بسم الله الرحمن الرحيم والاعتصام بالعزيز العليم الحمد لله رب العالمين حمدا ينبغي لكرم وجهه، ويليق بعز جلاله زنة عرشه، وعدد علمه، ومداد (1) كلماته، وملء (2) أطباق ملكوته.
مخ ۲۱
والصلاة السامة التامة على خيرته من خليقته محمد أكرم المصطفين من بريته، وأوصيائه الطاهرين حملة العلم، وخزنة الوحي من الأصفين، من خاصته الأزكين من عترته.
وبعد: فإن أحوج المربوبين وأفقر المفتاقين إلى رحمة ربه الحميد الغني محمد بن محمد يدعى " باقر الداماد الحسيني " - ختم الله له في نشأتيه بالحسنى، وسقاه في المصير إليه من كأس المقربين ممن له لديه لزلفى، وجعل خير يوميه غده، ولا أوهن من الاعتصام بحبل فضله العظيم يده - يملي على قلوب العقول، ويتلو على أسماع الألباب أن من المنصرح في مصاره، (1) المقتر في مقاره أن المعجزة القولية في العقول الصريحة أوقع، والخواص من العقلاء المراجيح (2) لها أطوع.
والقرآن الحكيم من التنزيل الكريم - مع كونه أفضل المعجزات وأجملها، وأعظم الآيات وأجزلها - لبقائه من دونها أدوم البقاء مدى الأبد، وثباته أقصى الثبات بلا أمد، فهو بما أنه من حقائق الحكم، ودقائق البلاغة، وراء ما يتناهى، بل ما لا يتناهى بما لا يتناهى أبلغ ناطق وأصدق شاهد لنفسه بنبالة الأمر، وجلالة القدر؛ إذ ما من معجزة فعلية أتى بها الأقدمون من الأنبياء، والأولون من المرسلين إلا وإذا دقق المتبصر (3) التأمل، ولطف التدبر، صادف بعقله فيما قبلنا من جنسها في أفاعيل الله تعالى وصنائعه ما هو آنق (4) وأعجب وأحكم وأتقن.
وأما هو (5) فلا صودف ولن يصادف - فيما تناله عقولنا، وتبلغه أوهامنا - من
مخ ۲۲
جنسه ما يضاهيه أو يدانيه، وكلما ازدادت أرواع أولي الأحلام في أفانين مدارجه بصيرة، ازداد ما عداه - مما يشاركه في جنسه - عنه بعدا وسقوطا ونأيا وهبوطا.
وكذلك فيما ورد عن سادتنا الطاهرين أمناء سر الله، وتراجمة وحيه، وسفراء (1) غيبه، وألسنة أمره ونهيه - صلوات الله وتسليماته على أرواحهم القادسة، وأجسادهم الطاهرة - في دقائق الحكمة، وحقائق التوحيد، ولا سيما ما سبيله ذلك عن باب الله الصافق، وكتابه الناطق، أمين الرحمن، وشريك القرآن، الذي مثابته من العقلاء والأصفياء مثابة الأحداق من الرؤوس، ونسبته إلى العلماء والحكماء نسبة المعقول إلى المحسوس، أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، باب أبواب المقاصد والمطالب، أبي السبطين علي بن أبي طالب - عليه من الصلوات نواميها، ومن التسليمات أناميها - في خطبه وأثنيته وأحاديثه وأدعيته على أساليب وحيانية، وموازين فرقانية، في بلاغة تحار فيها الأفهام، وبراعة تدهش منها الأحلام، ألمع المعجزات وأبهر الدلائل على الرسالة والسفارة، وأسطع الحجج وأنور البراهين على الوصاية والوراثة؛ لما فيها من غامضات العلوم، ومحارات (2) العلماء، وأمهات الحكمة، واصطلاحات الحكماء، مع أنهم (عليهم السلام) لم يختلفوا إلى محتشد أريب، ولا احتشدوا في محتفل الأخذ عن أديب، ولا كانت العلوم في عصرهم مدونة، ولا كتب الحكمة في زمنهم مترجمة. (3)
مخ ۲۳
أولئك آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا جرير! المجامع (1) وإن كتاب الكافي لشيخ الدين، وأمين الإسلام، نبيه الفرقة، ووجيه الطائفة، رئيس المحدثين، حجة الفقه والعلم والحق واليقين، أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني - رفع الله درجته في الصديقين، وألحقه بنبيه وأئمته الطاهرين - قد حوى من ذلك طسقا (2) وافيا، وقسطا كافيا، ولم يكن يتهيأ لأحد من الفقهاء والعلماء والعقلاء والحكماء من عصر تصنيفه إلى زمننا هذا - والمدة سبعمائة سنة - أن يتعاطى حل غوامضه، وشرح مغامضه، ويتفرغ لتفسير مبهماته، وتحرير مهيماته مع ما ترى الأفئدة في الأدوار والأعصار هاوية إليه، والأكباد في الأقطار والأمصار هائمة عليه؛ إذ كان دخول ذلك في منة (3) الميسرة، وقوة المقدرة محوجا إلى أن يكون المرء في جوهر نفسه بحسب فطرته الأولى المفطورة مطبوعا على قريحة سماوية، وفطرة ملكوتية، وغريزة عقلانية، وجبلة قدسانية.
