236

رسائل الجاحظ

رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن

ژانرونه

وقد كنت - أطال الله بقاءك - في الطول زاهدا وعن القصر راغبا، وكنت أمدح المربوع وأحمد الاعتدال، ولا والله أن يقوم خير الاعتدال بشر قصر العمر، ولا جمال المربوع بما يفوت من منفعة العلم، فأما اليوم فيا ليتني كنت أقصر منك وأضوى، وأقل منك وأقمى، وليس دعائي لك بطول البقاء طلبا للزيادة، ولكن على جهة التعبد والاستكانة، فإذا سمعتني أقول أطال الله بقاءك، فهذا المعنى أريد، وإذا رأيتني أقول لا أخلى الله مكانك، فإلى هذا المعنى أذهب. وقد زعموا - جعلت فداك أن كل ما طال عمره من الحيوان زائد في شدة الأركان وفي طول العمر وصحة الأبدان، كالورشان، والضباب، وحمر الوحش، وكلحم النسر لمن أكله، ولحم الحية لمن استحله، فإن كان هذا الأمر حقا وكان هذا العلاج نافعا وكنت له مستعملا وفيه متقدما وتراه رأيا وإن كنت عنه غنيا، أخذنا منه بنصيب وتعلقنا منه بسبب. وكيف لي بذلك وأنا صغير الأذن وأذنك أذن أبي سهيل، وأنا دقيق العنق وعنقك عنق قاسم التمار، وأنا صغير الرأس ورأسك رأس جالوت. وفيك أمران غريبان وشاهدان بديعان: جواز الكون والفساد عليك، وتعاور النقصان والزيادة إياك. جوهرك فلكي، وتركيبك أرضي، ففيك طول البقاء ومعك دليل الفناء. فأنت علة للمتضاد وسبب للمتنافي. وما ظنك بخلق لا تضره الإحالة ولا يفسده التناقض ...؟!

جعلت فداك، ما لقي منك الذهب، وأي بلاء دخل بك على الخمر، كانا يتيهان بطول العمر ويبهجان ببقاء الحسن وبأن الدهر يحدث لهما الجدة إذا أحدث لجميع الأشياء الخلوقة، فلما أربى حسنك على حسنهما وغمر طول عمرك أعمارهما ذلا بعد العز وهانا بعد الكرامة، وما لي فيك قول إلا قول الأعرابي حين ضل الطريق في الظلمة فلما عرف قصده عند طلوع القمر رفع رأسه شاكرا وهو يقول: ما أقول! أقول رفعك الله وقد رفعك، أم أقول جملك الله وقد جملك، أم أقول عمرك الله وقد عمرك؟ ... ولكن أقول: وهل أنطق إن نطقت إلا رجيعا، وأقول ما قلت إلا لغوا. وقد زعم ناس ممن ينتحل الاعتبار ويتعاطى الحكمة ويطلب أسرار الأمور أنه ليس شيء مما يساكن الإنسان في منزله وربعه وفي داره وموضع منقلبه إلا والإنسان يفضله في طول العمر وفي البقاء على وجه الدهر، كالحمام والدجاج والسنانير والكلاب والبقر والغنم والحمير والخيل والجواميس والإبل. وزعموا أن أقصرها أعمارا العصافير، وأن أطولها أعمارا البغال، وأن العلة في طول بقاء البغل قلة السفاد، وفي قصر عمر العصافير كثرة السفاد. وأن مما يقضي بهذه العلة ويثبت هذه القضية ما يعم الخصيان من طول العمر، ويعم الفحولة من قصر العمر. وما أرى - حفظك الله - بهذا القياس بأسا في ظاهر الرأي، وما أجده بعيدا في أغلب الظن، ولو كنت أقتل ذلك علما وأعلمه يقينا لكان أحب الأمور إلي أن يكون لي فيه سلف صدق وإمام لا يغلط، وأن أحكيه عن معدل وأسنده إلى مقنع! فقل نسمع وأشر نتبع!

