حكم عبد الحميد ثلاثا وثلاثين سنة وهو لا يحسب أن في العالم من ينبغي أن تراعى حقوقهم وحياتهم سواه، فماذا كانت عاقبة بغيه وجوره وأثرته.
لا أنكر أن نظرة عمومية سطحية في أحوال الإنسان الاجتماعية ترينا الشرير يسعد بشره والصالح يشقى بصلاحه، ولكن ذلك لا يكون إلى الأبد، وإنما يظهر كذلك لمن لا ينظر في الأمور إلى ما وراءها لمن لا يرى في الحياة غير ظواهر الحوادث، مات كثيرون ممن قاسوا أليم العذاب من الدور الماضي دون أن يشاهدوا نكبة سلطانه وأعوانه، ماتوا يائسين من الحياة التي ينتصر فيها مثل هؤلاء الأشرار الكبار، ولكن قصر نظرهم فيئسوا.
ولو تشوفوا إلى المستقبل وكان إيمانهم شديدا بالعناية التي لا تترك الأثيم عزيزا إلى الأبد لما ماتوا يائسين، إن ما نراه نحن اليوم مثلا ونفر منه ساخطين حانقين يراه غدا آخرون فيستجلون فيه اليقين، إن شر الأمس لينتج اليوم خيرا وخير اليوم قد ينتج غدا شرا. أجل سادتي إن في الأشياء والأكوان عناية لا يعقلها الإنسان ولا يدركها أرباب العرفان، إن في الحياة أسرارا تدك العروش وتزعزع الجبال لو تجلت كلها دفعة واحدة في آن واحد.
ولكنه - تعالى - عليم رحيم فهو لا يمكننا إلا مما نحتاج إليه من القوات الخفية في الحياة، فنستخدمها لخيرنا لو عقلنا لمنفعتنا، ونقف صابرين هادئين ثابتين أمام مفظعات الوجود ومبهجاته، وعندي أن هذه الأسرار تتجلى للإنسان تدريجيا على حسب ارتقائه العقلي والروحي؛ ذلك لأن الحياة سلم أوله الحيوان ووسطه الإنسان وآخره الملاك. وقد يأتي يوم يشاهد فيه أبناء الأرض رجل المستقبل العظيم وقد ترقت فيه القوى الحيوية كلها، أي: القوى الحيوانية والبشرية والإلهية، إلى منتهى الدرجات. الإنسان مركب من هذه كلها وقواها كامنة فيه إلى الأبد، فإن رعى إحداها دون الأخرى يقف في سلم الارتقاء وطبائع الحياة فيه ناقصة فاسدة.
نعم إني ممن يعتقدون بالنشوء والارتقاء ولا حاجة إلى أن يؤيد العلماء اعتقادي، فإني لمؤيده بما أعرفه وبما أجهله من لوح هذا الوجود، من الحياة ومن الأكوان، إن في نشوء الأنواع وارتقائها عناية إلهية عظيمة، والناموس الطبيعي الذي يكثر من ذكره العلماء إنما هو مشيئة الله في الأشياء. إني لأرى يد الله في كل مظهر من مظاهر الحياة، وأؤمل أن أرى - ولو بعد موتي بمليون من السنين - روح الإنسان متجلية في كل مظهر من مظاهر الله.
أراني تجاوزت الحدود الوهمية التي حصرت هذا الموجود ضمنها، فأصبحت والماضي والمستقبل يتجاذبان في المعقول والمحسوس، وكيف نستطيع أن ننظر في الحياة نظرة بعيدة صائبة دون أن نتلفت إلى الماضي ونتشوق إلى المستقبل. كيف يمكننا أن نقيسها لنعلم قيمتها وكل شيء فينا وحولنا ينطق بما مضى وبما هو آت مما هو قسم جوهري من الحياة البشرية. أحببت أن أحصر الموضوع في الحاضر لأريكم أن الحياة - وإن كانت مادية - لا يستطيع الإنسان أن يذهب فيها حسبما يشاء ويسترسل إلى ملاذه وأهوائه دون أن تخثر نفسه، فيغلظ شعوره، فيكثر عثاره، فيشتد بلاؤه.
وإن شقاء الناس اليوم لناتج عن هذه الحياة المادية الحيوانية التي يكبرونها ويعززونها ويعرقون دما في سبيلها. ألا إننا نعيش اليوم كما لو كانت الحياة منحصرة في البورص والمخزن وغرفتي الطعام والنوم، نعيش كما لو كانت قوام الحياة في جمع المال وفي تربية دود الأهواء والشهوات، ويا لها من دود تحوك للنفس وللجسد أكفانا من الحرير.
نعيش كما لو كنا آلات هضم وأكثرها في هذا الزمان مصدئة، وأنصاب مجد وأكثرها متهدمة، فالسياسي لا يرى في الحق قوة تستحق الاعتبار إن كان الحق لا يؤيده في ضلاله وفساده، ورجال الدين يصمون آذانهم عما جاء في كتب الدين من سديد التعاليم ويستخرجون من بعض الآيات والعقائد قواعد تمكنهم من الضغط على الأنفس والعقول لتكون لهم في ذلك سلطة ما أنزلها الله على أحد من الناس، والصحافيون يزفون ثناءهم لهذا الخاطب ويبذلون شهادتهم لذاك الطالب؛ حبا بإعلان أو اشتراك يحرزونه.
أو أنهم يوقفون الحق على رأسه غواية ونكاية، أو أنهم يتحاملون على الناس، ويثيرون المفاسد والفتن حبا بالظهور والاشتهار، والغني فينا يعيش كما لو كانت الأموال تقيه الموت وتكسبه الخلود، والتاجر يضرب أخماسا لأسداس ليل نهار فيستنبط طرقا بل حيلا جديدة للكسب والإثراء، والوجيه الفاضل الواقف على شفير الإفلاس يكتد الفلاحين الفقراء ويعرقهم ليؤيد فيهم منزلته العالية ومقامه الرفيع الشأن.
ترانا نعيش كأن الحياة بنت يومها منحصرة بين شارقة وغاربة، مركبة من أمشاج لا أثر فيها للعقليات والروحيات، بلى، نعيش كما لو كنا مركبين من ألسنة ومعد وأكباد فقط، فنحسن اللقلقة والكبكبة والشر الثالث الذي ذكره النبي في حديثه الشريف ولا نحسن سواها، نعيش لأهوائنا وأطماعنا وملاذنا ... نعيش لمجد في العالم باطل، نعيش لوجاهة فينا فارغة، نعيش لأزياء تستعبدنا، لعادات واصطلاحات تسوقنا إلى المذلات.
ناپیژندل شوی مخ