وهذا علم من أعلامه وحجة من حججنا على أهل الكتاب من كتبهم؛ فإن قالوا في ذلك إنه يقيم لهم من بني إسرائيل نبيا مثل موسى. وقالوا: إن بني إسرائيل بعضهم إخوة بعض، أكذبهم النظر؛ لأنه لو أراد ذلك لقال لهم: من أنفسهم ومنهم كما أن رجلا لو أراد أن يبعث رسولا من خندف لم يقل سأبعث رسولا من إخوة خندف، فإن كان دفعهم ولد إسماعيل عن تشابك نسبهم بولد إسحاق لنزول إسماعيل الحرم ونكاحه في جرهم؛ فإن الديار قد تتناءى والمحال قد تتباين، والرجل قد ينكح في البعيد وقد يولد له من الإماء ولا تنقطع الأرحام والأنساب.
وإن كان إسماعيل نطق بالعربية فليس اختلاف الناس في الألسنة يخرجهم عن نسب آبائهم وإخوانهم وعشائرهم؛ فهؤلاء أهل السريانية قد خالفوا في اللسان أهل العبرانية وهذه الروم كفرت بالله ولا شيء أقطع للعصمة من الكفر وتكلمت بالرومية، ورغبت عن لسان آبائها وليس ذلك بمخرجها عن ولادة إسحاق بن إبراهيم، على أن إسماعيل لم يكن أول من نطق بالعربية، وإنما تعلمها وإنما أصل العربية لليمن؛ لأنهم من ولد يعرب بن قحطان. وكان يعرب أول من تكلم بالعربية حين تبلبلت الألسن ببابل، وسار حتى نزل اليمن في ولده ومن تبعه من أهل بيته، ثم نطق بعده ثمود بلسانه وشخص حتى نزل الحجر.
حدثني أبو حاتم قال: حدثني الأصمعي، قال: أخبرنا أبو عمرو بن العلاء قال: تسع قبائل قديمة: طسم، وجديس، وعهينة، وضجم - بالجيم وبالحاء - وجعم، والعماليق، وقحطان، وجرهم، وثمود.
وحدثني أبو حاتم قال: حدثنا الأصمعي قال: حدثنا ابن أبي الزناد عن رجل من جرهم قال: نحن بدء من الخلق لا يشاركنا أحد في أنسابنا، يقول من قدمنا فهؤلاء قدماء العرب الذين فتق الله ألسنتهم بهذا اللسان. وكانت أنبياؤهم عربا: هود، وصالح، وشعيب.
حدثني عبد الرحمن عن عبد المنعم، عن أبيه، عن وهب بن منبه أنه سئل عن هود، أكان أبا اليمن الذي ولدهم قال: لا ولكنه أخو اليمن في التوراة، فلما وقعت العصبية بين العرب، وفخرت مضر بأبيها إسماعيل ادعت اليمن هودا ليكون لهم والد من الأنبياء. «قال»: وأما شعيب من ولد رهط من المؤمنين تبعوا إبراهيم لما هاجر إلى الشام، ولم يكن يثبت لهم نسب في بني إسرائيل، ولم تكن مدين قبيلة، ولكنها أمة بعث إليها فلما بوأ الله إسماعيل الحرم وهو طفل، وأنبط له زمزم، مرت به من جرهم رفقة؛ فرأوا ما لم يكونوا يعهدونه وأخبرتهم هاجر بنسب الصبي وحاله، وما أمر الله أباه فيه وفيها، فتبركوا بالمكان ونزلوه وضموا إليهم إسماعيل فنشأ معهم ومع ولدانهم ثم أنكحوه فتكلم بلسانهم فقيل نطق بالعربية إلا أن الياء زيدت في الاسم فحذفت في النسب، كما تحذف أشياء من الزوائد وغير كما تغير أشياء عن أصولها، والدليل على أن أصل اللسان لليمن أنهم يقال لهم «العرب العاربة» ويقال لغيرهم «العرب المتعربة» يراد الداخلة في العرب المتعلمة منهم، وكذلك معنى التفعل في اللغة يقال: تنزر الرجل إذا دخل في نزار، وتمضر إذا دخل في مضر، وتقيس إذا دخل في قيس، وقال الشاعر:
وقيس عيلان ومن تقيسا
ولو كان كل من تعلم لسانا غير لسان قومه ونطق به خارجا من نسبهم لوجب أن يكون كل من نطق بالعربية من العجم عربيا «وسأقول في الشرف بأعدل القول وأبين أسبابه، ولا أبخس أحدا حقه، ولا أتجاوز به حده.» فلا يمنعني نسبي في العجم أن أدفعها عما تدعيه لها جهلتها، وأثني أعنتها عما تقدم إليها سفلتها، وأختصر القول وأقتصر على العيون والنكت ولا أعرض للأحاديث الطوال في خطب العرب وتعداد أيامها وفدات أشرافها على ملوك العجم ومقاماتها؛ فإن هذا وما أشبهه قد كثر في كتب الناس حتى أخلق ودرس حتى مل، لا سيما وأكثر هذه الأخبار لا طريق لها ولا نقلت من الثقاة المعروفين أيضا تخبر عن التكلف، وتدل على الصنعة، وأرجو ألا يطلع ذوو العقول وأهل النظر مني على إيثار هوى، ولا تعمد لتمويه، وما أتبرأ بعده من العثرة والزلة إلا أن يوفقني الله، وما التوفيق إلا به.
وعدل القول في الشرف أن الناس لأب وأم خلقوا من تراب وأعيدوا إلى التراب، وجروا في مجرى البول وطووا على الأقذار، فهذا نسبهم الأعلى يردع أهل العقول عن التعظيم والكبرياء، ثم إلى الله مرجعهم فتنقطع الأنساب، وتبطل الأحساب إلا من كان حسبه تقوى الله. وكانت ماتته طاعة الله.
وأما النسب الأدنى الذي يقع فيه التفاضل بين الناس في حكم الدنيا؛ فإن الله خلق آدم من قبضة جميع الأرض، وفي الأرض السهل والحزن والأحمر والأسود والخبيث والطيب، يقول الله - عز وجل:
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا (الأعراف: 58)، فجرت طبائع الأرض في ولده؛ فكان ذلك سببا لاختلاف غرائزهم، فمنهم: الشجاع، والجبان، والبخيل، والجواد، والحيي، والوقاح، والحليم، والعجول، والدمث، والعبوس، والشكور، والكفور، وسببا لاختلاف ألوانهم وهيآتهم فمنهم: الأبيض، والأسود، والأسمر، والأحمر، والأشقر، والوسيم، والخفيف على القلوب، والثقيل، والمحبب إلى الناس من غير إحسان، والمبغض إليهم من غير ذنوب. وسببا لاختلاف الشهوات والإرادات فمنهم: من يميل به الطبع إلى العلم، ومن يميل به إلى المال، ومن يميل به إلى اللهو، ومن يميل به إلى النساء، ومن يميل به إلى الفروسية.
ناپیژندل شوی مخ