راجناروک: د خدایانو پای
راجناروك: نهاية الآلهة
ژانرونه
شكر وتقدير
ملاحظة عن الأسماء
طفلة نحيلة في زمن الحرب
نهاية العالم
الطفلة النحيلة في زمنها «راجناروك»
الطفلة النحيلة في زمن السلم
أفكار حول الأساطير
المراجع
شكر وتقدير
ملاحظة عن الأسماء
ناپیژندل شوی مخ
طفلة نحيلة في زمن الحرب
نهاية العالم
الطفلة النحيلة في زمنها «راجناروك»
الطفلة النحيلة في زمن السلم
أفكار حول الأساطير
المراجع
راجناروك
راجناروك
نهاية الآلهة
تأليف
ناپیژندل شوی مخ
أنتونيا سوزان بيات
ترجمة
سارة طه علام
مراجعة
محمد يحيى
إلى أمي،
كيه إم درابل،
التي أهدتني كتاب «أسجارد والآلهة».
شكر وتقدير
أتوجه بالشكر إلى جيمي بينج على تحمسه لهذا المشروع، وكذلك فرانسيس بيكمور على رؤيته التحريرية الحكيمة وصبره. كما أخص بالشكر أيضا نورا بيركينز. وصديقتي جيني أوجلو، التي تشاركني في أفكاري وشغفي بالقصص الاسكندنافية. وأدين بالكثير على وجه الخصوص للمترجم الدنماركي، كلاوس بيخ، الذي أعطاني رواية «راجناروك» للمؤلف فيلي سورينسن باللغتين الدنماركية والإنجليزية، كما أطلعني على أسماء الأسماك باللغة الدنماركية. كذلك ساعدتني كثيرا المترجمة الألمانية، ميلاني فالس، في النسخ الألمانية من الأساطير. أوجه الشكر كذلك إلى وكيلة أعمالي ديبورا روجرز، التي أبدت حماسة فائقة وقدمت لي مساعدة مذهلة، وكذلك محسن شاه من وكالة «روجرز كولريدج آند وايت»، الذي عمل على تنظيم جميع الأمور بأقصى قدر ممكن. أشكر أيضا زوجي، بيتر دافي، الذي ينصت دوما إلى مشكلاتي وحماستي، ويمدني بأفكار جديدة. كذلك ابنتي ميراندا دافي، التي قضت في فترة ما بعض الوقت في أبحاث عن الذئاب، وأرشدتني إلى الكتب التي علي قراءتها، وأطلعتني على سلوكيات الذئاب.
ناپیژندل شوی مخ
ملاحظة عن الأسماء
نسجت هذه القصة من قصص عديدة بلغات مختلفة، مثل الأيسلندية والألمانية وغيرهما. ولذا تختلف أسماء الشخصيات في الأسطورة من رواية لأخرى. فعلى سبيل المثال «إدونا» هي نفسها «إدون». وكذا توجد طرق عديدة لتهجئة اسم «يورمنجاندر» بالأيسلندية. وعن نفسي، فإنني أشعر بسعادة أكبر عندما أستخدم طرق تهجئة مختلفة، بدلا من محاولة تحقيق تناسق مصطنع. فالأساطير تتغير في عقولنا اعتمادا على الرواية؛ ومن ثم لا توجد نسخة صحيحة إجمالا.
«فودان» أثناء الصيد البري.
