ثم أشعل غليونه وبصق على الأرض (نحن في الدرجة الثالثة أيها القارئ، والخنادق تنسي الجندي ما تعوده من آداب التمدين).
أما الجزائري فأخرج لفائف من جيبه ووزع منها على رفاقه ثم أشعل لفافة ووقف أمام الشباك يتنشق الهواء. - ما قولك؟ أتنتهي الحرب في الصيف المقبل؟ - لو سألتني متى تنتهي حياتي لسهل علي الجواب. - وماذا يهم متى تنتهي الحرب ما دام وزراؤنا بخير. - سمعت أن الوزارة متزعزعة وأن وزير الحربية ...
الكلام للجندي الأمرد الذي قاطعه العمليق أبو اللحية هامسا كلمة في أذنه، فنظر الشاب إلي - إلى الغريب - وسكت.
التجسس! الحذر من التجسس! عادة ألفناها في هذه الحرب فكادت تمسي ملكة فينا كلنا.
وقد علمت بعد أن تعرفنا وتآخينا أنه ظنني تركيا أتجسس للألمان وكان في نيته أن يتبعني حيث نزلت ليتحقق أمري - ليتجسسني - ولكننا شربنا في «تولوز» كأسا على ذكر خطئه - ضاحكين.
بعدنا عن دوائر الحرب السياسية، ورحاها العقلية، فانقشع الجو قليلا، فتنفست الصعداء، وكانت كل ساعة تمر تبعد الجنود أميالا عن ساحات القتال فأحسست ونحن نمعن في السير جنوبا بارتياح منهم للحديث، وما لبث الأمرد أن تحقق أمري فقبل مني لفافة تركية، بل مصرية، بل أميركية منتحلة اسما عربيا! وأجاب متلطفا على سؤال سألته، أخبرني أنه من فيلق الأغراب الشهير. ولما علم أنني سوري لبناني هتف هتاف الدهشة والاستحسان، ونهض من مكانه فجلس إلى جانبي يحدثني بلهجة لا تحفظ فيها ولا تردد. - بلادكم جميلة، يا موسيو، أنا لم أزرها، ولكني قرأت للامرتين وشاتوبريان، وكان لي رفيق في الفيلق سوري، طالما حدثني عنها وشوقني إليها، السوريون شجعان، وأعرف منهم من نال صليب الحرب، زماني لا أنساهم، قد حاربنا جنبا إلى جنب في «شمباين» وفي «السوم» وفي «فردون» ونمنا في الحنادق جنبا إلى جنب، ولي منهم صديق عزيز.
مد إذ ذاك يده إلى جيبه فأخرج أوراقا بحث فيها عن صورة أرانيها. صورته وجندي آخر معه. - هذا هو صديقي اللبناني، اسمه سليم، سليم ... ولكننا قلما نذكر الأسماء الحقيقية في الخنادق، كنا ندعوه علي بابا - مازحين - وكان خفيف الروح، لطيف المعشر، حلو المزاح، ذكي الفؤاد، ينظم الشعر ويتغنى به. وكم من ليلة في فترات القتال كنت ورفاقي نجلس في الخندق على القش فيقص علينا قصصا شبيهة بألف ليلة وليلة، ويغني لنا الأغاني العربية فيطربنا ويضحكنا كثيرا. وكان يخبرنا بما هو جار اليوم في بلادكم فتتساقط الدموع من عينيه. مسكينة سوريا، مسكين لبنان، كنا نستمع حديثه آسفين غاضبين فنود لو كنا هناك لنكسر رأس التركي، لنشفي غليلنا منه، لنمحو من الأرض ذكره وأثره ... مسكين علي بابا! مسكين سليم! يا ليلي يا ليلي، لم أزل أذكر هذا النغم الذي كان يتغنى به في سكون الليل وظلماته.
