سمعنا آخرين يقولون: بل نطيع الأئمة في كل أمورنا، ولا نفتش عن طاعة الله ولا معصيته، ولا يكون أحد منا عليهم حسيبا، هم ولاة الأمر وأهل العلم، ونحن الأتباع وعلينا الطاعة والتسليم. وليس هذا القول بأقل ضررا في توهين السلطان، وتهجين الطاعة من القول الذي قبله؛ لأنه ينتهي إلى الفظيع المتفاحش من الأمر في استحلال معصية الله جهارا صراحا. وقال أهل الفضل والصواب: قد أصاب الذين قالوا: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولم يصيبوا في تعطيلهم طاعة الأئمة وتسخيفهم إياها، وأصاب الذين أقروا بطاعة الأئمة لما حققوا منها، ولم يصيبوا ما أبهموا من ذلك في الأمور كلها، فأما إقرارنا بأنه لا يطاع الإمام في معصية الله؛ فإنما ذلك في عزائم الفرائض، والحدود التي لم يجعل الله لأحد عليها سلطانا. ولو أن الإمام نهى عن الصلاة والصيام والحج، أو منع الحدود وأباح ما حرم الله لم يكن له في ذلك أمر.
فأما إثباتنا للإمام الطاعة فيما لا يطاع فيه غيره؛ فإن ذلك في الرأي والتدبير، والأمر الذي جعل الله أزمته وعراه بأيدي الأئمة ليس لأحد فيه أمر، ولا طاعة من الغزو والقفول والجمع والقسم والاستعمال والترك والحكم بالرأي، فيما لم يكن فيه أثر وإمضاء الحدود والأحكام على الكتاب والسنة، ومحاربة العدو ومخادعته والأخذ للمسلمين والإعطاء عليهم، وهذه الأمور وأشباهها من طاعة الله - عز وجل - الواجبة وليس لأحد من الناس فيها حق إلا الإمام، ومن عصى الإمام فيها أو خذله فقد أوتغ نفسه. وليس يفترق هذان الأمران إلا ببرهان من الله - عز وجل - عظيم، وذلك أن الله جعل قوام الناس، وصلاح معاشهم ومعادهم في خلتين: الدين والعقل، ولم تكن عقولهم وإن كانت نعمة الله - عز وجل - عظمت عليهم فيها بالغة معرفة الهدى ولا مبلغة أهلها رضوان الله، إلا ما أكمل لهم من النعمة بالدين الذي شرع لهم، وشرح به صدر من أراد هداه منهم، ثم لو أن الدين جاء من الله لم يغادر حرفا من الأحكام والرأي والأمر وجميع ما هو وارد على الناس، وجاز فيهم مذ بعث الله رسوله
صلى الله عليه وسلم
إلى يوم يلقونه إلا جاء فيه بعزيمة، لكانوا قد كلفوا غير وسعهم، فضيق عليهم في دينهم وآتاهم ما لم تسع أسماعهم لاستماعه ولا قلوبهم لفهمه، ولحارت عقولهم وألبابهم التي امتن الله بها عليهم ولكانت لغوا لا يحتاجون إليها في شيء، ولا يعملونها إلا في أمر قد أتاهم به تنزيل، ولكن الله من عليهم بدينهم الذي لم يكن يسعه رأيهم، كما قال عباد الله المتقون: ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
ثم جعل ما سوى ذلك من الأمر والتدبير إلى الرأي، وجعل الرأي إلى ولاة الأمر ليس للناس في ذلك الأمر شيء إلا الإشارة عند المشورة، والإجابة عند الدعوة والنصيحة بظهر الغيب، ولا يستحق الوالي هذه الطاعة إلا بإقامة العزائم والسنن مما هو في معنى ذلك، ثم ليس من وجوه القول وحده يلتمس فيه ملتمس إثبات فضل أهل بيت أمير المؤمنين على أهل بيت «من سواه» وغير ذلك مما يحتاج الناس إلى ذكره، إلا وهو موجود فيه من الكلام الفاضل المعروف، مما هو أبلغ مما يغلو فيه الغالون؛ فإن الحجة ثابتة، والأمر واضح - بحمد الله ونعمته.