يعجبني - جعلت فداك - منك بغض الشهرة ودبيبك في غمار الحشوية استغناء بنفسك، وصونا لقدرك، ومعرفة بما أعطيت، وثقة بالذي أوتيت. وما أقل - بحمد الله - ما سبقك به إبليس، وما أيسر ما فاتك به آدم. فزاد الله شاكرك نعمة وناصرك عزة. وقد ذكرت الرواة في المعمرين أشعارا وصنعت في ذلك أخبارا، ولم نجد على ذلك شهادة قاطعة ولا دلالة قائمة، ولا نقدر على ردها بجواز معناها، ولا على تثبيتها إذ لم يكن معها دليل يثبتها، وقد تعرف ما في الشك من الحيرة، وما في الحيرة من القلق، وما في القلق من النصب، وما في النصب من طول الفكرة، وما في طول الفكرة من الوحشة، وما في طول الوحشة من التعرض للوساوس والخفقة، وما في إتعاب القلب وإنضاء النفس من كلال الحد، وما في الإلحاح من دواعي الضجر، وما في الجهل من النقص، وما في نزاع النفس من الكد. فافتح لبيتك بابا نسترح إليه، وأقم له علما نقف عنده. فقد علمت ما ذكروا من عمر نابغة بني جعدة، ومالك ذي الرقيبة، ونصر بن دهمان، وابن بقيلة الغساني، والربيع بن ضبيع، ودويد بن نهد، وأنت - أبقاك الله - تعرف ميلاد آبائهم وأجدادهم وقبائلهم وعمائرهم وأصولهم وأجذامهم، فخبرني أكذبوا أم صدقوا؟ أم اقتصدوا أم أسرفوا؟

فأما ما رووا لأجسام الناس من الطول والعرض، وثبتوا لهم من السمن والعظم والضخم سوى ما نطق به الكتاب عن أجسام عاد، فالشاهد على كذبهم حاضر، والدليل على فساد عقولهم ظاهر، كالذي رأينا من أقدار سيوف الأشراف وأزجة رماح الفرسان، وكتيجان الملوك التي في الكعبة، وكضيق أبوابهم وقصر سمك عتب درجهم في قصورهم العادية ومدنهم العدملية، ويدل على ذلك الجرون التي كانت مقابرهم وأبواب مدافنهم في بطون أرضيهم وشعف جبالهم ومطاميرهم ومواضع قناديل كنائسهم ومجالسهم وبيوت عباداتهم وملاعبهم من قمم رءوسهم. ولو حضرنا من الشواهد على ما ادعوا من أعمارهم مثل الذي حضرنا من الشواهد على تكذيبهم في طول قاماتهم إذا لما عنيناك ولا ابتذلناك، وعلى أنه لو كان السبب في طول قاماتهم وضخم أبدانهم تقادم ميلادهم وحدة قوة الأرض قبل أن تخلق وشبابها قبل أن تهرم، لكان ينبغي لمن كان قبلهم أن يكون أعظم منهم، ولكان نقصان من بعدهم ممن يلي عصرهم ومن يلي أولئك على حساب ذلك.

وخبرني أبقاك الله من كان باني ريام، ومن أنشأ كعبة نجران، ومن صاحب غمدان، ومن باني تدمر، ومن صاحب الهرمين، ومنذ كم بنيت مأرب، وأين كان الأبلق الفرد من المشقر، وأين قصر النوبهار من قصر سنداد، ومن صاحب عقرقوف، ولم قضيت - جعلت فداك - لخمعة الإيادية على بنت الخس ولابن شرية على شق وللنخار على ابن النطاح ولابن الكيس على ابن لسان الحمرة، وأين كانت الزباء من ملكة سبأ، وأين خاتون من بوران، وأين جلندي من أسباد، وأين حذيم من أفعى، وأين كان لقيم من لقمان، وأين كان كرز بن علقمة من مجزز المدلجي، وأين كان رافع المخش من دعيميص الرمل؟