طفلة نحيلة في زمن الحرب
كانت هناك طفلة نحيلة، تبلغ من العمر ثلاث سنوات، عندما اندلعت الحرب العالمية. ولكنها بالكاد تذكر الفترة التي تسبق الحرب، عندما كان العسل والقشدة والبيض متوفرة بكثرة، حسبما أخبرتها أمها مرارا. وهي طفلة نحيلة، هزيلة، وناتئة العظام، مثل سمندل الماء الصغير، وشعرها خفيف كالضباب الرقيق المصاحب لضوء الشمس. كان أجدادها ينهونها عن فعل هذا، ويأمرونها بتجنب ذلك؛ لأن «هناك حربا دائرة». كانت الحياة عبارة عن حالة تدور فيها رحى حرب مضرمة. ومع ذلك، ومن مفارقات القدر أن السبب الوحيد لبقاء هذه الطفلة على قيد الحياة ربما يعزى إلى أن أهلها قد تركوا المدينة الصناعية المحمل هواؤها بالكبريت من جراء المداخن التي تعج بها ودخانها السام، وانتقلوا إلى بلدة ريفية، لا تشكل أهمية لقاذفات العدو. ومن ثم نشأت في الجنة المعهودة للريف الإنجليزي. وعندما بلغت الخامسة من عمرها، كانت تسير مسافة ميلين إلى المدرسة عبر المروج المغطاة بزهور الربيع، والحوذان، والأقحوانات، والبيقية، والمحاطة بأسيجة شجيرات مليئة بالأزهار ثم التوت، والخوخ الشوكي، والزعرور البري، وورود النسرين، وشجرة المران الرمادية الغريبة ذات البراعم السخامية اللون.
كانت والدتها تقول دائما، عندما تنبت هذه البراعم، إنها «سوداء مثل براعم شجرة المران في أوائل شهر مارس.» وكان مصير والدتها أيضا ينطوي على مفارقات، فنظرا إلى الحرب الدائرة، أصبح من الجائز لها قانونا أن تفكر في أمر غير مسموح لها به، وأن تعلم الأولاد الأذكياء، وهو ما كان محظورا على النساء المتزوجات فعله قبل الحرب. وقد تعلمت الطفلة النحيلة القراءة في عمر مبكر للغاية. وكانت والدتها تنتهج أسلوبا أكثر واقعية ولطفا عندما تسألها عن الأحرف المتاخمة لبعضها في الصفحة. كان والدها غائبا عن المنزل؛ إذ كان طيارا يشارك في الحرب في أفريقيا، واليونان، وروما، في عالم لا يوجد إلا في الكتب. إنها تتذكره. فهو ذو شعر ذهبي مائل إلى الحمرة وعيون زرقاء صافية، وكأنه إله.
شجرة المران الرمادية، «إجدراسيل».
كانت الطفلة النحيلة تعلم أن أجدادها يعيشون في خوف مرحلي من الدمار الوشيك، ولكنها تجهل أنها تعلم ذلك. لقد واجهوا نهاية العالم كما يعرفونه. ولكن عالم الريف الإنجليزي لم ينته، كما انتهت عوالم أخرى عديدة، ولم تجتحه الجيوش، ولم تقصفه وتساوه بالوحل. ولكن كان الخوف متأصلا، حتى لو لم يتحدث أحد عنه مع الطفلة النحيلة. فهي تعلم بداخلها أن والدها البارع لن يعود. وفي نهاية كل عام ترتشف الأسرة عصير التفاح في نخب عودته سالما. أما الطفلة النحيلة، فكانت تشعر بيأس لم تكن تعلم أنها تشعر به.
نهاية العالم
(1) البداية
ناپیژندل شوی مخ
كانت الطفلة النحيلة قليلا ما تفكر (أو هذا هو ما يبدو عليه الأمر الآن) من أين أتت هي نفسها، ولكنها فكرت كثيرا في ذلك السؤال القديم؛ لماذا يوجد شيء بدلا من عدم وجوده؟ كانت تلتهم القصص بشراهة، سطور من العلامات السوداء على صفحات بيضاء، تشكل جبالا وأشجارا، ونجوما، وأقمارا وشموسا، وترسم تنانين، وأقزاما، وغابات تحوم فيها الذئاب والثعالب، ويغلب فيها الظلام. كانت تقص حكاياتها الخاصة وهي تسير عبر الحقول، حكايات عن فرسان جامحين ومستنقعات عميقة، عن مخلوقات طيبة وساحرات شريرات.
