231

رسائل الجاحظ

رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن

ژانرونه

إن البلاد غلبتني عرضا

ولم يقل: طولا. وقلت: لولا فضيلة العرض على الطول لما وصف الله الجنة بالعرض دون الطول؛ حيث يقول جل ثناؤه:

وجنة عرضها السماوات والأرض . فهذه براهينك الواضحة ودلائلك الظاهرة، ولو لم يكن فيك من الرضا والتسليم ومن القناعة والإخلاص إلا أنك ترى أن ما عند الله خير لك مما عند الناس، وأن الطول الخفي أحب إليك من الطول الظاهر، لكان في ذلك ما يقضي لك بالإنصاف ويحكم لك بالتوفيق.

وأنا - أبقاك الله - أتعشق إنصافك كما أتعشق المرأة الحسناء، وأتعلم خضوعك للحق كما أتعلم التفقه في الدين، ولربما ظننت أن جورك إنصاف قوم آخرين، وأن تعقدك سماح رجال منصفين، وما أظنك صرت إلى معارضة الحجة بالشبهة ومقابلة الاختيار بالاضطرار واليقين بالشك واليقظة بالحلم، إلا للذي خصصت به من إيثار الحق وألهمته من فضيلة الإنصاف، حتى صرت أحوج ما تكون إلى الإنكار أذعن ما تكون بالإقرار، وأشد ما تكون إلى الحيلة فقرا أشد ما تكون للحجة طلبا، إلا أن ذلك بطرف ساكن وصوت خافض وقلب جامع وجأش رابط وبنية حسنة وإرادة تامة مع غفلة كريم وفطنة عليم! إن انقطع خصمك تغافلت، وإن خرق ترفقت، غير منخوب ولا متشغب ولا مدخول ولا مشترك ولا ناقص النفس ولا واهن العزم ولا حسود ولا منافس ولا مغالب ولا معاقب، تفل الحز وتصيب المفصل وتقرب البعيد وتظهر الخفي وتميز الملتبس وتخلص المشكل، وتعطي المعنى حقه من اللفظ كما تعطي اللفظ حقه من المعنى، وتحب المعنى إذا كان حيا يلوح وظاهرا يصيح، وتبغضه إذا كان مستهلكا بالتعقيد ومستورا بالتغريب. وتزعم أن شر الألفاظ ما أغرق المعاني وأخفاها وأسرها وعماها وإن راقت سمع الغمر واستمالت قلب الريض. أعجب والألفاظ عندك ما رق وعذب وخف وسهل، وكان موقوفا على معناه ومقصورا عليه دون ما سواه، لا فاضل ولا مقصر ولا مشترك ولا مستغلق، قد جمع خصال البلاغة واستوفى خلال المعرفة. فإذا كان الكلام على هذه الصفة وألف على هذه الشريطة لم يكن اللفظ أسرع إلى السمع من المعنى إلى القلب، وصار السامع كالقائل والمتعلم كالمعلم، وخفت المؤنة واستغني عن الفكرة وماتت الشبهة وظهرت الحجة، واستبدلوا بالخلاف وفاقا وبالمجاذبة موادعة، وتهنئوا بالعلم وتشفوا ببرد اليقين واطمأنوا بثلج الصدور، وبان المنصف من المعاند وتميز الناقص من الوافر وذم المخطل وعز المحصل وبدت عورة المبطل وظهرت براءة المحق.

وقلت: والناس وإن قالوا في الحسن: كأنه طاقة ريحان، وكأنه خوط بان، وكأنه قضيب خيزران، وكأنه غصن بان، وكأنه رمح رديني، وكأنه صفيحة يمانية، وكأنه سيف هندواني، وكأنها جان، وكأنها جدل عنان، فقد قالوا: وكأنه المشترى، وكأن وجهه دينار هرقلي، وما هو إلا البحر، وما هو إلا الغيث، وكأنه الشمس، وكأنها دارة قمر، وكأنها الزهرة، وكأنها درة، وكأنها غمامة، وكأنها مهاة. فقد تراهم وصفوا المستدير والعريض بأكثر مما وصفوا به القضيف والطويل.

وقلت: وجدنا الأفلاك وما فيها والأرض وما عليها على التدوير دون التطويل، وكذلك الورق والتمر والحب والثمر والشجر.

وقلت: والرمح وإن طال فإن التدوير عليه أغلب؛ لأن التدوير قائم فيه موصولا ومفصلا، والطول لا يوجد فيه إلا موصولا، وكذلك الإنسان وجميع الحيوان.

وقلت: ولا يوجد التربيع إلا في المصنوع دون المخلوق، وفيما أكره على تركيبه دون ما خلي وسوم طبيعته، وعلى أن كل مربع ففي جوفه مدور. فقد بان المدور بفضله وشارك المطول في حصته. ومن العجب أنك تزعم أنك طويل في الحقيقة ثم تحتج للاستدارة والعرض، فقد أضربت عما عند الله صفحا، ولهجت بما عند الناس. فأما حور العين فقد انفردت بحسنه وذهبت ببهجته وملحه، إلى ما أبانك الله به من الشكلة فإنها لا تكون في اللئام ولا تفارق الكرام. وقال الشاعر:

ولا عيب فيها غير شكلة عينها

كذاك عتاق الطير شكل عيونها

ناپیژندل شوی مخ