ثم إذا هو في فطرته الثانية - المكسوبة من كل علم من العلوم العقلية والنقلية والحكمية والشرعية الأصلية والفرعية على النصاب الأتم، والنصيب الأوفر - ذا تدبر وميض، وتتبع عريض، غزير المراجعات، كثير المباحثات، قد راجع وروجع، وناظر ونوظر دهرا صالحا، وأمدا طويلا، مجتهدا في إبلاغ قوتيه العاقلة والعاملة ميقاتهما من الكمال، وإسباغ شطريه النظري والعملي في كفتي ميزان الاستكمال، ومع تيك وتيك وذا وذا، ذا خلوات وخلسات (4) في مجاهدات قلبية، ومراصدات
مخ ۲۴
قدسية، دعاء، أواها، مدماعا، مضراعا، لحقوق بارئه مذكارا، ومن ذكر ربه والتبتل إليه والتولع بأسمائه الحسنى مكثارا، في رحمة الله طموعا، وبالولوع (1) بقرب الحبيب ولوعا، بمجامع أشواقه في سبيل العرفان شعوفا، وبشراشره وأرواقه على سدة الإخلاص عكوفا، وقلما يتفق سماح الزمان للمرء باستجماع ذلك، ويعز ويندر أن يكون الرجل ميسرا لسلوك تلك المسالك.
وإذ ربي العظيم - عز مجده، وجل سلطانه - قد خصني بفضله، وحفني بطوله، ففوق فيوض تلك السحب المطيرة، والمنن الكبيرة، وموض تلك الأضواء البارقة، والأنوار الشارقة يسرني لشرح صدر الحكمة، وطبخ نيها، ولم شعث المعرفة، ودفاع شر العي عنها.
وظن المتعطشون - المتولعون، أولو أكباد ظامئة، وأدماع حامئة، وذووا مهج من اللوعة في وامئة، (2) وقلوب بين يدي الالتياع جاثية، وهم عصابة جمة، وعصبة كالحمة، (3) قد جمعتهم الصحابة الروعية، والقرابة المعنوية - أن بغيتهم المبتغاة، وأمنيتهم المتوخاة مرتبة أنا ابن بجدتها، (4) وعامر بلدتها، وحامل لوائها، وعامل
مخ ۲۵
روائها، فطفقت ألسن أفئدتهم تلح علي بالاقتراح، وأخذت ألسنة مسألتهم تقترح علي بالإلحاف في الإلتحاح، وكلما أبيت إلا المدافعة، أبوا إلا المراجعة، وحيث أعيتني التعاذير، وعيت بي المعاذير، فبإذن الله سبحانه أجبتهم إلى مقترحهم، ونهجت بهم السبيل إلى صرحة (1) الحق من مطرحهم، (2) وشرحت المشكلات، وأزحت المعضلات، وفككت العقد، وهتكت الأستار، وجليت الخرائد، (3) وبحت (4) بالأسرار في تعليقات أوان المدارسة تجري مجرى الحواشي، ومعلقات تستكشط (5) عن محيا الحقيقة الغواشي، فانتشرت في الأقطاع، واشتهرت في الأصقاع، فعبت (6) من مشاربها العطشى الشارفون (7) عبا، واستحبتها الراضة العارفون حبا، ولقد وقعت إلى أفاخم العلماء، وأكارم الفضلاء فآنقتهم إيناقا، وأشرقت على مطارح أنظارهم إشراقا، فتلمسوا (8) مني - بل أشاروا إلي أن أجمعها جمعا وتدوينا، وأنظمها نظما
مخ ۲۶
وترقينا، (1) فأطلبتهم (2) بطلبتهم، بل امتثلت أمرهم في إشارتهم، فها هي - بفضل من الله ورحمة، وعون منه وعصمة - مرصوصة (3) البنيان، منصوصة (4) التبيان، ملقاة إلى قلوب الألباء من الحكماء والعقلاء، مملاة على أسماع الأذكياء من الفقهاء والعرفاء. وإذ هي آيات بينات عقلية، هن أم فيوضات قدسية، من رشح سماء عالم الملكوت، وسحاب إفاضة من منه الرهبوت، وإليه الرغبوت، فليكن وسمها الرواشح السماوية في شرح أحاديث الإمامية، والثقة بالله وحده، والاعتصام به آملا سيبه (5) ورفده. (6) شرح خطبة الكافي [شرح خطبة الكافي] قول شيخنا الأقدم الأفخم رئيس المحدثين جزاه الله تعالى عن زمرة علماء الدين خير الجزاء:
(الحمد) قيل: هو الوصف بالجميل على وجه التبجيل، (7) فيختص باللسان. وعن بعض المحققين: الحمد إظهار الصفات الكمالية لأحد، فيعم حمد الإنسان وغيره، ومن هذا القبيل حمد الله جل ثناؤه على ذاته، وذلك حيث بسط بساط الوجود على ممكنات لا تعد ولا تحصى، ووضع عليه موائد كرمه إلى ما لا يتناهى، فقد كشف عن
مخ ۲۷
صفات كماله بدلالات قطعية تفصيلية غير متناهية؛ فإن كل ذرة من ذرات الوجود تدل عليه، ولا يتصور مثل هذه الدلالات في الألفاظ والعبارات؛ ومن ثم قال (صلى الله عليه وآله): " لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك (1) ".
(لله) اللام للاختصاص، ولام " الحمد " للجنس، فلا يبعد أن يراد أن جنس الحمد مختص به تعالى؛ لأن النعوت الكمالية ترجع إليه؛ لأنه فاعلها وغايتها كما حقق في مقامه كلها.
قوله: (المحمود لنعمته).
لما كان الحمد فعلا اختياريا حادثا فلابد له من علل أربع، دل على بعضها بالالتزام:
إحداها: الفاعل، وهو الحامد، وهو المفهوم منه بالالتزام.
وثانيها: القابل، وهو اللسان في المعنى الأول، والموجودات كلها في المعنى الثاني.
وثالثها: الصورة، وهي المحمود بها التي أنشأها الحامد، وأظهرها من الصفات الكمالية والنعوت الجلالية لكل محمود بحسب حاله وكماله.
ورابعها: الغاية، ويقال لها: المحمود عليه، وإليه أشار بقوله: " المحمود لنعمته ".
قوله: (المعبود لقدرته).
اللام في قوله: " لقدرته " لام التعليل أي يعبد العابدون؛ لكونه قادرا على الأشياء، فاعلا لما يشاء في حقهم، فيعبدونه إما خوفا وطمعا، أو إجلالا وتعظيما.
قوله: (المطاع في سلطانه).
أي يطيعه الموجودات وما في الأرضين والسماوات؛ لقوله حكاية عن الكل:
(قالتا أتينا طائعين)؛ (2) ولقوله: (و لله يسجد من في السمو ت و الارض طوعا و كرها
مخ ۲۸
و ظللهم بالغدو). (1) قوله: (المرهوب بجلاله، المرغوب إليه فيما عنده).
أي المرهوب منه (2) بحسب جلاله أو بسبب جلاله، المرغوب إليه فيما عنده من نوائله التي لا تنكد، (3) وعطاياه التي لا تنفد، أو فيما عنده من الثابتات الباهجات، والباقيات الصالحات.
يقال: رغب (4) في الشيء يرغب - كسمع يسمع - رغبا - بالضم - ورغبة، وتفتح:
إذا طمع فيه وتولع به، وشره وحرص عليه.
ورغب إلى الله تعالى، أو إلى فلان رغبا ورغبوتا ورغبانا محركات، ورغبة محركة أيضا، وتضم: إذا ابتهل، وأكثر من الضراعة والطلب والمسألة.
ورغبه وارتغبه: أراده وتشوقه واشتاقه. ورغب عنه: لم يرده ولم يتشوق إليه.
ورغب بنفسه عنه: رأى لنفسه عليه فضلا، الرغبى والرغباء مضمومة " الراء " بالقصر، ومفتوحتها بالمد من الرغبة كالنعمى والنعماء من النعمة.
