246

رسائل الجاحظ

رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن

ژانرونه

وستقول: ما دعاك إلى التنويه بذكري وتعريف الناس مكاني، وقد تعرف حشمتي وانقباضي ونفوري واستيحاشي! ولولا أنك - جعلت فداك - مسئول في كل زمان والغاية في كل دهر لما تفردتك بهذا الكتاب، ولما أطمعت نفسي في الجواب. ولكنك قد كنت أذنت في مثلها لهرمس، ثم لأفلاطون، ثم لأرسطاطاليس، ثم أجبت معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وإبراهيم بن سيار، وعلي بن خالد الأسواري، فتربية كفك والناشئ تحت جناحك أحق بذلك وأولى، وقد كان يجب أن تكون على ذلك أحرص وبه أعنى.

وخبرني عن المرائي كيف صارت تري الوجوه ويبصر فيها الخلق، وكذلك كل أملس صقيل وصاف ساكن، كالسيف، والوذيلة،

45

والقوارير، والماء الراكد، حتى الحبر البراق، والحدقة السوداء إذا كان الناظر في الحدقة أبيض، والحدقة المغربة إذا كان الناظر فيها أسود. وكيف صار الماء الجاري والنار الملتهبة والشمس ذات الشعاع لا تقبل الصورة ولا يثبت فيها الخلق. وعن قول من زعم أنه ليس في القمر محق ثابت، ولا كمد جامد، ولا سواد واكد، وإنما ذلك شيء رآه الناس فيه إذ كان أملس صقيلا بمقابلة الأرض وما فيها كما يرى من قابل الحدقة صورة إنسان وليس هناك صورة وإنما هو شيء يوجد عند المقابلة. ولم صار بعض المرائي يرى الوجه والقفا ويرى الرأس منكسا، ولم كنت لا تجد كتاب الستور والمطارح فيها أبدا إلى مقلوبا، وما تلك الصورة الثابتة في المرآة أعرض أم جوهر أم أي شيء، وحقيقة أم تخييل، والذي نرى أهو وجهك أو غير وجهك، فإن كان عرضا فما الذي ولده وما الذي أوجبه والوجه لم يماسه ولم يعمل فيه، وهل أبطلت تلك الصورة المرئية صورة مكانها في المرآة، ولم وأنت لست تراها في نفس صفيحة المرآة، ولم وكأنك تراها في هواء خلف جوفها، وهل أبطل ذلك اللون الذي هو في مثال لونك لون المرآة؟ فإن لم يكن أبطله فهناك إذا صورتان في جسم في حال واحد، أو لونان في جوهر واحد. وإن كان قد أبطل لون الحديد، فكيف أبطله من غير أن يكون عمل فيه، وكيف يعمل فيه وحيزه غير حيز وهو لا مماس ولا متصل ولا مصادم. وسواء ذكرنا صفيحة الحديد أم ما خلفها من الهواء وما قدامها من الفرجة، كل ذلك جسم ذو لون. فإن اعتللت بالشعاع الفاصل والشعاع يخالف في الحس، كذلك الحساس وكذلك المحسوس، وكيف نرى المخالف وكيف والشعاع لون وبياض والنفس الحساسة لا تدرك بشيء من الحواس، وما الفرق بين الأثعبان والأحللان وعن قول ما بين السمون والحفرة؟

وخبرني عن القرسطون كيف أخرج أحد رأسيه ثلثمائة رطل زاد ذلك أم نقص ووزن جميعه ثلاثون رطلا زاد ذلك أم نقص. وما تقول في السراب، وما تقول في الصدى، وما تقول في القوس، وما تقول في طريقة الحمرة، وفي طريقة الخضرة، وكيف اختلفتا والهواء واحد وما يقابلهما واحد، وهل ذلك اللون حقيقة أم تخييل؟

