============================================================
فإذا نظر العبد إلى نفسه وتركيب أساسها وتطبيع بشريتها وأساس خلقتها، فإذا هي ملؤة بكل هوى وشهوة مشوبة بكل العيوب وكل عثرة، مائلة إلى كل بلاء وآفة أمارة بكل خطأ وزلة مركبة بكل فساد وفتنة مربوطة بكل كسل وفترة، ثم إنه يرى نفسه عند عبادة الله عز وجل كسلانة(1) وفى حالة الكسل والفترة كأنها ميتة جيفة لا تتحرك، ويراها عند الحرص في الدنيا كأنها وعاء لا يملأ، ويراها عند الحسد كأنها نار تلتهب، ويراها عند الطمع كأنها خنزير تحرق الأرض عند جوعها، ويراها عند الفخر والعلو كأنها تدعي الربوبية، ومع هذا يرى أن الشيطان قد صار واحدا منها مع كيده وإضعاف مكره وكثرة حيله بهلا كها. فعند ذلك يعتصم بالله تعالى ويستعين به على مقتها ومخالفتها، ولم يشتغل بهواها ومرادها ولم يلتفت إليها حرمة لاجلال ربه، ويقول لها: يا مأوى كل شر ومعدن كل بلاء، إن الذي لابد منه هو الله عز وجل، وهو الواحد القهار قادر على أن يفنيني عنك.
فلما جاوز العبد هذه العقبة وقطع عن قلبه حبال التعاليق وصفا سره، من غبار التخاليط، فصار مجردا للقصد إليه، وتخلص من هذه العقبة واستقام له إمارة التقوى بعون الله وتأييده، فعند ذلك استقبلته عقبة الجنة(4) بكل ما فيها من الثواب والعقاب وطلب العوض من الله تعالى على وفاء صدق العبودية التي هي أصعب وأعظمها بلية وأدقها آفة وأعظمها صعوبة لأهل القرب والمحبة بالنسبة إلى غيرها بألف ألف مرة، وقالت له: أين تذهب يا ولي الله، أنا دار الخلود والمقام، ومحل التحية والسلام، أنا دار النعمة والجود، ومعدن الغبطة والسرور، أنا دار الجلال والجمال، والنزهة والكمال، أنا دار الأنبياء والأصفياء ومعدن الأتقياء والأولياء، أنا أجر العاملين وجزاء الصابرين وثواب المطيعين، أبد الآبدين، أنا خلقت لك وزينت لأجلك، ليس لك دار غيري ولا منزل سواي ولا مأوى دوني، فلابد لك مني: فاذا نظر العبد إلى أولها وأوسطها وآخرها، فإذا أولها لم تكن شيئا فصارت مكونة بتكوين الله تعالى، وإذا نظر إلى أوسطها كأنها لم تزل لله تعالى ليس لغير الله (1) مكذا في الأصل، والصواب كسلى.
(2) يتضح تأثر الجنيد في هذه العبارة بحديث رسول الله الذي رواه الامام مسلم في صحيحه عن أنس آن النبي قال: حفت الجنة بالمكارة، وحفت التار بالشهوات.
مخ ۴۵