فإن قلت: أليس المطرزي - وهو من الأعلام الأثبات في العربيات والأدبيات - قد قال في كتابيه: المعرب (5) والمغرب: " رهبه خافه، والله مرهوب، ومنه: لبيك مرهوب ومرغوب إليك. وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف "؟ (6)
مخ ۲۹
قلت: بلى ولكن المحقوق بالاعتبار عندي ما قاله ابن الأثير في نهايته، ففحصه هنالك أضبط، وقوله أثبت؛ حيث يقول:
وفي حديث الدعاء: " رغبة ورهبة إليك " أعمل (1) لفظ " الرغبة " وحدها، ولو أعملهما معا، لقال: " رغبة إليك ورهبة منك " ولكن لما جمعهما في النظر قوى (2) أحدهما على الآخر، كقول الشاعر: " وزججن (3) الحواجب والعيونا ". وقول الآخر: " متقلدا سيفا ورمحا ". (4) والذي أجده أكثريا - في تعاطيات المتثقفين وتداولاتهم - أنه إذا كان المرهوب ما هو مخوف؛ لكونه من غير الملائمات، كالآلام، والفجائع، ومصادرها، ومبادئها، قيل للراهب: رهبه يرهبه رهبة - بالضم والفتح - ورهبانا كذلك.
وإذا كان من هو مخشي؛ لجلالته وعظمته وقهاريته وجباريته؛ ولشدة الوله والدهش من كبريائه وجبروته، وهو في عزه وعلاه محبوب قلب الراهب، ومعشوقه وبغيته ومبتغاه، قيل: رهب منه يرهب رهبا بالتحريك، ورهبة ورهبانا أيضا محركتين، ومن ذلك ما عدي بنفسه لا ب " من " فيما يروى عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام):
أي يومي من الموت أفر * يوم ما قدر أم يوم قدر يوم ما قدر لا أرهبه * وإذا قدر لا ينجو الحذر (5) والرهبى والرهباء - بالضم مقصورة، وبالفتح ممدودة - من الرهبة كالرغبى والرغباء من الرغبة، والرغبة والرهبة لازمتان فيمن له غاية العظمة والجلال، ونهاية اللطف والجمال، بل لا يخلو جمال عن جلال، ولا جلال عن جمال.
مخ ۳۰
أما الرهبة من الجمال، فللهيمان (1) الحاصل من الجمال الإلهي، ولإنقهار العقل منه وتحيره فيه.
وأما الرغبة في الجلال. فللطف المستور في القهر الإلهي، كما قال تعالى:
(و لكم في القصاص حيوة يا أولى الألباب) (2) وقال أمير المؤمنين كما روي عنه: " سبحان من اتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته، واشتدت نقمته لأعدائه في سعة رحمته ". (3) ومن هنا يعلم قوله: " حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات ". (4) قوله: (النافذ أمره في جميع خلقه).
المراد به أمر التكوين لا أمر التشريع، فلله أمران: أمر تكوين وهو الذي بلا واسطة مخلوق. وأمر تشريع بواسطة الكتب والرسل (عليهم السلام). والأول نافذ في جميع الخلق، ولا يسعهم إلا الطاعة كما قال تعالى: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول لهو كن فيكون). (5) لثاني مختص بالثقلين، فمنهم من أطاع، ومنهم من عصى.
قوله (علا فاستعلى، ودنا فتعالى).
أي سبق في العلو فاستعلى، وغلب على جميع الموجودات.
وتحريره أن العلو يقال بالاشتراك على معان ثلاثة:
الأول: العلو الحسي المكاني كارتفاع بعض الأجسام على بعض.
الثاني: العلو التخييلي، كما يقال للملك الإنساني: إنه أعلى الناس أي أعلاهم في الرتبة المتخيلة كمالا.
الثالث: العلو العقلي، كما في بعض الكمالات العقلية التي بعضها أعلى من
مخ ۳۱
بعض، كما يقال: السبب أعلى من المسبب.
إذا عرفت ذلك فنقول: يستحيل أن يكون بالمعنى الثاني؛ لتنزهه عن الكمالات الخيالية التي يصدق لها العلو الخيالي؛ إذ هي كمالات إضافية تتغير وتتبدل بحسب الأشخاص والأوقات، وقد تكون كمالات عند بعض الناس ونقصانات عند آخرين، كدول الدنيا بالنسبة إلى العالم الزاهد، ويتطرق إليه الزيادة والنقصان، ولا شئ من كمال الأول الواجب سبحانه - لتنزهه عن النقصان والتغيير - بوجه ما، فبقي أن يكون علوه علوا عقليا مطلقا، يعني أنه لا رتبة فوق رتبته، بل جميع المراتب العقلية منحطة عنه.