في مرحلة ما، عندما صارت أكبر سنا قليلا، اكتشفت كتاب «أسجارد والآلهة». كان مجلدا متينا، ومغلفا باللون الأخضر، وعلى غلافه صورة مثيرة ورائعة ل «أودين» أثناء صيده البري وهو ينطلق على صهوة جواده مندفعا عبر سماء ملبدة بالغيوم وكأنه يمزقها وسط صواعق متعرجة من ضربات البرق، بينما يراقبه، من مدخل يقود إلى كهف مظلم تحت الأرض، قزم يرتدي قبعة، ويبدو فزعا. كان الكتاب مليئا بنقوش على الصلب شديدة التفصيل وغامضة، للذئاب والمياه الهائجة، والأشباح والنساء السابحات. كان كتابا أكاديميا، تستخدمه والدة الطفلة النحيلة في الواقع كمصدر تستقي منه امتحانات اللغتين الأيسلندية القديمة والاسكندنافية القديمة. ومع ذلك، كان الكتاب باللغة الألمانية. وقد اقتبس من أعمال الدكتور دبليو فاجنر. وكانت الطفلة النحيلة تميل إلى قراءة الكتب من الغلاف إلى الغلاف. قرأت المقدمة التي تتحدث عن استعادة «العالم الجرماني القديم بأسراره وعجائبه ...» وحيرتها فكرة الألمان. وراودتها أحلام بوجود ألمان يختبئون تحت فراشها، والذين ينشرون قوائم سريرها حتى يصلوا إليها ويدمروها، بعدما ألقوا بوالديها داخل حفرة خضراء في إحدى الغابات المظلمة. من كان هؤلاء الألمان القدامى، مقارنة بمن يحلقون في السماء الآن، وينشرون الموت من سماء الليل؟
ذكر الكتاب أيضا أن هذه القصص تعود إلى الشعوب «الاسكندنافية»؛ أي النرويجيين والدنماركيين والأيسلنديين. وقد كانت الطفلة النحيلة نفسها، في إنجلترا، ذات أصول اسكندنافية. فقد هاجرت أسرتها من أرض غزاها الفايكنج واستقروا فيها. إذن هذه هي قصصها. ومن ثم أصبح الكتاب شغفها.
كانت تنجز الكثير من قراءتها في وقت متأخر من الليل، وهي تخفي مصباحا أسفل أغطية الفراش، أو بالدفع بالكتاب عبر الفتحة الضيقة لباب غرفة النوم والقراءة على بقعة الضوء الخافت على بسطة السلم المعتمة. أما الكتاب الآخر الذي قرأته، مرارا وتكرارا، فهو كتاب «رحلة الحاج» للكاتب جون بنيان. كانت تشعر في قرارة نفسها بثقل العبء المعجز الذي حمله «الإنسان» الغارق في «مستنقع اليأس»، وتابعت أسفاره عبر البرية و«وادي الظل»، ومواجهته مع «اليأس العملاق» و«أبوليون» اللعين. وقد حملت قصة بنيان رسالة ومعنى واضحين، أما «أسجارد والآلهة»، فلم تكن كذلك. فهذا الكتاب هو قصة لغز، عن نشأة العالم، وامتلائه بالكائنات السحرية والجبارة، ثم وصوله إلى نهاية. «نهاية» حقيقية، نهاية العالم.
صورت إحدى الرسومات «الصخور» في جبال «ريزينجيبيرجا» العملاقة. ونهرا يجري عبر صدع تعلوه كتل صخرية شاهقة لها ما يشبه الرءوس العديمة الملامح، وجذوعا ما تشبه الأذرع، تقف بين أعمدة مغروسة لا تشبه في هيئتها أي شيء حي. وقمم غابات مستدقة الطرف رمادية اللون تغطي أحد المنحدرات. وأناسا ضئيلي الحجم، يشبهون النمل، وغير مرئيين تقريبا يحدقون لأعلى من الشاطئ القريب. وأطياف غيوم حاجبة تعلقت بين هذه الأشكال والطفلة وهي تقرأ. فواصلت القراءة:
تطورت أساطير العمالقة والتنانين تدريجيا، شأنها شأن كل الأساطير. في البداية كان ينظر إلى الأشياء الطبيعية على أنها تطابق هذه الكائنات العجيبة، ثم أصبحت الصخور والصدوع مساكن لها، وأخيرا، اعتبرت شخصيات مميزة قائمة بذاتها وحظيت بمملكتها الخاصة في «يوتنهايم».
