255

فأجاب على الفور: «هذا كلام يا سيدي، لما بيصير في فلوس ما بيعود في حب.»

وكبس على السكة برجله، ووكز الفدان بمساسه، ترح هه! وعاد إلى فلاحة أرضه.

أيتها الأرض المباركة! ليت قلوب أبنائك كقلبك حية محيية، وليت ضمائر أبنائك كضميرك الذي لم يزل - والحمد لله - طيبا متنبها متيقظا، نعطيه الحبة فيعيدها إلينا عشرين حبة وخمسين.

ولكن في الكوره فضيلة جميلة غير فضيلة الأرض لا ينبغي أن أغفل ذكرها: الكوره، على ما فيها من جهل وطغي وفساد، ترفع اليوم علم التعليم الوطني الحر في لبنان، هناك إلى جنب المفسدات السياسية عثرت على شيء من دواء أمراضنا الاجتماعية والأدبية، إذا أحسن استعماله كان الدواء الشافي لها كلها. عرجت في عودتي على أنفه وزرت تلك الزاوية الصغيرة المقدسة فيها، القائمة فوق الصخور، على شاطئ البحر، حيث تزرع اليوم آمال الأمة في الناشئة الجديدة. هناك حسنة من حسنات التعليم لم أر مثلها في لبنان، مدرسة لا طائفية ولا إكليريكية ولا أجنبية، مدرسة وطنية صغيرة في ظاهرها، كبيرة في مقاصدها، يؤمها البنات والصبيان من سائر الطوائف والملل ويتلقنون فيها تحت سقف واحد مبادئ الإخاء الحقيقي، والعلم الصحيح، والحرية الصافية، وحب الوطن المقدس، يتشربون فيها روح الألفة وروح المعرفة معا.

لست يا سادتي بماسوني، ولكن مدرسة صديقي جبران المكاري، وإن كنت لا أستحسن بعض الجزئيات في طرق التعليم فيها، إنما هي من طلائع الكلية اللادينية الوطنية الحرة التي ننشدها، والتي يتوقف عليها وعلى أمثالها إحياء المبادئ الشريفة في هذه الأمة، بل إحياء روحها الوطنية المائتة، وبعث ما دفن من آمالنا، نحن الأحياء القلائل، نحن أبناؤها المبشرين ببعث مجدها، المرشدين إلى سبل الهداية فيها.

هناك فوق تلك الصخور على شاطئ البحر شاهدت طلائع ثورة في التعليم نبهتني إلى موضوعي الليلة، ولا غرو، فنحن في زمن ثوراته أكبر ما فيه، وإن لم يمسسنا الله اليوم بغير الضر منها فذلك لأن أولياء الأمر فينا لم يدركوا من مبادئها غير القشور، وأن في لبها إذا ظفرنا به لمنافع جمة وخيرا عميما، لذلك اتخذت «روح الثورة» موضوعا أحدثكم به الليلة علنا نخترق القشور فنغذي بلب الحقائق عقولا أوهنتها الترهات، ونقوي بها أنفسا أقعدها الجهل والخمول.

أيها السادة والسيدات

من فضائل أجدادنا أرباب النبابيت ما يعد اليوم رذيلة، ومن وحوش الماضي الهائلة لم يبق غير هياكل في متاحف العلم والتاريخ. ومن مواعين الأسلاف أصحاب الأناقة ما لا يصلح اليوم لبيت الفلاح، ومن أديان الأقدمين الإلهية والحيوانية لم يبق غير المتهدم من أنصابها والطامس من رموزها ورسومها، إن آلهة الإنسان لمثل مواعينه لا تصلح مدى الدهر، نشعل النار يوما أمامها، ويوما تحتها، ويوما فيها. نقدم المحرقات اليوم، ونحرق المعبودات غدا، الثابت في الحياة ثابت إلى حين، وأما الانقلاب فثابت إلى الأبد، أجل إن يدا سرية علوية تعمل أبدا في الأمور وفي الأشياء فتحولها وتغيرها وتبدل منها.

التطور سنة الحياة في الجزئيات منها والكليات، في العلوم وفي الأديان في السياسة وفي الأمم، في الطبيعة وفي الناس. خذ شيئا واحدا من أشياء الأقدمين وقابله بما نشأ منه وقام اليوم مقامه فتكاد تجهل الأصل، وتدهشك درجات التحسين فيه والارتقاء، وقفت مرة في أحد المتاحف الأوربية أمام معرض من السلاح، فرأيت أدوات الحرب والقتال كلها مصفوفة بحسب تاريخها ورقيها، أولها النبوت الشوكي الذي قطع من الغاب لقتل وحوشها، وآخرها البارودة الحديثة التي يطلق بها عشرين مرة في الدقيقة، وقد اخترعها الإنسان لقتل الإنسان، فقلت في نفسي: وفي المستقبل تمسي البارودة هذه مثل نبوت الأولين أثرا من الآثار، بيتها المتحف وبارودها الصدأ.

ولا شك عندي أننا وإن كنا ابتدأنا بالنبوت الشوكي وتدرجنا منه إلى الغواصات والطيارات الحربية سنتدرج أيضا إلى الحجة والبرهان، إلى التشريع والسلم العام. ولكن الانقلابات في زمن السلم أعظم منها في زمن الحرب، وروح الثورة حية ثابتة أبدا، روح الثورة كائنة في كل الأمم وفي كل الأماكن وفي كل الأزمنة، وهي في الناس وفي الطبيعة عاملة دائما، إما خفية وإما ظاهرة، إما هادئة وإما هائجة، إما بانية وإما هادمة.

ناپیژندل شوی مخ