وإذا كانت معدتكم ضعيفة فإياكم وفلتر. وأما الذين يهوون الرجل ويحبون القيام تحت سلطته فإليهم أسر هذه الكلمة: قد اتضح لي بعد أن سامرته وآخيته وسهرت وإياه وسمعته يتكلم في نومه أنه أخطأ مرات في حياته، فما الفائدة من نكران سلطة البابا وخلع ربقة الكنيسة إذا كنا في حياتنا الجديدة نخضع لسلطة أخرى أشد وأعظم من تلك؟ سامروا فلتر وعيشوا في ظل نفوذه ولكن لا تخافوا أن تسألوه وتحتجوا عليه وتعترضوا على ما تظنونه غير مقبول من أقواله وغير مشكور من أعماله. اسهروا وإياه، راقبوه في نومه واسمعوه يفشي أسراره.
إن لحياة فلتر أوجها عديدة، ومن وجه يظهر لي أنه في عالم الأدب كأبي النواس في عالم المجون، فكما ننسب إلى أبي النواس كثيرا من الملح والنكات التي لا نعرف أصلها ننسب أيضا إلى فلتر كثيرا من الأفكار والأقوال الحرة التي مات قائلوها وهم يطلبون الشهرة.
وكثيرة هذه الأفكار التي لا نعرف منبعها، وكثيرون الكتاب الأحرار الصغار الذين عبثت بهم الشهرة وردتهم خائبين، فكم وكم من تحف الأقوال عبثت بهم الشهرة وردتهم خائبين، فكم وكم من تحف الأقوال وطرائف الأفكار التي انتشلها فلتر من وادي النسيان فنظفها ونحتها وجلاها ودمغها باسمه، وهل يلام على ذلك، ألا يحق له أن يدعي ملكية شيء أوجده الاجتهاد وحسنته الصناعة التي امتاز بها، وهل تنقص قيمة الفكر الجميل لأنه منتحل، نعم كان فلتر يسرق كبقية الكتاب والمنشئين الكبار، ولكن هؤلاء يختلفون عن صغار الكتاب في كونهم يسرقون ويحسنون ويعترفون بالسرقة وأولئك يسرقون فيمسخون وينكرون أنهم سرقوا.
اتهم مرة فلتر بأنه سرق بعض أفكاره من أحد زملائه، فأجاب متهميه قائلا بطريقته المشهورة ما معناه: إذا كان هذا الكاتب سبقني إلى ما كتبت فيكون قد سرق من الموضع الذي سرقت أنا منه. وقد قال غير مرة في نفس الموضوع ما معناه: وإذا أهداك أحد حصانا أتفحص أضراسه قبل أن تقبله؟ وكم من الكتاب الذين نقلوا قوله المشهور عن الله وفاتهم أن كاتبا رومانيا سبقه إليه. وإنما أعني قوله: «إذا كان الله معدوما فينبغي للإنسان إيجاده.»
وقد غاب عن بالي اليوم اسم الكاتب الروماني الذي قال هذا القول، وإني لأذكر أنه أخذ من القرآن قصة كاملة وأثبتها في إحدى رواياته دون أن يشير إلى مصدرها، وهي قصة موسى في سورة الكهف مع ذاك الذي أوتي رحمة من عند ربه وعلما، وأولها «قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا» ... إلى آخر الحديث. فأذكر أني قرأت هذه القصة منذ سنين في روايته التي تدعى جاديز، وهي مثبتة في الحديث بين الناسك وبطل الرواية.
كان فلتر واسع الاطلاع غزير المادة كثير التفنن في الإنشاء والترسل، وكان إذا احتاج إلى فكر ما أخذه من رأس النبع لا من المترجمين والناقلين والناقلين عن الناقلين والمترجمين كما يفعل الكويتب القليل الاطلاع القصير الباع، ذاك الذي وصفه الشاعر العربي بقوله:
فتى ينظم الشعر ولكنه
على ما علمنا يسرق المسروقا
تعجبني في فلتر حرية فكره وخفة روحه مع شدة لهجته وطلاوة أسلوبه ولطف تهكمه ودقة معانيه، وهذه خاصيات ومميزات تظهر في كل ما ألفه الرجل إن كان فصلا في فلسفة التاريخ، أو قصيدة تصف نكبة لز بن، أو رواية يسلق فيها اليسوعيين، أو رسالة يتهكم فيها على الإنكليز، أو كتابا يدغدغ فيه أحد أصدقائه من الملوك والأمراء. هذا ما له علاقة بأسلوبه وطريقته، وأما إخلاص النية في الأقوال وسلامة القلب في الأعمال فتلك مسألة فيها نظر، بل فيها نظران وثلاثة.
أنا لا أقول قول أعدائه فيه، معاذ الله أن أقول: إنه أول الخبثاء والماكرين وأكبر اللؤماء والدجالين، أو إنه مسوط الذكاء أرسل إلى العالم من قبل إبليس، أو إنه قوة الشر كلها متجسدة في إنسان، أو إنه خنزب أفلت من سقره ... وغيره من الأقاويل المضحكة التي يرمونه بها أولئك الربانيين الصالحين الواقفين على طرق العلم مسلحين ليصدوا كل من اجتاز من الأحرار بل ليوقعوا بهم ويسلبوهم ما تزودوه من الصالحات الباقيات، ويشوهون بعد ذلك وجه شهرتهم ويطوون - إن استطاعوا - ذكرهم في مكامن الحقود والأغراض. ولكنني اختلفت مع فلتر البارح وتأسفت لما رأيت أن الإخلاص الذي يصفه به محبوه هو كالإخلاص الذي يدعيه أكثر المؤلفين، أي: أنه زمني يظهر ويختفي ويشتد ويضعف مع الظروف والأحوال.
ناپیژندل شوی مخ