249

رسائل الجاحظ

رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن

ژانرونه

قال أبو عثمان:

بعون الله تعالى نقول وإليه نقصد وإياه ندعو وعلى الله قصد السبيل:

اعلم - رحمنا الله تعالى وإياك - أن الشيعة رجلان: زيدي ورافضي. وبقيتهم بدد لا نظام لهم. وفي الإخبار عنهما غنى عمن سواهما.

قال علماء الزيدية: وجدنا الفضل في الفعل دون غيره، ووجدنا الفضل كله على أربعة أقسام، أولها: القدم في الإسلام حيث لا رغبة ولا رهبة إلا من الله تعالى وإليه، ثم الزهد في الدنيا فإن أزهد الناس في الدنيا أرغبهم في الآخرة وآمنهم على نفائس الأموال وعقائل النساء وإراقة الدماء، ثم الفقه الذي به يعرف الناس مصالح دنياهم ومراشد دينهم، ثم المشي بالسيف كفاحا في الذب عن الإسلام وتأسيس الدين وقتل عدوه وإحياء وليه. فليس وراء بذل المهجة واستفراغ القوة غاية يطلبها طالب أو يرتجيها راغب. ولم نجد فعلا خامسا فنذكره. فمتى رأينا هذه الخصال مجتمعة في رجل دون الناس كلهم وجب علينا تفضيله عليهم وتقديمه دونهم. وذاك أنا سألنا العلماء والفقهاء وأصحاب الأخبار وحمال الآثار عن أول الناس إسلاما، فقال فريق منهم: علي، وقال فريق منهم: أبو بكر، وقال آخرون: زيد بن حارثة، وقال قوم: خباب. ولم نجد قول كل واحد من هذه الفرق قاطعا لعذر صاحبه ولا ناقلا له عن مذهبه. وإن كانت الرواية في تقديم علي أشهر واللفظ به أكثر وأظهر. وكذلك إذا سألناهم عن الذابين عن الإسلام بمهجهم والماشين إلى الأقران بسيوفهم وجدناهم مختلفين، فمن قائل: علي، ومن قائل: ابنا عفراء، ومن قائل: أبو دجانة، ومن قائل: محمد بن مسلمة، ومن قائل: طلحة، ومن قائل: البراء بن مالك. على أن لعلي من قتل الأقران والفرسان والأكفاء ما ليس لهم، فلا أقل من أن يكون علي في طبقتهم. وإن سألناهم عن الفقهاء والعلماء رأيناهم يعدون عليا وعمر وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وأبي بن كعب. على أن عليا كان أفقههم؛ لأنه كان يسأل ولا يسأل ويفتي ولا يستفتي ويحتاج إليه ولا يحتاج إليهم. ولكن لا أقل من أن نجعله في طبقتهم وكأحدهم. وإن سألناهم عن أهل الزهادة وأصحاب التقشف والمعروفين برفض الدنيا وخلعها والزهد فيها قالوا: علي وأبو الدرداء ومعاذ بن جبل وأبو ذر وعمار وبلال وعثمان بن مظعون. على أن عليا أزهدهم؛ لأنه شاركهم في خشونة الملبس وجشوبة المأكل والرضا باليسير والتبلغ بالحقير وظلف النفس عن الفضول ومخالفة الشهوات، وفارقهم بأن ملك بيوت الأموال ورقاب العرب والعجم، فكان ينضح بيت المال في كل جمعة ويصلي فيه ركعتين، ورقع سراويله بأدم، وقطع ما فضل من ردائه عن أطراف أصابعه بالشفرة، في أمور كثيرة. مع أن زهده أفضل من زهدهم لأنه أعلم منهم، وعبادة العالم ليست كعبادة غيره، كما أن زلته ليست كزلة غيره، فلا أقل من أن نعده في طبقتهم. ولم نجدهم ذكروا لأبي بكر وزيد وخباب مثل الذي ذكروا له من بذل النفس والغناء والذب عن الإسلام بالسيف، ولم نجدهم ذكروا للزبير وابني عفراء وأبي دجانة والبراء بن مالك مثل الذي ذكروا له من التقدم في الإسلام والزهد والفقه، ولم نجدهم ذكروا أبا بكر وزيدا وخبابا في طبقة ابن مسعود وأبي بن كعب كما ذكروا عليا في طبقتهما، ولا ذكروا أبا بكر وزيدا وخبابا في طبقة معاذ ابن جبل وأبي الدرداء وأبي بن كعب وعمار وبلال وعثمان بن مظعون كما ذكروا عليا في طبقتهم. فلما رأينا هذه الأمور مجتمعة فيه، متفرقة في غيره من أصحاب هذه المراتب وأهل هذه الطبقات الذين هم الغايات، علمنا أنه أفضلهم، وإن كان كل واحد منهم قد أخذ من كل خير بنصيب فإنه لن يبلغ مبلغ من قد اجتمع له جميع الخير وصنوفه.