ثم مال محدثي بوجهه إلى رفاقه وطفق يسرد هذه القصة، وكنت قد سمعت كثيرا من مثلها في باريس وتحققت شجاعة السوري في ساحة القتال تحت نار المدافع، وقرأت في الجرائد كثيرا من وصف غرائب الاتفاق التي خلصت من الموت كثيرين من الجنود المستهترين، ولكن علي بابا - الحديث للجندي. - في ليلة مقمرة مثلجة، سكنت هنيهة فيها مدافع العدو شعرنا بشيء من الضجر والملل فعقدنا الحلقة ونادينا علي بابا، فلم يجب، خرجت أبحث عنه فوجدته جالسا على كيس من الرمل خارج الخندق تحت الثلج ورأسه بين يديه، فاقتربت منه فإذا به يبكي، سألته الخبر فقال إنه وصله كتاب من آله في لبنان ينبئ أن ألوفا من السكان هناك ماتوا جوعا، وإن ألوفا من المنكوبين يهيمون في الحقول والأودية يلتقطون الأعشاب ليقتاتوا بها. فحاولنا أن نعزيه بما شاهده كل منا من أصناف الموت حولنا، والبعض أساء مداعبته فاستشاط سليم غيظا وطفق يلعن الأتراك وال «بوش» ويندب حظ بلاده، وفي تلك الآونة استأنفت المدافع هولها فجاء ضابطنا يقول: أريد منكم متطوعا، فكان سليم أول من لبى الدعوة، كأنه يئس من الحياة فاستهتر، أو كأنه أراد أن يطفي نار تغيظه في انتقامه من ال «بوش». «خرج سليم توا ليقوم بواجبه، خرج كالمجنون، فتتبعناه بنظرنا من خلال الأسيجة وهو يدب على الثلج خارج الخندق في ضوء القمر، دب حتى حاجز الشريط فنهض إذ ذاك قليلا وبين هو يجتازه ...»
كمل الجندي عبارته بإشارة أفصح من الكلام، ثم قال: وما هذا بغريب، كثيرون مثله أكلوا الشريط، كثيرون مثله ألبسوا إكليلا من الشوك، جاء الضابط ثانية يسألنا متطوعا آخر، فتقدم منا اثنان كنت أنا منهما، فراح الأول يحمل أوامر القيادة وخرجت أنا مسرعا لأنقذ صديقي علي بابا، دببت إلى المكان الذي سقط فيه فلم أجده هناك، بحثت ثم بحثت عبثا وعدت حائرا إلى الخندق، وكانت إذ ذاك مدافع ال «بوش» تمطرنا وابلا من النار، فقطعت الرجاء من عود السوري وتأسفت كثيرا عليه.
ولكن بعد ساعة أو أقل سمعت صوتا خارج الخندق يناديني باسمي، عرفت الصوت وخرجت مسرعا، فإذا بشبح على بعد بضعة أمتار استوى واقفا وخطا بضع خطوات وسقط ثانية على الثلج، سمعته يقهقه ورأيته يلوح بشيء في يده، فهرولت إليه فإذا به كما ظننت علي بابا وبيده رأس ألماني هالني منظره في ضوء القمر ... «ابصق بوجهه، رأس تركي، رأس غليوم، قطعته بيدي، خذ ابصق بوجهه ...» وكان يئن من جروح في زنده وكتفه دامية، وهو ينطق بمثل هذا الكلام ويهذي كالمجنون أو المحموم، حملته على ظهري وهو قابض على الرأس بلحيته يلوح به، وأسرعت عائدا إلى الخندق، ولكن قبل أن أصل أحسست برصاصة أصابتني بل أصابت حملي، أصابت علي بابا في ظهره فاخترقت قلبه. مسكين علي بابا، خلصني من الموت يا موسيو، لو لم يكن على ظهري لأصابتني تلك الرصاصة حيث أصابته. هذه تقادير الحرب.
ناپیژندل شوی مخ