شعرت الطفلة بمتعة غامرة وغامضة على أثر الصورة. كانت تعرف أن مدى الدقة التي طمست بها معالم الصخور على الرغم من تصويرها المتقن هو مبعث الرضا الغامر، ولكنها لم تستطع التعبير عن ذلك لفظا. لا بد أن تبذل عين القارئ الجهد اللازم كي تضفي عليها الحياة، وهذا ما فعلته الطفلة، مرارا وتكرارا، وفي كل مرة كانت تجربة جديدة، كما أراد الفنان. فقد لاحظت أن إحدى الشجيرات، أو الجذوع، المرئية من بعيد على المسار بين المروج، يمكن لوهلة أن تبدو كلبا رابضا، ومزمجرا، أو يمكن أن يبدو أحد فروع الأشجار المتدلية ثعبانا مكتملا، وله عينان لامعتان ولسان مشقوق يتحرك بسرعة.
كانت هذه النظرة هي السبيل الذي أتت منه الآلهة والعمالقة.
لقد جعلها العمالقة الحجريون ترغب في الكتابة.
لقد ملئوا العالم بطاقة وقوة مخيفة.
ناپیژندل شوی مخ
رأت وجوههم عديمة الملامح، وهي تحدق في ذاتها من وراء قناع الغاز الذي ترتديه، أثناء التدريب على الغارات الجوية.
كان أطفال المدرسة الابتدائية يذهبون كل أربعاء إلى الكنيسة المحلية ليتلقوا دروسا في الكتاب المقدس. وهناك يعاملهم القس بلطف، بينما ينسل الضوء عبر نافذة ملونة فوق رأسه.
كما توجد صور وأغان وديعة ومتسامحة للمسيح الطيب. وظهر في واحدة منها وهو يعظ مجموعة من الحيوانات الوديعة المنتبهة، أرانب، وظبي، وسنجاب، وطائر عقعق في أرض مقطوعة الأشجار. وقد بدت الحيوانات حقيقية أكثر من شخصية الإنسان المقدس. حاولت الطفلة النحيلة التجاوب مع الصورة، لكنها أخفقت.
تعلموا تلاوة الصلوات. وكان لدى الطفلة النحيلة حدس ينبئها باقتراب الأذى لأنها شعرت أن الصلوات التي تتلوها كانت تذهب هباء في سحابة رقيقة من العدم.
كانت طفلة تتسم برجاحة العقل، مقارنة بغيرها من الأطفال. لم تفهم كيف يمكن ل «إله» لطيف وطيب وصالح، كالذي يصلون له، أن يدين الأرض كلها بسبب الخطيئة وأن يغرقها، أو أن يحكم على «ابنه» الوحيد بالموت بطريقة شائنة نيابة عن الجميع. إذ يبدو أن موته هذا لم يعد بالكثير من النفع. فهناك حرب دائرة. ومن المحتمل أنه ستظل هناك حرب دائرة دائما. والمقاتلون على الجانب الآخر أشرار وملعونون، أو ربما كانوا بشرا ومصابين .
لقد اعتقدت الطفلة النحيلة أن هذه القصص بنوعيها - سواء كانت القصص اللطيفة، والناعمة التي تتسم بالوداعة والتسامح، أو قصص التضحية الوحشية التي تتسم بالشماتة - ما هي إلا تكوينات بشرية، مثل حياة العمالقة في جبال «ريزينجيبيرجا» العملاقة. لم تجعلها هذه القصص بنوعيها ترغب في الكتابة، ولم تغذ خيالها. بل خدرته. حاولت أن تتخيل نفسها شريرة لتفكيرها في هذه الأشياء. فقد تكون مثل شخصية «الجهل» في قصة «رحلة الحاج»، الذي وقع في الهوة عند بوابة السماء. حاولت أن تشعر أنها شريرة.
ولكن عقلها انجرف بعيدا، نحو المكان الذي يشعر فيه أنه نابض بالحياة. (2) «إجدراسيل»: شجرة العالم الرمادية
أعرف شجرة مران رمادية تدعى «إجدراسيل»
شجرة كثيفة، تكسوها سحابة لامعة بالندى.
