراعنة الجافة المدثرة بالكتان المحفوظة في الزجاج؟ أنا أريك رجلا حيا بالروح لا تتقزز من رؤيته ولا يخيفك تجاعيد وجهه، تعال معي إلى دهاليز الآداب المنسية فأعرفك ببطل حقيقي.
وها أنا أدون الآن لأول مرة في اللغة العربية قصة هذا الرجل الصالح، قصة هذا المصلح الحقيقي الذي يجدر بكل من تعشق الحرية والحقيقة معرفته.
في أول يوم من السنة الحادية والثلاثين من الجيل الماضي نهض في مدينة بوسطن شاب فقير حقير أحرز شيئا من الأدب وأنشأ مع ما له من الجرأة والعزم والحماسة جريدة صغيرة دعاها «محرر الرقيق» ونشر في صدر مقالته الافتتاحية في العدد الأول من تلك الجريدة هذه الكلمات:
ناپیژندل شوی مخ