" ودنا فتعالى " قد أورد الجامع المؤلف - قدس سره الشريف - " الدنو " مقابلا ل " العلو " المستلزم للبعد، وكما علمت أن العلو يقال على المعاني الثلاثة المذكورة بحسب الاشتراك، فكذلك ل " الدنو " يقال: ثلاثة معان مقابلة لها.
فيقال: مكان فلان دنى من مكان فلان إذا كان أسفل منه.
ويقال: رتبة الملك الفلاني أدون من رتبة السلطان الفلاني، إذا كان في مرتبة أقل منه، ورتبة المعلول أدنى من رتبة علته.
ويقال على معنى رابع، فيقال: فلان أدنى إلى فلان وأقرب إليه إذا كان خصيصا به مطلعا على أحواله أكثر من غيره.
والبارئ تعالى منزه عن أن يراد بدنوه أحد المفهومات الثلاثة الأول، بل المراد هو المفهوم الرابع، فقربه في دنوه إذن بحسب علمه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض، ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك، ولا أكبر. (1) ف " تعالى " رد الأحكام الوهمية بأن ما قرب منها فقد ساواها في أمكنتها، فيقال: قربه ليس منافيا لبعده عن مخلوقاته؛ لاجتماع العلو والدنو في شيء واحد بهذا المعنى.
مخ ۳۲
قوله: (الذي لابد لأوليته، ولا غاية لأزليته).
لارتفاعه عن الأزمنة والزمانيات، كارتفاعه عن الأمكنة والمكانيات؛ وحيث لم يكن مكانيا كانت نسبته إلى الأمكنة واحدة، وحيث لا يكون زمانيا تكون نسبته إلى الأزمنة واحدة، فتسوى عنده البدء والغاية، والأول والنهاية، فأوله أبد، وأبده أزل بحسب الزمان، كما علوه دنو، ودنوه علو بحسب المكان، فهو الأول والآخر.
قوله: (القائم قبل الأشياء، والدائم الذي به قوامها).
يعني أنه تعالى قائم بذاته لا بغيره؛ لأنه واجب الوجود، ولو قام وجوده بغيره، لكان ممكنا مفتقرا إلى الغير، وهذه القبلية قبلية بالذات.
قوله: (القاهر الذي لا يؤوده حفظها).
أي لا يثقله ولا يشق عليه حفظ الأشياء، يقال: آده يؤوده: إذا أثقله، (1) وفي إيراد صفة القهر هنا إشارة إلى الدليل على كونه مما لا يتعبه ولا يكله حفظ الأشياء؛ لأن إيجاده وإدامته لها على سبيل الرشح والفيض، لا على وجه الاستكمال كما في غيره من الفاعلين؛ إذ ما من فاعل غيره إلا ويفعل لغرض زائد على ذاته، ويستكمل في فاعليته بذلك الغرض الذي يعود إليه وينفعل منه، والانفعال يلزم التعب والكلال.
قوله: (تفرد بالملكوت، وتوحد بالجبروت).
" الملكوت " فعلوت من الملك، كما الرغبوت من الرغبة، والرهبوت من الرهبة، والرحموت من الرحمة، والجبروت من الجبر والقهر، ومنه الحديث: " سبحان ذي الجبروت " (2) و " الملكوت " من صيغ التكثير، وأبنية المبالغة. ومنه يقال له: (3) ملكوت العراق.
وأما " ملكوة " - بتسكين " اللام " بين " الميم " المفتوحة " والكاف " المضمومة قبل
مخ ۳۳
" الواو " المفتوحة - مثال الترقوة، فهو الملك والعز.
ومنه يقال: له ملكوة العراق، فهو مليك أي ملكه وعزه.
وعالم الملكوت - كعالم الأمر، وعالم الغيب، وعالم النور، وعالم الحمد - اسم لعوالم العقليات والقدسيات، أعني المجردات والمفارقات بأسرها، كما عالم الملك - كعالم الخلق، وعالم الشهادة، وعالم الظلمات - اسم لعوالم الحسيات والوضعيات بجملتها أعني الجسمانيات والهيولائيات بقضها وقضيضها، (1) ومنها: " سبحان ذي الملك والملكوت، له الخلق والأمر، عالم الغيب والشهادة، جعل الظلمات والنور، له الملك، وله الحمد ".
قوله: (وبحكمته أظهر حججه على خلقه).
الحكيم: المحكم في خلق الأشياء. والإحكام: هو الإتقان [في] التدبير وحسن التصوير والتقدير.
والحكيم: الذي لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب، والذي يضع الأشياء مواضعها.
والحكيم أيضا: العالم؛ لاشتقاقه من الحكم بمعنى التصديق، أو من الحكمة.