في البداية كانت الشجرة. اندفعت الكرة الحجرية عبر الفراغ. وتحت القشرة كانت النار. غلت الصخور، وتصاعدت الغازات. وانبثقت الفقاقيع خارجة من القشرة. والتصق الماء المالح الكثيف بالكرة المتدحرجة. وانزلق الوحل عليها وفي الوحل تغيرت الأشكال. إن أي نقطة على كرة ما تكون بمثابة المركز لهذه الكرة، والشجرة كانت في المركز. لقد حافظت على تماسك العالم وترابطه، في الهواء، وفي الأرض، وفي النور، وفي الظلام، وفي العقل.
ناپیژندل شوی مخ
لقد كانت مخلوقا ضخما. دفعت نهايات الجذور الحادة كالإبر في غطاء التربة السميك. وبعد النهايات المحجوبة جاءت الخيوط والحبال والحزم الغليظة التي جست وأمسكت وبحثت. وامتدت جذورها الثلاثة تحت المروج والجبال، وتحت «ميدجارد»، الأرض الوسطى، وخرجت إلى «يوتنهايم»، موطن عمالقة الجليد، ثم نزلت في الظلام إلى أبخرة «هيل».
كان جذعها الطويل يتكون من حلقات خشبية مضغوطة، كل منها داخل الأخرى، تتجه نحو الخارج. وبالداخل بالقرب من قشرتها، توجد حزم من الأنابيب، تسحب أعمدة لا تنقطع من الماء إلى الأغصان وقمة طرف الشجرة. حركت قوة الشجرة تدفق الماء، وصولا إلى الأوراق، التي تفتحت في ضوء الشمس، وخلطت الضوء والماء والهواء والتربة لتكوين مادة خضراء جديدة، تتحرك مع الرياح، وتمتص المطر. تغذت هذه المادة الخضراء على الضوء. وفي الليل، عندما يتلاشى الضوء، كانت الشجرة تستعيده، وتسطع لفترة وجيزة في الشفق مثل مصباح شاحب.
كانت الشجرة تأكل وتؤكل، وتتغذى ويتغذى عليها. كانت شبكتها ومساراتها السفلية الشاسعة من الجذور موبوءة ومحاطة بخيوط من الفطريات التي تتغذى على الجذور، وتزحف كالديدان نحو الخلايا نفسها وتمتص الحياة منها. وفي بعض الأحيان فقط كانت هذه الكائنات الخيطية المزدهرة تندفع لأعلى عبر أرض الغابة، أو من خلال لحاء الشجرة، لتكون فطر عيش الغراب أو عيش الغراب السام، وهو فطر قرمزي اللون وصلب ومرن، مع بثرات بيضاء، ومظلات هشة شاحبة اللون، ونتوءات ذات طبقات خشبية على اللحاء نفسه. أو كانت تخرج من الأرض على هيئة سيقان تعلوها كرات الفطر النفاث التي تنفجر وتنشر الخلايا الأحادية مثل الدخان. كانت تتغذى على الشجرة، ولكنها تحمل الغذاء إليها في الوقت نفسه، فتات دقيق يحمل في عمود الماء الذي يتدفق لأعلى.
وهناك ديدان، مكتنزة كأصابع اليد، وملساء كالشعر، تندفع بأنوفها الخشنة عبر غطاء التربة، وتأكل الجذور، وتخرج فضلاتها التي تكون بمثابة غذاء للجذور. كما تنشط الخنافس في اللحاء، حيث تصر وتثقب، وتتكاثر وتتغذى، وتلمع كالمعادن، بلونها البني الذي يشبه الخشب الميت. أما نقار الخشب، فهو يحفر اللحاء ويأكل اليرقات المكتنزة التي تأكل الشجرة. وهي تلمع على الفروع، بلونها الأخضر والقرمزي، والأسود، والأبيض، والأرجواني. وهناك أيضا العناكب التي تعلقت بخيوط الحرير، بعدما حاكت شبكات منسوجة بدقة بأوراق الشجر والأغصان، واصطادت الحشرات، والفراشات، والعث الأملس، وصراصير الليل المتبخترة. وجحافل النمل التي احتشدت وكأنها جيوش مسعورة، أو ترعى حشرات المن الحلو، وتضربها بقرون الاستشعار الدقيقة. وتشكلت برك في الحفر التي تشعبت فيها الفروع، ونبتت الطحالب، وسبحت ضفادع الأشجار اللامعة في البرك، ووضعت بيضا هشا، وابتلعت الديدان المرتجفة والمتلولبة. وغردت الطيور على أطراف الأغصان وبنت أعشاشا من كل الأنواع، أكوابا طينية، وأكياسا مكسوة بالزغب، وأوعية ناعمة مبطنة بالقش، مخبأة في ثقوب داخل اللحاء. كان سطح الشجرة كله مكشوطا ومنبوشا، مقضوما ومثقوبا، مفروما ومهروسا.