ومما ينظر فيه لصلاح هذا الجند ألا يولي أحدا منهم شيئا من الخراج؛ فإن ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة، ولم يزل الناس يتحامون ذلك منهم وينحونه عنهم؛ لأنهم أهل ذاك ودعوى بلاء، وإذا خلا بالدراهم والدنانير اجترأ عليهما، وإذا وقع في الخيانة صار كل أمر مدخولا نصيحته وطاعته؛ فإن حيل بينه وبين رفعته أمر ضنته الحمية، مع أن ولاية الخراج داعية إلى ذلة وعقوبة وهوان، وإنما منزلة المقاتل منزلة الكرامة واللطف، ومما ينظر فيه من أمرهم أن منهم من المجهولين من هو أفضل من بعض قادتهم، فلو التمسوا وصنعوا كانوا عدة وقوة وكان ذلك صلاحا لمن فوقهم من القادة ومن دونهم من العامة.
ومن ذلك تعهد أدبهم في تعليم الكتاب والتفقه في السنة والأمانة والعصمة والمباينة لأهل الهوى، وأن يظهر فيهم من القصد والتواضع، واجتناب زي المترفين وشكلهم مثل الذي يأخذ به أمير المؤمنين في أمر نفسه، ولا يزال يطلع من أمير المؤمنين ويخرج منه القول، ما يعرف مقته للإتراف والإسراف وأهلهما ومحبته القصد والتواضع، ومن أخذ بهما حتى يعلموا أن معروف أمير المؤمنين محظور عمن يكنزه بخلا أن ينفقه سرفا في العطر واللباس والمغالاة بالنساء والمراتب؛ فإن أمير المؤمنين يؤثر بالمعروف من وجهته المعروف والمؤاساة، ومن ذلك أمر أرزاقهم أن يوقت لهم أمير المؤمنين فيها وقتا يعرفونه في كل ثلاثة أشهر أو أربعة أو ما بدا له.
وأن يعلم عامتهم العذر الذي في ذلك من إقامة ديوانهم وتحمل أسمائهم، ويعلموا الوقت الذي يأخذون فيه فينقطع الاستبطاء والشكوى؛ فإن الكلمة الواحدة تخرج من أحدهم في ذلك أهل أن تستعظم؛ فإن باب ذلك جدير أن يحسم، مع أن أمير المؤمنين قد علم كثرة أرزاقهم، وكثرة المال الذي يخرج لهم، وأن هذا الخراج إن يكن رائجا لغلاء السعر؛ فإنه لا بد من الكساد والكسر، وأن لكل شيء درة وغزارة، وإنما درر خراج العراق بارتفاع الأسعار، وإنما يحتاج الجند اليوم إلى ما يحتاجون إليه من كثرة الرزق لغلاء السعر.
فمن حسن التقدير - إن شاء الله - ألا يدخل على الأرض ضرر، ولا بيت المال نقصان من قبل الرحمن إلا دخل ذلك عليهم في أرزاقهم، مع أنه ليس عليهم في ذلك نقصان؛ لأنهم يشترون بالقليل مثل ما كانوا يشترون بالكثير، فأقول: لو أن أمير المؤمنين ما خلا شيئا من الرزق، فيجعل بعضه طعاما ويجعل بعضه علفا فأعطوه بأعيانهم فإن قومت لهم قيمة، فخرج ما خرج على حسابه قيمة الطعام والعلف، لم يكن في أرزاقهم لذلك نقصان عاجل يستنكرونه. وكان ذلك نزالهم لحمل العدو وإنصاف بيت المال من أنفسهم فيما يستبطئون، مع أنه إن زاد السعر أخذوا بحصتهم من فضل ذلك.
ومن جماع الأمر وقوامه - بإذن الله - ألا يخفى على أمير المؤمنين شيء من أخبارهم وحالاتهم وباطن أمرهم بخراسان والعسكر والأطراف، وأن يحتقر في ذلك النفقة ولا يستعين فيه إلا بالثقات النصاح؛ فإن ترك ذلك وأشباهه أحزم بتاركه من الاستعانة فيه بغير الثقة فتصير جنة للجهالة والكذب.
ناپیژندل شوی مخ