والحكمة لغة: العلم، ومنه قوله تعالى: (يؤتى الحكمة من يشاء). (2) وعن ابن عباس: " الحكيم: الذي كمل في حكمته، والعليم: الذي كمل في علمه " (3) والحجج جمع الحجة، وهي في اللغة أولا بمعنى القصد، ومنه: المحجة، جادة الطريق، ثم غلب على قصد الكعبة للنسك. والحجة أيضا بمعنى الغلبة فحجه أي غلبه، ثم استعملت بمعنى الرسول والإمام؛ لأن ذواتهم أدلاء على الحق، فيكونون حججا على الخلق.
مخ ۳۴
والمعنى، أن حكمته تعالى اقتضت إظهار الحجج على الخلائق ببعثة الأنبياء، ونصب الأوصياء (عليهم السلام)؛ ليكمل الخلقة، ويتم النعمة؛ إذ بدون ذلك لا يتمشى النظام، ويقع الهرج والمرج كما بين في موضعه.
قوله: (اخترع الأشياء إنشاء، وابتدعها ابتداء بقدرته وحكمته).
" الاختراع " و " الابتداع " لفظان متقاربان في المعنى، وهو إيجاد الشيء لاعن أصل، ولا عن مثل. ومن أسمائه " البديع "، وهو فعيل بمعنى المفعل ، كالأليم بمعنى المؤلم. والمراد أنه تعالى أوجد الأشياء بنفس قدرته لا عن مادة، وبمحض حكمته، لا لغرض؛ إذ لو أوجدها بواسطة أصل وعنصر، لافتقر في فاعليته إلى سبب آخر منه الأصل، فلم يكن مبتدعا؛ لأن الغرض والعلة الغائية ما يجعل الفاعل فاعلا، فالأول إشارة إلى نفي العلة المادية عن فعله، والثاني إلى نفي العلة الغائية عنه.
قوله: (لامن شيء فيبطل الاختراع، ولا لعلة فلا يصح الابتداع).
هذا من مقتبساته - رحمه الله تعالى - مما قد تواتر تكرر أنواره في مشكاة الحكمة، ومصباح البلاغة أعني كلام مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبه وحكمه، وكلمات سادتنا الطاهرين (عليهم السلام) في أحاديثهم وأدعيتهم.
فاعلمن أن " الابتداع " في عرف العلوم اللسانية: إخراج الشيء من العدم إلى الوجود بديعا، أي متخصصا ممتازا بنوع حكمة فيه.
" والاختراع ": رعاية تأنق وتعمل في إخراجه من العدم، مأخوذ من " الخرع " بمعنى الشق، وإذا استعمل بالنسبة إليه سبحانه ما يدل على تكلف وطلب، ريم به ما يلزمه من كمال الصنع وجودة المصنوع؛ لأنه - تعالى عزه - متعال عن التروي والاعتمال.
وجعل بعضهم " الإبداع " و " الاختراع " الإخراج لا على مثال، إلا أن " الاختراع " يناسب القدرة، " والإبداع " يناسب الحكمة.
وأما في اصطلاح العلوم الحقيقية، ولسان علماء الحقيقة، فتارة يقال: " الإبداع ":
مخ ۳۵
إخراج الأيس من الليس المطلق من غير أن يكون مسبوقا (1) بمادة ومدة، لا سبقا بالزمان، ولا سبقا بالدهر، ولا سبقا بالذات، ولا يتعلق إلا بمفارقات المادة، وعلائقها مطلقا، فهذا هو الذائع المشهور.
وفي الفلاسفة من (2) يقول: إن ذلك لا يكون إلا مع عدم سبق الليس المطلق على الأيس سبقا دهريا، بل سبقا بالذات فقط.
ومنهم من لا يجعل كل ما هذه صفته مبدعا، بل يخص " الإبداع " بالصادر الأول لاغير، ويقول: إذا توهمنا شيئا وجد عن الأول الجاعل الحق بتوسط علة وسطى هي من تتمات العلة الفاعلية، وإن لم يكن هو عن مادة، ولا كان لعدمه في متن الواقع سلطان، ولكن كان وجوده عن الجاعل الأول الحقيقي بعد وجود آخر قد انساق إليه بعدية بالذات، فهو ليس بمبدع؛ إذ ليس تأييسه عن ليس مطلقا، بل عن أيس ما وإن لم يكن ماديا.