رويت حكايات عن مخلوقات أخرى في المجتمع الكائن بين الفروع المنتشرة. فعند قمتها، على ما يبدو، وقف نسر، يغني بلا مبالاة عن الماضي، والحاضر، وما سيأتي. كان اسمه «ريسفلجر» (مبتلع اللحم)، وعندما يضرب بجناحيه، تهب الرياح، وتعوي العواصف. وبين عيني الطائر الضخم يقف صقر جميل، اسمه «فيدرفولنير». كانت الأغصان الضخمة تشكل مرعى للمخلوقات الآكلة العشب، وهي أربعة أيائل، «داين»، و«دفالين»، و«دونير»، و«دوراثرور»، وعنزة، اسمها «هيدرون»، التي كان ضرعها مليئا بخمر العسل. أما السنجاب الأسود النشط، «راتاتوسكر» (سن المثقاب)، فقد كان منهمكا في الصعود إلى قمة الشجرة ثم الهبوط سريعا إلى جذورها والعكس، حاملا رسائل شريرة من الطائر الجاثم على قمة الشجرة إلى التنين الأسود اليقظ، الملتف حول الجذور، واسمه «نيدهوجر»، والمتشابك مع ديدان ملفوفة فقست حديثا من بيضها. وكان «نيدهوجر» يقضم الجذور، التي تعيد تجديد نفسها.
كانت الشجرة ضخمة للغاية، وهي تدعم، أو تظلل، قصورا وقاعات عالية. لقد كانت عالما قائما بذاته.
ويوجد أسفلها بئر سوداء، بلا قرار، تمنح مياهها الداكنة الحكمة لشاربها، أو البصيرة على الأقل. وعند حافتها، تجلس «الأخوات القدريات»، «الاسكندنافيات»، اللواتي ربما أتين من «يوتنهايم». كانت «أورد» ترى الماضي، و«فيرداندي» ترى الحاضر، و«سكولد» ترى المستقبل. وقد سميت البئر «أورد» أيضا. كانت الأخوات غزالات؛ فقد كن يغزلن خيوط القدر. كما كن بستانيات الشجرة وحارساتها. ذلك حيث يسقين الشجرة بمياه البئر السوداء، ويغذينها بطمي أبيض نقي، اسمه «آور». وهكذا كانت الشجرة تتحلل، أو تتضاءل، من لحظة لأخرى، ولكنها في الوقت نفسه كانت دائمة التجدد. (3) «راندراسيل»
نمت في غابات الأعشاب البحرية شجرة هائلة من عشب الثور، إنها «شجرة البحر»، «راندراسيل». وقد تشبثت جذورها بشدة بالصخرة الموجودة في أعماق البحر، التي خرجت منها ساق الشجرة وكأنها سوط أطول من صواري المراكب أو عوارض أسقف المباني، لتكون بذلك الجذع. ارتفع الجذع عاليا من أعماق البحر إلى سطحه، وهو لا يزال زلقا، تضربه الرياح، ولكنه يتمايل بكسل وتراخ. انتشر الجذع على السطح عند نقطة التقاء الماء بالهواء مكونا أجمة من الأوراق السرخسية والشرائط الملونة، يطفو كل منها بواسطة جيب غازي، موجود في قاعدة الشجرة وكأنه كيس ممتلئ بالهواء. تحتوي الأوراق السرخسية المتفرعة، مثلها مثل أوراق الشجرة الموجودة على اليابسة، على خلايا خضراء تلتهم الضوء. تمتص مياه البحر الضوء الأحمر، بينما يمتص الغبار والحطام العائم الضوء الأزرق؛ ولذا غالبا ما تكون الأعشاب البحرية العميقة التي تقبع في الضوء الخافت حمراء اللون، بينما يمكن لتلك الأعشاب التي تطفو على السطح، أو التي تتشبث بالنتوءات الصخرية التي تغسلها أمواج المد، أن تكون خضراء براقة أو صفراء لامعة. نمت شجرة البحر بسرعة كبيرة. وتمزقت الشرائط الملونة ونبتت أخرى جديدة، وتدفق من الأوراق السرخسية بيض جديد على هيئة سحب بيضاء، أو خضراء، من المخلوقات البحرية التي تسبح بحرية ثم تتشبث بالصخور. كانت المخلوقات في الغابة المائية تأكل وتؤكل، مثلما هو الحال في جذور الشجرة وأغصانها على اليابسة.
