التقيت في الشارع الجديد «ببيروت» بسيدي الأستاذ ناصر الدين وهو يمشي بين خطي «الترام» منكسا رأسه يناجي نفسه، فجبهني بعد السلام بكلمة من كلماته القاسية شأنه كل مرة نتقابل. - جنيت يا ريحاني علي. - بم؟ - أوتسأل متجاهلا؟ ألا تعلم - رعاك الله - أني أتمثل دائما بقول الشاعر:
وخمول ذكرك في الحياة سلامة
ودهاك من أمسى لذكرك ناشرا - ألأنني بحت إلى القراء باسمك ووعدتهم برسمك؟ - هو ذاك. فما الاسم والرسم والجسم غير أشراك للأنفس وحبائل للعقول؟ المرء بأفكاره، ولكنكم معشر الكتاب تعنون بزخارف الشهرة وتلهون بالأباطيل، أما الحقيقة فلا تعرفكم ولا تعرفونها، وإذا اجتمعتم بها مرة في الزمان تجاملونها ظاهرا وتلعنونها سرا، شأنكم وأسيادكم. وما الفائدة يا ترى من شهرة تطلبونها، وأسماء تذيعونها، ورسوم تزخرفونها؟
سمادير والله وترهات! جاءتكم من أوروبا فحسبتم الحياة لغوا بدونها، أي فضل لشهرة لا تجديكم نفعا في غرة كل شهر حين يتقاضاكم الخياط والإسكاف والفراش والبقال والحمال؟ أتنقدوهم من ذائع صيتكم؟ أتهدونهم جميل رسمكم؟ أتحبونهم من ترهاتكم؟ أتتلون عليهم من رطاناتكم؟ أشعلوا النار وانفثوا في العقد حاوتكم. هيهات، هيهات، خذها مني، لتأكل النار يوما سماديركم كلها وأوهامكم، نار الفكر، نار العقل المقدسة لتحرقكم أجمعين. أما أفكاري فإذا كانت تفيد فهي لك، بثها في الناس، وادعيها - إن شئت - ما قيل، لا من قال، والفكر الذي لا يقبله الناس إن لم يدعم بشهرة باطلة أو باسم كبير رنان لا يستحق أن أحرك من أجله أناملي أو لساني.
الحقيقة تنبو عن الطبل والزمر، وإذا أغفلت زمنا وشعرت بدنو أجلها تلجأ إلى السيف فينميها ويعيدها عزيزة ظافرة، خذها مني، ودعني في خمولي آمنا شر الناس، بعيدا من ضوضاء الشهرة، مرتاحا من تكاليف الحياة الاجتماعية، ضوضاء الشهرة؟ إن مسامعي لتستك منها ولتنبو عنها، أما ضوضاء الثورة - صليل السيوف وقرع الرماح ودوي المدافع - فمثل الأغاريد في أذني.
وبينا هو ينثر من حكمه وبيانه، ويكنس الهواء بأردانه، إذا بجرس «الترام» يدق، وحمال ينق، وحوذي يصيح، وحمار يحلف بالمسيح، وأميركي تعثر في الزحام و«كدم»،
1
وظريف سمع الأستاذ ينطق بالفصحى فتهكم: استفيقوا، إنكم في الطريق فاستفقنا، وإلى الرصيف تسابقنا، ولكن الأستاذ وقد صدمه الحمار، تعوذ واستجار، وصاح: يا للعار وللشنار، أتيس يسوق؟ ووحوش تفلت في السوق؟ فضحك سائق «الترام» وتنطس في الفك والإدغام، ونادى الحوذي: يابو مشمش اللوزي، ظهرك، رجلك، فذعر صاحب الطبق ووثب، وقد شاهد المنية عن كثب، فنطح الأستاذ في قفاه، وراح يلعن أمه وأخته وأباه، فضربه الحوذي بالسوط فلم يصبه، ولكنه أصاب من سيدي ناصر الدين أذنه، وعلق بجسر العربة ردنه، فانشدح وزحف، ورسا على الرصيف وتلهف: يا ما أحيلى البعير العاري، تجوب به القفار والصحاري، ومسح العرق من جبينه، وهو يضحك في كم الفلسفة من حينه. - أي - والله - فردن ممزق، رحمة في مثل ذا المأزق. - والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، رب زحام، فيه كأس الحمام. - تمام، لا بارك الله في المدينة وبهرجها، أما وقد نجونا من مهلكاتها هذه المرة - وقد لا ننجو منها مرة أخرى - فلا بد من خطبة أخطبها غدا في المسجد، وأحب أن تسمعها. وبما أن المسجد الذي أصلي فيه صغير ولا يعرفه من الناس غير المقيمين بجواره؛ أدلك اليوم عليه فتؤمه صباح الغد فتسمع خطبة عربية (ومكن اللفظة الأخيرة ووقف عندها) خطبة عربية بليغة وجيزة، لا كالخطب العصرية التي هي أطول من شهر رمضان، وأبرد من ظلف الظربان. خطبكم العصرية؟ إن هي إلا رسائل جافة عقيمة حرية أن تنشر أو بالحري أن تدفن في مجلاتها العلمية التي لا يطالعها غير المتنطسين - أدام الله تمكينهم - مجلاتنا العلمية التي لا تزيدها السنون إلا قشورا .
وكاد الأستاذ يذهل ثانية فيقف غضبا ناقما في قارعة الطريق لو لم أستوقفه على الرصيف ريثما ينتهي من كلامه، وما خلته ينتهي وموضوعه مجلاتنا العلمية.
وكان وقوفنا قدام دكان تباع فيه الأسلحة، وصاحب الدكان صديق الأستاذ - ولا غرو - فبادره بالسلام وسألنا أن نشرف المكان، فقال الأستاذ على الفور: إن ما في حانوتك ليشرف الإنسان، أفلم يقل الشاعر:
ناپیژندل شوی مخ