فهذا أيضا اصطلاح فلسفي شائع مذكور في إلهي كتاب الشفاء (3) وغيره، و " الاختراع " على هذا: الإخراج من الليس من غير مسبوقية بمادة ومدة أصلا، ولكن مع سبق موجود آخر أيضا غير الجاعل الحق سبقا بالذات فقط، فهو يعم ما عدا الصادر الأول من سائر المفارقات المحضة جميعا، وعلى الأول التأييس من غير سبق مدة بشيء من أنواع السبق أصلا، ولكن مع سبق المادة سبقا بالذات لاغير، فيختص بما عدا المفارقات، من الصور الجوهرية المادية والأعراض الجسمانية والهيولائية إلا الحوادث الكونية الزمانية.
مخ ۳۶
و " التكوين ": الإيجاد مع سبق المادة والمدة جميعا سبقا بالزمان، فهو مختص بالحوادث الزمانية لاغير.
وربما يقال: (1) " الإبداع " يقال بالاشتراك على إيجاد لا يكون مسبوقا بزمان، وهو مقابل للإحداث، وعلى ما يقابل التكوين والإحداث معا؛ فإن الإيجاد إما أن يكون مسبوقا بمادة أو زمان أولا، فإن لم يكن مسبوقا فهو " الإبداع " وإن كان، فإن كان مسبوقا بزمان، فهو " الإحداث " وإلا (2) فهو " التكوين ".
ف " الإحداث ": إيجاد مسبوق بمادة وزمان كالأجسام المحدثة.
و " التكوين ": إيجاد مسبوق بمادة دون زمان كالأفلاك، وليس هناك قسم آخر، وهو إيجاد مسبوق بزمان دون مادة؛ لأن كل محدث زماني فهو مسبوق بمادة ومدة.
وتارة أخرى يحقق الفحص ويدقق التأمل، ويبنى على سلوك سبيل (3) الحكمة الحقة السوية، فيقال: الجعل والتأثير إحداث في الدهر، وهو إما " الإبداع " أو " الاختراع " وإحداث في الزمان وهو التكوين.
ف " الإبداع " - وهو أفضل الضروب -: تأييس مطلق عن ليس مطلق، يسبق الأيس في متن الواقع سبقا دهريا، وفي لحاظ العقل سبقا بالذات من دون مسبوقية بمادة أو مدة أصلا.
ثم أفضل ما يسمى مبدعا ما لم يكن بواسطة عن جاعله الحق الأول مطلقا مادية كانت أو فاعلية أو غير ذلك.
و " الاختراع ": إخراج من كتم العدم الصريح الدهري السابق سبقا بالدهر من
مخ ۳۷
غير سبق مدة أصلا، ولا مادة سبقا صريحا دهريا، وإن كانت المادة سابقة في لحاظ العقل سبقا بالذات فقط.
وأما " الصنع ": فبالحري أن يعمم بحيث يعم الإبداع والاختراع دون التكوين، ولو خص بالتكوين دونهما فلا شطط. فهذا ما آثرنا عقد الاصطلاح عليه في كتابينا:
الإيماضات والتشريقات، وهو الصحيفة الملكوتية، وتقويم الإيمان، وهو كتاب التقويمات والتصحيحات، وفي غيرهما من كتبنا العقلية، وصحفنا الحكمية.
وإذا تعرفت الأمر، فقوله: " لا من شيء فيبطل الاختراع " معناه: لا من مادة سابقة سبقا بالزمان، أو سبقا صريحا دهريا. وقوله: " ولا لعلة فلا يصح الابتداع " مغزاه (1) القول في النظام الجملي للوجود كله، أعني زمر (2) الجائزات من المجردات والماديات قاطبة.
وبالجملة: ما سوى ذات الله الأحد الفرد سبحانه، يعني ولا لعلة غير نفس ذاته سبحانه لا فاعلية ولا تتمة لها ولا غائية - وهي العلة الكمالية - ولا غير ذلك من أنواع العلل وأقسامها أصلا، فذاك، الضرب الفاضل من الإبداع. والنظام الجملي هو أحق ما يسمى مبدعا؛ إذ ليس يعقل وراءه إلا الله سبحانه، فهو - عز سلطانه - بنفس ذاته الأحدية جاعله الحق، وموجبه التام، ولا يتصور أيضا هناك علة غائية وراء ذات الجاعل المبدع الذي هو بعين مرتبة ذاته علمه التام بالنظام الأكمل. فالنظام الجملي - الذي لا يتصور له علة أصلا إلا نفس ذات الجاعل الحق - فائض عن صرف ذاته الأحدية، ومنبعث عن نفس علمه وإرادته اللذين هما عين مرتبة ذاته، فيضانا بالذات، وانبعاثا أوليا بالقصد الأول، ولكن حيث إن سبيل إيجاد المركب إيجاد
مخ ۳۸
أجزائه بالأسر، ولا يعقل للجملة المفروضة (1) - لاعتبار الجملية والهيئة المجموعية - صدور إلا بصدور الأجزاء بالأسر، من دون صدور آخر مستأنف وراء ذلك، وأفضل المجعولات أقرب في المرتبة من الجاعل المبدع، فلا محالة كان أكرم المبدعات من أجزاء النظام هو المتعين بأن يكون الصادر الأول في مرتبة الصدور من غير توسط أمر من الأمور، وعلة من العلل أصلا، فضلا عن المادة.
