وبعد أن وقفت في القبة بعيدا عن ضجة الأشغال وحركة التجارة وصياح باعة الجرائد وضوضاء الأرتال والمركبات تنشقت الهواء النقي الذي يندر في البيوت والأسواق، تنشقت منه مقدارا وافرا وسرحت نظري فيما تحتي من السطوح وما فوقها من المداخن التي يتصاعد منها الدخان على الدوام في النهار وفي الليل، فخيل لي أن هذه المداخن أفواه براكين هائلة تنذر بقدوم انفجار عظيم، فكأنها أيادي أولئك المعدنين السوداء مرتفعة نحو السماء ليصرف الله عنهم البلاء، وكأن الدخان المتصاعد من أناملها هو الفائض من دخان الظلمات التي يسكنها المعدنون ويحفرون فيها، ساكتين صابرين.
ألوف من المداخن تنفث في وجه السماء روحها الغازي رافعة إلى الخالق احتجاجها على القائلين بحركة العمل المستمرة، بالحركة الدائمة التي لا يتخللها راحة ولا هدوء. تأملت هذا الدخان مليا ونظرت في تكوينه وأشكاله، في اجتماعه وتبدده، في صعوده وسقوطه، في انسلاله وهجومه، فرأيت هنالك أشباحا وحشية ترتفع تارة وتنخفض أخرى وتهجم على الهواء هجوم الزوابع في الفضاء فكأنها تريد إفساده بنفسها الغازي القتال. هي أمواج بخارية تتلاطم وتنتفخ وتتبدد في الجو، هذه تشبه حية تنساب وتختفي وتلك تشبه جاموسا يشول برأسه وينطح بقرنيه السماء فيعود منهزما مسحوقا متبددا في الفضاء.
أغمض الطرف قليلا وعد معي إلى عالم التجارة والعمل! ألا ترى لتلك الأشباح والهيئات المرعبة أمثالا في الهيئة الاجتماعية، ألا ترى كيف هذا الجاموس في البورص ينطح تلك النعاج الصغار فيقتلها، ومن ثم ينطح خالقه فيقتل نفسه، ألا ترى تلك الحية في الهيئة الاجتماعية تنفث سمها في الإخوان ولا تلبث أن تنفد قوتها المميتة فتتلاشى كما تتلاشى أمواج الدخان. أترى هذه المداخن فوق هذه السطوح؟ لينفذ بصرك في الضباب المتصاعد منها فترى ما ورائها من الشقاء والبلاء، من الويل واللأواء.
إن وراء هذه المداخن وإن شئت فقل تحتها ألوفا من الأرواح البشرية التي تضرب بالمعاول تحت الأرض اثنتي عشرة ساعة كل يوم؛ فالدخان هو روح الفحم الذي يحترق في الألوف من الأكوار والمواقد والأتن. ومع الفحم أيضا تحترق أرواح أولئك الرجال والأولاد الذين يعدنون في ظلمة قتالة لا يدخلها الهواء ولا النور ولا الماء إلا بالطرائق الصناعية، فهم يستخرجون الفحم وهم يحملونه إلى الأرتال التي تنقله إلى المدن والقرى، هو عملهم المقدس الذي يحترق الآن أمامك ويذهب أدراج الرياح، نعم إن نتيجة عملهم للعالم عظيمة ولكنها لأنفسهم عقيمة، هي كالدخان الذي يتبدد الآن تحت عينيك.
لا بد لنا من الفحم في الوقت الحاضر، ولكن أيبطل في المستقبل استعماله؟ إن كثيرا من البيوت الآن تستعيض عنه بالغاز للطبخ وللدفاء وبعض شركات السكك الحديدية تستخدم عوضه الكهرباء، نعم قد تنفد المعادن يوما من الأيام فيحرر المعدنون من العبودية التي لا مثيل لها حتى في العبوديات القديمة - العبوديات التي أبطلت بحد السيف وسفكت من أجلها دماء الأحرار.
لا يمضي شهر إلا ويحدث في معادن الفحم في هذه البلاد وفي غيرها كوارث تقضي على مئات وألوف من المعدنين بالموت السريع، فكم مرة انهالت الأرض على أولئك المستعبدين وهم على أشغالهم تحتها مكبون قانعون فأيمت ألوفا من النساء ويتمت ألوفا من البنين، فضلا عن استخراج الفحم فإنه تمثال الموت التدريجي البطيء، فكل معدن يموت بحكم الطبع منتحرا؛ إذ ليس الانتحار محصورا بتجرع السم وباستنشاق الغاز وبإطلاق المسدس، لا، الرجل الذي يضطر أن يشتغل مع بنيه الصغار تحت الأرض فيحرم الهواء النقي والنور وجمال الفضاء لا يموت أبدا موتا طبيعيا، والهيئة الاجتماعية التي لا تقوم إلا بشقاء فئة من بنيها هي هيئة مظلمة مختلة، هي هيئة فاسدة تفتقر إلى كثير من الإصلاح والتعديل والتحسين. قد تقدمنا على ما يزعم بعضهم في الحضارة والتمدن، وقد حررنا على ما نعلم العبيد وأطلقنا الحرية في بلاد الغرب لكل امرئ، فقيرا كان أو غنيا، ولكن العبودية الجديدة تظهر في مظاهر مختلفة وأثواب غريبة. فماذا ينفع السجين قولك له: أنت حر، ماذا ينفعه تغيير ثوبه المخطط بثوب الرجال الأحرار إذا ظل راسفا في سلاسل الحديد مسجونا في غرفته المظلمة.
قد تغيرت القيود وتنوعت السلاسل واستبدل النخاسون بغيرهم، تعددت الأسباب والموت واحد، إن في الولايات المتحدة من العبوديات أنواعا وأشكالا، فهاك العبودية في المعادن، والعبودية في آبار الغاز، والعبودية في معامل الأنسجة، وفي عالم العمل على الإطلاق، فمتى يا ترى يتحرر الإنسان حقا، وتشمل السعادة والراحة كل أسرة بشرية.
كفانا تأملا في المعادن والمداخن والدخان، لنعد إلى عالم التجارة لنسقط إلى ساحة الجلبة والحركة والضوضاء، ها قد صرت في الشارع أسمع باعة الجرائد ينادون على جرائدهم: أخبار أخيرة! أخبار مهمة! فابتعت نسخة من جريدة المساء وعدت إلى البيت تحت ضباب الفكر وبين دخان النفس ولهيبها، فجلست إلى الكانون وقرأت الخبر الآتي:
اضطراب هائل في البورص وسقوط عظيم في الأسهم! قد بلغت الخسارة في ساعة واحدة خمسين مليون دولار بسبب سقوط الأسعار الفجائي.
خمسون مليون دولار تخسر وتكسب في هنيهة من الزمن وألوف من المعدنين يضربون بالمعاول عشر ساعات في النهار ويخاطرون بأرواحهم وأرواح بنيهم في الظلمات الكالحة تحت الأرض من أجل دولار أو دولارين! ما أجمل هذا العالم يا صاح، وما ألطف هذا التمدن الحديث الذي يأتينا في كل شارقة وبارقة بمثل هذه الغرائب الخارقة.
ناپیژندل شوی مخ