380

قلت للمستر ولز: إني تشرفت بالتعرف إلى شيطانه وإني أعرف شيطانا آخر يشاطره الذوق والأدب، وهو فذ بين أقرانه، شيطان عربي، تلفيق أديب عربي: «هل قرأت في كتاب ألف ليلة وليلة قصة إبراهيم الموصلي ليلة كان أرقا ضجرا - ولكنني أؤخرك عن موعدك.» - لا، لا، قصها علي، الناس في واشنطون لا يتعشون قبل الساعة التاسعة.

فقصصت عليه قصة إبراهيم والشيطان الذي زاره نصف الليل، فقال المستر ولز ضاحكا: «حقا هو لطيف كريم، يغني للمغني ليسليه.»

فقلت مصححا: «بل ليعلمه أغنية جديدة.» - نعم، نعم، وعل الشيطان أن يعلم العالم عقيدة جديدة» ومد يده يصافحني فقلت: «وقد يكفي أن يحرك العقائد القديمة فتبخر ثم تصفى. مساء الخير.

وكذلك انقضت ساعة لذيذة مع المستر ولز، إلا أنه غاظني بعد أيام في مقال أشار فيه إلى «السوري المسلم» الذي زاره، وما زرته ليكتب عني، ولم أتمالك أن بادلته «الفضل» في مقال لي، وكان قد ألقى المسيو بريان خطابه الشهير في المؤتمر فاستشاط المستر ولز غيظا ونسي تعاليمه الاشتراكية والدولية كلها في ما كتبه في فرنسا ومطامعها، فلقبته إذ ذاك بالأممي

10

البريطاني، ولم نجتمع لا حربا ولا سلما في واشنطون بعد ذلك.

2

في صباح يوم من يناير اشتد برده كانت السيارات الجميلة تتقاطر نحو البحر في نيويورك، فتقف أمام مرسى إحدى البواخر الكبرى ويخرج منها الأميركيون رجالا ونساء وقد جاءوا من أقاصي الولايات المت حدة وأدناها، وهم إلى السياحة التي فطموا عنها مدة الحرب أشد شوقا من الصياد إلى الطير ومن الطير المسجون إلى الفلا. أضف إلى هذا النشاط وهذه الحالة النفسية بهاء في الملابس والأمتعة، وأثرا ظاهرا في الغنى، وأمثلة باهرة في الجمال، فيتجلى لك رهط السياح الأميركيين بما يبهج العين، ويلمس القلب، ولا يمس العقل إلا نادرا، يوقظ العواطف ولا يحرك فكرا، وهم خلاصة الناس يرحلون مدركين أهمية الرحيل وأهميتهم، يفرون من برد أميركا طالبين الشمس في مهدها، راغبين بنسمات السحر في ال «ريفيارا»، وبعليل الهواء في وادي النيل.

وكنت قد ودعت نيويورك ومحجتي غير محجة السياح، وفي صدري أمل غذته السنون وتعهدته الحوادث، فما تلفتت مني لا العين ولا القلب عندما أبحرت «الأدرياتيك» ومرت بتمثال الحرية، كنت وحدي، ولم يخطر قط في بالي أن سألقى بين ذاك الرهط الفخم أحدا أعرفه، ولكني وأنا سائر إلى غرفتي التقيت على الدرج برفيق المؤتمر المستر ولز، وكان قد ودع واشنطون مثلما ودعت نيويورك وفي نفسه من المؤتمر ومن مهمته الصحافية ما أفصح عنه الوجه تعبا وضجرا، ولا غرو إذا كان قد سئم السياسة وراح يطلب زاوية في بلاد الله يفوز فيها بالعزلة وبشيء من النزهة.

قلت إن ظاهر المستر ولز لا يدل على حقيقة أمره، فهو أشبه بالتاجر الغني منه بالمؤلف والفيلسوف، ومع أن كلمة يكتبها اليوم يردد صداها في العالم المتمدن كله، ومع أن نفوذه الأدبي والسياسي أشد من نفوذ كثيرين من ساسة أوروبا، فهو على جانب عظيم من البساطة والاتضاع، لا تكلف في لبسه، ولا في حديثه، ولا في سلوكه، يعتزل الناس إلا ما كان فيهم من حسن الوجوه وحسن القدود، وهو من رسل الإطلاق في الحب بل الإطلاق في أمور عديدة من الحياة الدنيا، إلا أنه لا يطارد على ما علمت ولا يصول، قال لي أحد المسافرين وكان كرسيه إلى جنب كرسي: «يقال إن في نية المستر ولز أن يكتب لنا إنجيلا جديدا، فيا لها من مصيبة.»

ناپیژندل شوی مخ