فهذا دليل هذه الطبقة من الزيدية على تفضيل علي - رضي الله تعالى عنه - وتقديمه على غيره. وزعموا أن عليا كان أولاهم بالخلافة، إلا أنهم كانوا على غيره أقل فسادا واضطرابا وأقل طعنا وخلافا؛ وذلك أن العرب وقريشا كانوا في أمره على طبقات: فمن رجل قد قتل علي أباه أو ابنه أو أخاه أو ابن عمه أو حميه أو صفيه أو سيده أو فارسه، فهو بين مضطغن قد دام على حقده ينتظر الفرصة ويترقب الدائرة، قد كشف قناعه وأبدى صفحته. ومن رجل قد زمل غيظه وأكمن ضغنه، يرى سترهما في نفسه ومداراة عدوه أبلغ في التدبير وأقرب من الظفر، فإنما يجزئه أدنى علة تحدث وأول تأويل يعرض أو فتنة تنجم، فهو يرصد الفرقة ويترقب الفتنة حتى يصول صولة الأسد ويروغ روغان الثعلب فيشفي غليله ويبرد ناره، وإذا كان العدو كذلك كان غير مأمون عليه سرف الغضب وأن يموه له الشيطان الوثوب ويزين له الطلب؛ لأنه قد عرف مأتاه وكيف يختله من طريق هواه، فإذا كان القلب كذلك اشتدت حفيظته ولم يقو احتراسه وكان بعرض هلكة وعلى جناح تغرير؛ لأنه منقسم الرأي متفرق النفس، قد اعتلج على قلبه غيظ الثأر على قرب عهده بأخلاق الجاهلية وعادة العرب من الثأر وتذكر الأحقاد والإحن القديمة وشدة التصميم. ومن رجل غمته حداثته وأنف أن يلي عليه أصغر منه. ومن رجل عرف شدته في أمره وقلة اغتفاره في دينه وخشونة مذهبه. ومن رجل كره أن يكون الملك والنبوة يثبتان في نصاب واحد وينبتان في مغرس واحد؛ لأن ذلك أقطع لأطماع قريش من أن يعود الملك دولة في قبائلها، ومن قريش خاصة في بني عبد مناف الأقرب فالأقرب والأدنى فالأدنى؛ لأن الرحم كلما كانت أمس والجوار أقرب والصناعة أشكل كان الحسد أشد والغيظ أفرط. فكان أقرب الأمور إلى محبتهم إخراج الخلافة من ذلك المعدن؛ ترفيها عن أنفسهم من ألم الغيظ وكمد الحسد.

فصل منها : وضرب آخر من الناس همج هامج ورعاع منتشر لا نظام لهم ولا اختبار عندهم، أعراب أجلاف وأشباه الأعراب يفترقون. لا تدفع صولتهم إذا هاجوا ولا يؤمن هيجهم إذا سكنوا، وإن أخصبوا طغوا في البلاد وإن أجدبوا آثروا العناد، وهم موكلون ببغض القادة وأهل الثراء والنعمة، يتمنون الغلبة ويشمتون بالعثرة، ويسرون بالجولة ويترقبون الدائرة. وهم كما وصفوا: الطغام والسفلة. وفيهم قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في دعائه: نعوذ بالله من قوم إذا اجتمعوا لم يملكوا، وإذا افترقوا لم يعرفوا، فهؤلاء هؤلاء. وضرب آخر قد فقهوا في الدين وعرفوا سبب الإمامة قد قمعهم الحق فانقادوا له بطاعة الربوبية وطاعة المحبة وعرفوا المحنة وعرفوا العدل، ولكنهم قليل في كثير، ومختار كل زمان وإن كثروا فهم أقل عددا وإن كانوا أكثر فقها.