تتغذى الحلزونات المتجولة وبزاق البحر على الشجرة، التي تجتمع فيها الكائنات الدقيقة، والحيوانات، والنباتات. وكان الإسفنج الذي يتغذى على الجزيئات الصغيرة يمتص الغذاء من جذوع الشجرة الضخمة، بينما تشبثت شقائق النعمان بالأعشاب المتعلقة، وهي تفتح أفواهها الغليظة المهدبة وتغلقها. وكانت المخلوقات المغطاة بالقرون والمخلبية والقريدس وجراد البحر الشائك ونجوم البحر الهشة وزنابق البحر ترتشف الغذاء. بينما تتجول قنافذ البحر وهي تمضغ طعامها. وتوجد أنواع عديدة من سرطانات البحر مثل: سرطانات البحر الشفافة، وسرطانات البحر العنكبوتية الضخمة، وسرطانات البحر العقربية، وسرطانات الحجر الشائكة، وسرطانات الرمل، وسرطانات البحر المستديرة، وسرطانات البحر الصالحة للأكل، والسرطانات الخضراء الشاطئية، والسرطانات السابحة، والسرطانات الزاوية، والتي لكل منها أرضها الخاصة التي تتجول فيها. وهناك خيار البحر، ومزدوجات الأرجل، وبلح البحر، ومحار البرنقيل، والغلاليات، والديدان المتعددة الأشواك. كلها كانت تأكل الخشب وتطعم الأعشاب بفضلاتها وبما يموت ويتحلل منها.
تمايلت الكائنات، وانزلقت، وسبحت عبر الغابة البحرية، وكانت تصطاد وتصطاد. بعضها كان لحم سمك متخفيا في هيئة أعشاب، مثل أسماك أبو الشص المغطاة بأسدال تشبه السرجس، وأسماك عثة البحر المعلقة في الماء والتي لا يمكن تمييزها عن الأشكال التي تشبه الأوراق السرخسية، والمغطاة بشيلان وساريات تجعلها تبدو وكأنها نتوءات نباتية ممزقة. كما توجد أسماك ضخمة ذات أجسام نصلية، ينكسر عليها الضوء، تختبئ في الظلال الداكنة وكأنها جزء منها، ويتغير لون زعانفها المتمايلة مع تدفق الضوء عبر الماء وتشتته.
