رسائل وفتاوى الشيخ حمد بن ناصر رسالة الاجتهاد والتقليد فريضة طاعة الله وطاعة رسوله بسم الله الرحمن الرحيم (وبه استعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. (مسألة): ما قولكم -نوَّر الله قلوبكم لفك المعضلات، ووفقكم للأعمال الصالحات-: هل يلزم المبتدئين المتعلمين الترقي إلى معرفة الدليل الناصّ على كل مسألة، ومعرفة طرقه وصحته؟ أم تقليد المخرجين للحديث أنه صحيح أو حسن، أو يكفيهم العمل بالفقهيات المجردة عن الدليل يغنيهم هذا فيمن طلب العلم وتأهل له. فما الحال في العوام، هل يجزئهم مجرد التقليد؟ وأيضا حكى بعض المتأخرين الإجماع على تقليد الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فأفيدونا واحتسبوا؛ فإن الحاجة ماسة إلى هذه المباحث، فإن تتفضلوا بطول الجواب، وذكر الدليل ومن قال به، فهو المطلوب. فأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر -رحمه الله تعالى-: الجواب وبالله التوفيق: لا ريب أن الله سبحانه- فرض على عباده طاعته وطاعة رسوله ﷺ قال الله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ ١، وقال تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ ٢ إلى قوله: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ ٣. ولم يوجب الله على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه، إلا رسول الله ﷺ _________ ١ سورة الأعراف آية: ٣. ٢ سورة النور آية: ٥٤. ٣ سورة النور آية: ٥٤.

1 / 2

واتفق العلماء على أنه ليس أحد معصوما إلا رسول الله ﷺ. نهي الأئمة الأربعة عن تقليدهم وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولون، فقال أبو حنيفة: "علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه منه". وقال معن بن عيسى: سمعت مالكا يقول: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في قولي، فكل ما خالف الكتاب والسنة فاتركوه". وقال ابن القاسم: كان مالك يكثر أن يقول: ﴿إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًَّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ ١. وقال الشافعي: "إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة على الطريق فهي قولي". والإمام أحمد كان يقول: "لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا". وكان يقول: "من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال". وقال: "لا تقلد دينك الرجال؛ فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا". وقال ابن عبد البر: "أجمعَ الناس على أن المقلد ليس معدودا من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله". من شروط القاضي الاجتهاد ولهذا جعل الفقهاء من شروط القاضي أن يكون مجتهدا، فلا يصح أن يتولاه المقلد، هذا الذي عليه جمهور العلماء. قال في "الإفصاح":٢ اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولى القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة؛ فإنه قال: يجوز ذلك. وقال الموفق في "المغني":٣ يشترط في القاضي ثلاثة شروط: (أحدها): الكمال؛ وهو نوعان: كمال الأحكام، وكمال الخلقة. (والثاني): العدالة. (والثالث): أن يكون من أهل الاجتهاد. وبهذا قال مالك والشافعي وبعض _________ ١ سورة الجاثية آية: ٣٢. ٢ "الإفصاح عن شرح معاني الصحاح" -أي أحاديث الصحيحين- لأبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الوزير المتوفى في سنة ٥٦٠. ٣ "المغني في فقه المذاهب الإسلامية" للشيخ موفق الدين بن قدامة الحنبلي، المتوفى في سنة ٦٢٠.

1 / 3

الحنفية، وقال بعضهم: يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد؛ لأن الغرض فصل الخصومات، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز كما يحكم بقول المقومين، ولنا قوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ ١، ولم يقل بالتقليد، وقال: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ ٢، وقال: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ ٣. وروى بريدة عن رسول الله ﷺ أنه قال: "القضاة ثلاثة؛ اثنان في النار وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار" ٤ رواه ابن ماجه.٥. والعامي يقضي على جهل، ولأن الحكم آكد من الفتيا، لأنه فتيا وإلزام، والمفتي لا يجوز أن يكون مقلدا، فالحاكم أولى، انتهى. وقال في "الإنصاف"٦: ويشترط في القاضي أن يكون مجتهدا، هذا المذهب المشهور، وعليه معظم الأصحاب. قال ابن حزم: "يشترط كونه مجتهدا إجماعا"، وقال: "أجمعوا على أنه لا يحل لحاكم ولا لمفت تقليد رجل، فلا يحكم ولا يفتي إلا بقوله". وقال في "الإفصاح": الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة، وأن الحق لا يخرج عنهم، واختار في الترغيب: ومجتهدا٧ في مذهب إمامه للضرورة. واختار في "الإفصاح": والرعاية ومقلدا، (قلت): وعليه العمل من مدة طويلة وإلا تعطلت أحكام الناس، وقيل في المقلد: يفتي ضرورة. _________ ١ سورة المائدة آية: ٤٨. ٢ سورة النساء آية: ١٠٥. ٣ سورة النساء آية: ٥٩. ٤ أبو داود: الأقضية (٣٥٧٣)، وابن ماجه: الأحكام (٢٣١٥) . ٥ رواه أصحاب السنن الأربعة والحاكم، وهذا لفظ ابن ماجه. ٦ يوجد عدة كتب سميت (الإنصاف في مسائل الخلاف)، أحدها: للقاضي أبي بكر بن العربي المالكي، المتوفى سنة ٥٤٣. وثانيها: لأبي سعد محمد بن يحيى النيسابوري الشافعي، المتوفى سنة ٥٤٨. وثالثها: للحافظ أبي الفرج بن الجوزي الحنبلي، المتوفى سنة ٥٩١. والظاهر أن هذا الأخير هو المراد هنا، فقوله: "معظم الأصحاب" يعني به الحنابلة. ٧ الظاهر أنه معطوف على محذوف منصوب.