فلما كان الناس عند علي وأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار على الطبقات التي ذكرنا والمنازل التي نزلنا والمراتب التي رتبنا، وبالمدينة منافقون يعضون عليهم الأنامل من الغيظ، وفيهم بطانة لا يألونهم خبالا، لا يخفى عليهم موضع الشدة وانتهاز الفرصة، وهم في ذلك على تقية، وافق ذلك ارتداد من حول المدينة من العرب وتوعدهم بذلك في شكاة النبي

صلى الله عليه وسلم

وصح به الخبر. ثم الذي كان من اجتماع الأنصار حيث انحازوا من المهاجرين وصاروا أحزابا وقالوا: منا أمير ومنكم أمير. أشفق علي أن يظهر إرادة القيام بأمر الناس مخافة أن يتكلم متكلم أو يشغب مشاغب ممن وصفنا حاله وبينا طريقته فيحدث بينهم فرقة، والقلوب على ما وصفنا والمنافقون على ما ذكرنا وأهل الردة على ما أخبرنا ومذهب الأنصار على ما حكينا، فدعاه النظر للدين إلى الكف عن الإظهار والتجافي عن الأمر، وعلم أن فضل ما بينه وبين أبي بكر في صلاحهم لو كانوا أقاموه لا يعادل التغرير بالدين ولا يفي بالخطار بالأنفس؛ لأن في التهيج البائقة وفي فساد الدين فساد العاجلة والآجلة، فاغتفر الخمول ضنا بالدين وإيثارا للآجلة على العاجلة، فدل ذلك على رجاحة حلمه وقلة حرصه وسعة صدره وشدة زهده وفرط سماحه وأصالة رأيه. ومتى سخت نفس امرئ عن هذا الخطب الجليل والأمر الجزيل ينزل من الله تعالى بغاية منازل الدين، وإنما كانت غايته في أمرهم أربح الحالين لهم وأعود القصدين عليهم، وعلم أن هلكتهم لا تقوم بإزاء فرق ما بين حاله وحال أبي بكر في مصلحتهم، وقد علم بعد ذلك أن مسيلمة قد أطبق عليه أهل اليمامة ومن حولها من أهل البادية، وهم القوم الذين لا يصطلى بنارهم ولا يطمع في ضعفهم وقلة عددهم، فكان الصواب ما رآه علي من الكف عن تحريك الهرج إذ أبصر أسباب الفتن شارعة وشواكل الفساد بادية، ولو هرج القوم هرجة أو حدثت بينهم فرقة كان حرب بوارهم أغلب من الطمع في سلامتهم. وقد كان أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وفضلاء أصحابه يعرفون من تلك الآراء شبيها بما يعرفه علي، فعلموا أن أول أحكام الدين المبادرة إلى إقامة إمام المسلمين لئلا يكونوا نشرا ولئلا يجعلوا للمفسدين علة وسببا، فكان أبو بكر أصلح الناس لها بعد علي. فأصاب في قيامه والمسلمون في إقامته وعلي في تسويغه والرضاء بولايته منة على الإسلام وأهله. فلما قمع الله تعالى أهل الردة بسيف النقمة وأباد النفاق وقتل مسيلمة وأسر طليحة ومات أصحاب الأوتار ونفيت الضغائن، راح الحق إلى أهله وعاد الأمر إلى صاحبه.

فصل منه : وإنما ذكرت لك مذهب من لا يجعل القرابة والحسب سببا إلى الإمامة دون من يجعل القرابة سببا من أسبابها وعلة من عللها؛ لأني قد حكيته في «كتاب الرافضة» وكان ثم أوقع به وأليق، وكرهت المعاد من الكلام والتكرار لأن ذلك يغني عن ذكره في هذا الكتاب، وهو مسلك واحد وسبيل واحد، وإنما قصدت إلى هذا المذهب دون مذهب سائر الزيدية في دلائلهم وحججهم لأنه أحسن شيء رأيته لهم، وإنما أحكي لك من كل نحلة قول حذاقهم وذوي أحلامهم لأن فيه دلالة على غيره وغنى عما سواه.

ناپیژندل شوی مخ