وخبرني عن عظامة أقاليم الخراب وعن خلاء شق الجنوب، أذلك قائم مذ دار الفلك وكان النمو، أو الدول بينهما مقسومة والأيام عليهما موقوفة! ولم قدمت إقليم دوس على إقليم بابل؟ وخبرني عن الشهب أتكون نهارا أم تكون ليلا؟ ولم قدمت الروم في الصنعة على أهل الصين، ولم قدمت تبت على الزابج، ولم فضلت السكون على الحركة، ولم جعلت الكون فسادا والافتراق اجتماعا؟ قد وجدتك - جعلت فداك - خفت أن تكون ابن صائد، ورجوت أن تكون الدجال، ولعلك دابة الأرض، وما أدري لعلك سوشي! ولست، بحمد الله، الخضر. والذي لا أشك فيه أنك غير المسيح، وأظن روحك روح شيقرة بل روح بلعذبون، بل روح دلالا، وأنك الأركون المنتظر.

واحتمل لي مسألة واحدة ولا أعود، وسأجعلها طويلة ولا أزيد: كم بين ود وسواع ويغوث ويعوق، وبين مناة والعزى والغبغب وعائم، وبين مناف ونهم وسعد ومنهب، ومذ كم نكح أساف نائلة، ومذ كم مسخا في الكعبة؟ وخبرني عن برهوت وبلهوت، وعن الجابية وموضع الطاغية، وعن سيف الصاعقة، ومن ألقى ذلك إلى الرافضة، وما كان مال قارون، وما كان كنز النطف، ولمن كانت البليهة، وما قرط مارية، وما أصل مال ابن جدعان، وكيف كان مشورة أمه؟ وخبرني عن ذلك المال الذي من أخذ منه ندم ومن تركه ندم.

جعلت فداك، قد شاهدت الإنس مذ خلقوا، ورأيت الجن قبل أن يحجبوا، ووجدت الأشياء بنفسك خالصة وممزوجة وأغفالا وموسومة وسالمة ومدخولة، فما تخفى عليك الحجة من الشبهة، ولا السقم من الصحة، ولا الممكن من الممتنع، ولا المستغلق من المستبهم، ولا النادر من البديع، ولا شبه الدليل من الدليل، وعرفت علامة الثقة من علامة الريبة، حتى صارت الأقسام عندك محصورة، والحدود محفوظة، والطبقات معلومة، والدنيا بحذافيرها مصورة، ووجدت السبب كما وجدت المسبب، وعرفت الاعتلال كما عرفت الاحتجاج، وشاهدت العلل وهي تولد والأسباب وهي تصنع، فعرفت المصنوع من المخلوق، والحقيقة من التمويه. فما تقول في الرئي، وما تقول في الرؤيا، وما تقول في إكسير الكيمياء، وما تقول في كيموس الصنعة، وما تقول في الزجر، وما تقول في الفراسة، وما تقول في الفأل، وما تقول في الطيرة، وما تقول في نمت الطلم؟ وما تقول في معنى البركة، وما تقول في النجوم، وما تقول في الخيلان، وما تقول في أسرار الكف، وما تقول في النظر في الأكتاف، وما تقول في قرض الفأرة، وما تقول في إلحاح الخنفساء، وما تقول في دوائر الرأس، وفي أوضاح الخيل، وفي النمس والسنور، وفي الديك الأفرق والسنور الأسود، وفي البول في النفق، وفي الاطلاع في عادي الآبار، وفي النوم بين البابين، وما تقول في التميمة وفي الرتيمة،

29

وفي تعليق كعب الأرنب، وفي حلى السليم، وفي البلايا والولايا؟ وما تقول في الهام والاستمطار بالسلع والعشر،

ناپیژندل شوی مخ