وخبرني عن لون ذنب الطاوس ما هو، أتقول بأنه لا حقيقة له وإنما يتلون بقدر المقابلة، أم تقول إن هناك لونا بعينه والباقي تخييل! وما تقول في عس الماء كيف اشتد صوته بلا باب والصوت لا بد له من هواء، وإذا اشتد فلا بد له من باب؟ وما تقول في خضر السماء، أهو خضر جلدها كما تقول، أم ذلك لحر الهواء كما يقول خصمنا؟ وهل تزعم أن الأفلاك ذات لون؟ فإن كان لها لون فقد احتملت جميع الأشكال، وهذا خلاف ما يقولون. وإن لم تكن ذات لون فالسماء إذا غير الفلك، فهذا هذا. ونقول أيضا إن كنا لا نرى القرى المستطيلة البنيان المختلفة من البعد إلا مستديرة، فلعل الشمس مصلبة والكواكب مربعة. وما تقول في المد والجزر، أمن ملك يضع رجلا ويرفع رجلا؟ فإن كان كذلك فلعل مدبر الفلك ملك، ولعل صوت الرعد صوت زجر ملك، فندع الفلسفة ونأخذ بقول الجماعة، أم نزعم أن المد والجزر من نفس الجواذب إذا جذب وإذا رفع؟! وما تقول في قول من زعم أن القمر مائي وأشبه الكواكب بطبيعة الأرض؟ فإنما يكون الجزر والمد على مقادير جذبه للماء وإرساله له، ذلك معروف في منازله ومجاريه، يعرف ذلك أهل الجزر والمد.

وخبرني كيف صارت القيافة في النسبة وفي الماء والجو والتربة، وليست القيافة تكلفا وصنعة، ولا عرفت بالاستنباط والفكرة، فتكون لمن تعلم دون من يتعلم، نجدها في بني مدلج، ثم في خاص من خثعم، وكذلك خزاعة، وهي في قريش أقل، وهي في بني أسد أقل، وليس هؤلاء لأب ولا يجمعهم بلد، وليس فيما بين البلدين قافة وهي فيهم على هذه الصفة. وكيف لم يختلفوا في لغتهم فينطق بعضهم بالزنجية وبعضهم بالنبطية وبعضهم بالفارسية، فإن قلت فارقهم المعجم والشاعر والبكي والغرير، فإن الشاعر وإن كان القريض عليه أسهل وهو على القوافي أقدر فإنه يتروى الشعر ويصنعه ويتفرد له ويفكر فيه، وكيف صار الإنسان يعيش حيث تعيش النار ويموت حيث تموت النار، يصاب علم ذلك في الجباب وفي الغيران، ولم صار يبصر النجوم من قعر البئر العميقة ولا يبصرها أبدا إلا وهو خالص الظلمة. وخبرني عن الظلام، أجسم موجود عند زوال الضوء، أم تأويل قولنا ظلام إنما نريد به دفع الضوء؟! فإن كان الظلام معنى، أفتراه انقمع في الأرض وكمن عند انبساط الضوء وردع الشعاع، أم الأرض قرص للظلام كما أن عين الشمس قرص للضياء؟ وإن كان قائما فكيف لم يتنافيا، وإن كانا قد تداخلا فكيف لم نجدهما على منظر الأعين؟ ولو كان الأمر كذلك فنحن إذا لم نر ضياء قط ولا ظلاما.

وخبرني - جعلت فداك - لم زعمت أن الحس للعصب، وأن الشر عصب جامد، وأن الرئة لا حس لها، وأن من أدام سف اللبان لم يؤلمه المؤلم وألذه الملذ، وكيف يلذ من لا يألم، ولو جاز ذلك لعرف الصواب من يجهل الخطأ، ولعرف الصدق من يجهل الكذب. هذا ما عندي من العلم البراني وأنت أبصر بالعلم الجواني.

وزعم بعض تلاميذك أنك تعلم لم كان الفرس لا طحال له، ولم صار البعير لا مرارة له، ولم كانت السمكة لا رئة لها، ولم كانت حيتان البحر لا ألسنة لها، ولم حاضت الأرنب ولم اجترت، ولم كان قضيبه من عظام، ولم كانت علائق أجواف السبع أفرادا إلا الكلية . وزعمت أنك تعرف في الخفاش سبعين أعجوبة، ونحن لا نعرف إلا سبعا، وأنك تعرف في الذهب مائة خصلة كريمة، والناس لا يعرفون إلا عشرا، وأنك تعرف في البعير ألف داء ودواء، والأعراب لا تدعي إلا مائة داء غير دواء.

جعلت فداك، قال رسول الله

ناپیژندل شوی مخ