ومن لا يستطيع سبيلا إلى تعرف الحقيقة، يتوهم أن المراد بهذه العلة المنفية العلة المادية، ولا يشعر أن المستعمل ب " اللام " أو " الباء " لا يكون إلا العلة الفاعلية وما من حزبها، والعلة الغائية وما في سبيلها. وأما المادة والعلة المادية والاسطقسية، فإنما يسند الشيء إليها ب " من " أو " عن ".
ثم ليعلم أن الشيء الحادث الكياني الذات وإن كان هو مسبوق الوجود لا محالة بالمادة مسبوقية بالزمان، إلا أن ذلك ليس إلا بقياس أحدهما إلى الآخر بحسب نفسهما، لا بالقياس إلى ذات الصانع الحق جل سلطانه، حتى يكون المادة متوسطة بالزمان بين ذاته سبحانه وبين ذي المادة، وذو المادة أشد تأخرا في الوجود من المادة بالنسبة إليه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا؛ ولعلك سوف تتحقق ذلك بما نتلوه على سمعك من ذي قبل (2) إن شاء الله العزيز.
قوله: (خلق ما شاء كيف شاء).
لما نفى الغاية عن فعله، توهم أنه ليس فاعلا بالاختيار، فأزاح ذلك بأنه يفعل الأشياء كما شاء، فيكون بمشيته - أي بإرادته - يفعل الخلق، لكن مشيته كقدرته ليست غير ذاته؛ ليلزم أن يكون لغيره تأثير في فعله؛ فإن من فعل فعله بإرادة زائدة على ذاته، كان محتاجا في قدرته وإرادته إلى مرجح زائد عليه يرجح أحد طرفي
مخ ۳۹
مقدوره لتعلق الإرادة به، فكانت ذاته مستكملة بذلك المرجح؛ لحصول أولوية لها بسببه، وإلا لم يفعل به، وكل مستكمل بغيره ناقص في ذاته، والله منزه عن النقصان.
وأيضا إذا كانت المشية زائدة عليه، يلزم في ذاته تعالى جهتا قوة وفعل، وحيث إمكان ووجوب، فلم يكن واحدا حقا.
وأشار إلى نفي الزيادة بقوله: (متوحدا بذلك؛ لإظهار حكمته، وحقيقة ربوبيته).
يعني خلق ما شاء حال كونه وحدانيا ذاتا وصفة؛ إذ لم يخلق إلا لإظهار علمه بالنظام الأكمل الذي هو حقيقة إلهيته وربوبيته لا لغاية أخرى وداع آخر يدعوه إلى الخلق والإيجاد.
قوله: (متوحدا بذلك؛ لإظهار حكمته، وحقيقة ربوبيته).
فهو سبحانه بصرف كنه ذاته الأحدية الحقة هو الجاعل التام للنظام الجملي، الفاضل المنبعث عن نفس مرتبة ذات الجاعل المفيض كل ذات وكل كمال ذات، والمعطي كل وجود وكل كمال وجود.
وبما أن كنه ذاته هو بعينه علمه التام بالنظام الأتم الأكمل، فهو بنفس مرتبة ذاته الغاية والعلة الغائية الكمالية للنظام، وغاية الغايات، والغاية الأخيرة، والعلة الغائية الأولى الحقيقية لكل ذات ووجود من الذوات والوجودات التي هي أجزاء النظام، وسوف نراك في ذلك كله على استبصار إن شاء الله العزيز العليم.
قوله: (لا تضبطه العقول، ولا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأبصار).
الإدراك على ثلاثة أقسام؛ لأنه عبارة عن حضور شيء عند المدارك، وهو إما جسماني، أو مفارق عن الأجسام. والمفارق إما مفارق بالكلية عنها، أو متعلق بها مضاف إليها.
فالأول: هو المحسوس، وإدراكه بالحس، وأقوى أقسامه وأجلاها هو البصر.
والثاني: هو المعقول، وإدراكه بالعقل.
والثالث: هو الموهوم، وإدراكه بالوهم.
مخ ۴۰