1 / 4

وذكر القاضي أن ابن شاقلا اعترض عليه بقول الإمام أحمد: "لا يكون فقيها حتى يحفظ أربعمائة ألف حديث"، فقال: إن كنت لا أحفظه فإنني أفتي بقول من يحفظ أكثر منه. قال القاضي: لا يقتضي هذا أنه كان يقلد أحمد لمنعه الفتيا بلا علم. قال بعض الأصحاب: ظاهره تقليده إلا أن يحمل على أخذ طرق العلم عنه. وقال ابن بشار من الأصحاب: لا أعيب على من يحفظ خمس مسائل لأحمد يفتي بها. قال القاضي: هذا منه مبالغة في فضله، وظاهر نقل عبد الله يفتي غير مجتهد، ذكره القاضي، وحمله الشيخ تقي الدين على الحاجة، انتهى ملخصا. فتوى المقلد وحكمها وذكر ابن القيم في مسألة التقليد في الفتيا ثلاثة أقوال: (أحدها): أنه لا يجوز الفتوى بالتقليد، لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام؛ ولا خلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم، وهذا قول أكثر الأصحاب، وهو قول جمهور الشافعية. (والثاني): أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز أن يقلد غيره من العلماء إذا كانت الفتوى لنفسه، ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به لغيره، وهذا قول ابن بطة وغيره من أصحابنا. (والقول الثالث): أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، وهو أصح الأقوال، وعليه العمل. انتهى كلام ابن القيم ﵀. فتبين بما ذكرناه أن المقلد ليس بعالم، وأن التقليد إنما يصار إليه عند الحاجة للضرورة، ولكن قد دعت الحاجة والضرورة إليه من زمان طويل، لا سيما في هذا الوقت، وحينئذ فيقال: التقليد ثلاثة أنواع: (أحدها): التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل، على خلاف قول

1 / 5

المقلد، فهذا لا يجوز، وقد اتفق السلف والأئمة على ذمه وتحريمه، قال الشافعي ﵀: أجمع المسلمون على أنه من استبانت له سنة رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. (النوع الثاني): التقليد مع القدرة على الاستدلال والبحث عن الدليل، فهذا مذمومٌ أيضا لأنه عمل على جهل، وإفتاء بغير علم، مع قدرته وتمكنه من معرفة الدليل المرشد، والله تعالى- قد أوجب على عباده أن يتقوه بحسب استطاعتهم، فقال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ ١، وقال النبي ﷺ "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ٢. فالواجب على كل عبد أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه مما أمره الله به ونهاه عنه، ثم يلتزم طاعة الله ورسوله. ولم يكلِّف الله عباده ما لا يطيقونه، بل الواجب على العبد ما يستطيعه من معرفة الحق، فإذا بذل جهده في معرفة الحق فهو معذورٌ فيما خفي عليه. (النوع الثالث) التقليد السائغ، وهو تقليد أهل العلم عند العجز عن معرفة الدليل، وأهل هذا النوع نوعان أيضا: (أحدهما): من كان من العوام الذين لا معرفة لهم بالفقه والحديث، ولا ينظرون في كلام العلماء، فهؤلاء لهم التقليد بغير خلاف، بل حكى غير واحد إجماع العلماء على ذلك. (النوع الثاني): من كان محصلا لبعض العلوم قد تفقه في مذهب من المذاهب، وتبصر في كتب متأخري الأصحاب -ك"الإقناع" و"المنتهى" في مذهب الحنابلة، أو "المنهاج" ونحوه في مذهب الشافعية، أو "مختصر خليل" ونحوه في مذهب المالكية، أو "الكنز" ونحوه في مذهب الحنفية، ولكنه قاصر النظر عن معرفة الدليل ومعرفة الراجح من كلام العلماء، فهذا له _________ ١ سورة التغابن آية: ١٦. ٢ البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (٧٢٨٨)، ومسلم: الحج (١٣٣٧)، والنسائي: مناسك الحج (٢٦١٩)، وابن ماجه: المقدمة (١،٢)، وأحمد (٢/٢٥٨،٢/٣٥٥،٢/٤٢٨،٢/٤٥٦،٢/٤٨٢،٢/٤٩٥) .

1 / 6

اصول - د اسلامي متنونو لپاره څیړنیز اوزار

اصول.اي آی د اوپنITI کورپس څخه زیات له 8,000 اسلامي متونو خدمت کوي. زموږ هدف دا دی چې په اسانۍ سره یې ولولئ، لټون وکړئ، او د کلاسیکي متونو د څیړلو کولو لپاره یې آسانه کړئ. لاندې ګډون وکړئ ترڅو میاشتني تازه معلومات په زموږ د کار په اړه ترلاسه کړئ.

© ۲۰۲۴ اصول.اي آی بنسټ. ټول حقوق خوندي دي.