إذا كنت حوذيا فحب خيلك كنفسك وإذا حرن حصانك مرة فدعه يحرن مرتين أو ثلاثة قبل أن تحرك سوطك، واذكر أن تحت الجلد الذي تسيطه خيوطا وعضلات حساسة تشعر بالألم كما يشعر به كل مخلوق حي، فكن شفوقا إذا، ولا تضرب خيلك فترهقها وتهلكها.
إذا كنت فقيرا فلا تحسد الغني وليكن لك تعزية بأنك آمن من تعدي اللصوص وغدر الفوضويين.
وإذا كنت - أيها القارئ - عاقلا حكيما تجد ما يهمك ويفيدك في هذه العظة أو في هذا الجدول، فتش عنه واعمل به ونبه إليه صديقك وجارك، وها أنا ذا أهنئك سلفا وأهديك سلامي.
من على جسر بروكلن
أحبك يا نويرك على ما فيك من حركة وضجيج وازدحام، أحبك على ما فيك من غريب الخزعبلات والأوهام، أحبك وإن كنت لا تحفلين بما يحمله شعراؤك من جميل الأحلام، أحبك لا من أجل ملاهيك الحافلة وحدائقك الزاهرة وصروحك الشامخة ومنتزهاتك الفسيحة الباهرة، ولا من أجل بناتك النشيطات الجميلات أو نساءك المترجلات، بل أحبك من أجل جسرك العظيم فقط، ذلك الجسر الذي يراه المرء في الليل عن بعد وقد أضيء بالأنوار المتنوعة الألوان فيظنه القسطان.
ومحبتي لهذا البناء الحديدي العظيم محبة الصانع لشيء جميل يصنعه، أحبه كأنه ملكي الخاص، أحبه كأنه صنعة يدي، وكلما داهمتني جيوش الهموم واليأس سرت إلى الجسر وحصنت هناك نفسي، هناك أنصب خيامي وبين أبنية المدينتين أرفع علمي، وأجيش من النور والهواء جيشا جرارا فتتبدد أمامه غيوم الغم ويذوب ثلج الأكدار، فأقف إذ ذاك منتصرا والهواء البارد النقي يورد خدي، أقف في منتصف الجسر فوق المراكب والبوارج الجارية تحتي وبين العربات والأرتال المارة عن يميني وشمالي وأتهلل بفوزي المبين - بفوز النفس على الهموم المحدقة - على الرزايا التي تغشيها، لا جرم أن من يقطع الجسر ماشيا كل يوم يستغني في حياته كلها عن الطبيب والكاهن والمحامي - يستغني عن الطبيب لأن الهواء النقي والمشي هما الطبيبان الحقيقيان، يستغني عن الكاهن؛ لأن المشي يساعد على التأمل والتأمل يسمو بصاحبه إلى ما فوق السفليات ويعقد بين خالقه وبينه ذاك الاتحاد الذي تتوق إليه كل نفس بشرية سامية، ويستغني عن المحامي ؛ لأن النفس إذا استجمت كل يوم في نور الشمس وانتعشت من نسيم الصباح وناجت في الفجر خالقها يتولد فيها للخصام كره شديد.
ألوف من الناس يقطعون الجسر كل يوم، ولكن كم هو عدد من يمشون ولا يخاطرون بأنفسهم في الأرتال المزدحمة؟ عددهم أقل من عدد الحكماء في العالم. على الجسر طريق رحبة خاصة بالمشي وطريقان ضيقتان لسكة الحديد والمركبات الكهربائية، وإذا اعتاد جمهور الناس أن يعبر الطرق الضيقة في الحياة ترى الأرتال أبدا مزدحمة وطريق السير الواسعة أبدا مهجورة.
قطعت الجسر ماشيا على عادتي ذات يوم من أيام الشتاء الشديدة الرياح الكثيرة الأمطار، فكم من شخص تظنني صادفت في طريقي؟ رجلا واحدا وبوليسين، أما البوليسان فلا فضل لهما في قيامهن هناك ولكن الشخص الآخر جدد في الرجاء، ما أجمل المطر على الجسر وعلى النهر تحته وما أقبح قعقعة المركبات والأرتال وقد شحن فيها الناس كالمواشي ما أشقى هؤلاء الناس، ما أثمن أوقاتهم وما أرخص حياتهم ما أعظم أشغالهم وما أصغر أعمالهم، هم يخافون على جلودهم من الأمطار ولكنهم لا يخافون على رئاتهم من جراثيم الملاريا والسل. يهربون من الهواء النقي ومن تحت سماء الله الواسعة؛ لأن ذلك تستوجبه التجارة، يكرهون المشي؛ لأنه مضر بأشغالهم فبئس الأرباح ونعم الخسارة، يرى السائر على الجسر أن الطريق الجميلة الرحبة قد خصصت به وبقليل من مثله فإذا مشى هناك يقدر أن يرفع يديه إلى العلا ليمجد خالقه دون أن يسيء إلى أحد، ويقدر أن يتنشق الهواء مليا غير ممزوج بهدروجين البشر.
ولكن لننظر في المسألة من وجه آخر، لو كان كل من يقطعون الجسر حكماء تهمهم صحتهم أكثر من تجارتهم لازدحمت طريق المشي الرحبة وأصبح هواؤها كهواء الأرتال، سبحان من دبر الأمور! فالطرق الفسيحة جميلة لأن عابريها قليلون، لتزدحم الناس مع جراثيم الملاريا والسل إذن وأنا أمشي مع إخواني وإن قل عددهم على طريق الجسر المتنكب عنها وتحت سماء الله.
وفي مثل هذا اليوم وقفت على الجسر بعد الغروب بنصف ساعة وسرحت نظري في مرفأ نويرك الواسع المستدير الجميل، المرفأ الذي لا يخلو دقيقة واحدة في النهار أو في الليل من البواخر والقوارب والمراكب واليخوت. بواخر قافلة وسفن حافلة وقوارب راسية وزوارق تشق العباب ذاهبة جائية، وهناك في جنوب المرفأ ترفع الحرية رأسها قائمة على أركانها لتضيء العالم الجديد بضوء نبراسها، رأيتها تلك الساعة تشعل مصباحها في الوقت الذي ظهر فيه البدر من وراء مدخنة في مدينة بروكلن فخيل لي أن تمثال الحرية محطة للقمر على الأرض يصل إليها نوره فتعكس الأشعة بعد أن تجتمع على وجهها الجميل وتذكر العالم الجديد بثبات هذا الكوكب القديم، فقلت في نفسي: متى يا ترى تصير الحرية مثل هذا القمر فتوقد مصباحها لا في الغرب فقط بل في الشرق وفي الجنوب وفي الشمال - في العالم بأسره.
ناپیژندل شوی مخ