ناپیژندل شوی مخ
كانت شجرة البحر تعيش وسط عالم يموج بكائنات بحرية أخرى، بدءا من المساحات الشاسعة التي تغطيها طحالب الصخور إلى متشابكات البحر، والأعشاب المتشابكة، وطحالب اللاميناريا الإصبعية، وأحزمة فينوس، وأعشاب ذنب الخيل البحرية، وطحالب السكرينة العريضة التي تشتهر باسم مآزر الشيطان، وطحالب الأسيتابولاريا التي تشتهر باسم كئوس نبيذ حوريات البحر. مرت أسراب من الأسماك الكبيرة والصغيرة، وأسراب مندفعة على شكل كرة ضخمة من أسماك الرنجة، وأسراب سريعة من أسماك التونة. وهناك أنواع عديدة من أسماك السلمون التي تسبح في رحلاتها الطويلة، مثل الشينوك، والكوهو الفضي، والسوكي الأحمر، والوردي، والتشم والكرزي. وتوجد سلاحف خضراء ترعى في الأوراق السرخسية. كما توجد أشكال مختلفة من أسماك القرش الانسيابية، مثل قرش الدراس، والماكو القصير الزعنفة، وبربيجل، والتوب، والفهد، والغامق، وقرش الجرف الرملي، والقرش الليلي، وهم صيادو صائدي الأسماك الأخرى. مزقت الحيتان الضخمة الحبار العملاق من الأعماق، أو فتحت المناخل الضخمة في أفواهها لتصفية العوالق. وقد بنت المخلوقات البحرية منازل على قمة «راندراسيل» تماما مثلما بنت المخلوقات البرية منازل في «إجدراسيل». حيث بنت ثعالب البحر مهودا وتدلت من الأوراق وهي تقلب المحار وقنافذ البحر بمخالبها الأمامية المعقدة. ورقصت الدلافين وغنت، وهي تنقر وتصفر. وصاحت الطيور البحرية التي تحلق بالأعلى واندفعت كالأسهم نحو الماء. وسحبت المياه هنا وهناك بفعل الشمس والقمر. وزحفت أمواج المد والجزر إلى الشواطئ، وامتصت في الخلجان الصغيرة، وانكسرت على هياكل الصخور محدثة رذاذا أبيض يشبه الشرائط، واندفعت بنعومة وارتقت، أو سالت وانعطفت في الدلتا.
كانت «شجرة البحر» تتشبث بقوة بسفح جبل يمتد على عمق سحيق للغاية تحت سطح الماء، بالقدر الذي يمكن أن يبلغه آخر قدر ضئيل من ضوء القمر أو الشمس. كانت هناك أشياء أعمق. كائنات تعيش في الظلام أضاءت أشكالها المطلية، أو رءوسها الشوكية أو اللحمية، كما لو كانت مصابيح لامعة تسبح في عتمة الظلمات. وكائنات تستهدف فريستها بطعم يبرز من مقدمة رأسها، وهي كائنات تسطع عيونها في الظلام المرئي.
عند سفح شجرة العالم «إجدراسيل» يقع بئر «أورد» بمياهها السوداء الساكنة والباردة. وعند سفح شجرة البحر «راندراسيل» توجد ثقوب وأنابيب، يخرج منها البخار وهو يصدر صوت صفير، وتقذف أحجارا منصهرة من جوف الأرض المتوهج المحموم. هنا أيضا، تزحف الديدان في الظلام، وتومض قرون الاستشعار الشفافة للقريدس الشاحب. بينما تجلس الاسكندنافيات الثلاث من «يوتنهايم» على حافة الينبوع ويطعمن «الشجرة» ويسقينها، وكذلك يجلس «إيجير» و«ران» في التيارات التي تدور باتجاه معاكس حول جذور «راندراسيل» القوية. ويعزف «إيجير» الموسيقى بقيثارة وترية ومحارة لؤلئية. وقفت الحيتان والدلافين بلا حركة، ترتشف الأنغام عبر تجاويف الصدى الموجودة في رءوسها. ويكون وقع الأصوات كالزيت على المحيط؛ فهي إما تبعث على هدوء باهت، أو هدوء متلألئ، وترى شفافة من الأعماق، ومثل الشرر من الأعلى. توجد نغمات أخرى تصيب التيارات بالاضطراب، وترسل ألسنة ضخمة من الماء الخوار عاليا، فوق السطح الرقيق مثل علو الشجرة فوق جذورها القوية. تصمد المياه، ذات اللون الأخضر الشفاف والأسود البازلتي، محافظة على ارتفاعها للحظة أبدية ثم تنهار قمتها لأسفل وتغوص في الأعماق مرة أخرى، محدثة رغوة، وزبدا كثيفا، ومليارات من فقاعات الهواء. أما «ران»، زوجة «إيجير»، فتلعب بشبكة ضخمة تلفها حول المخلوقات الميتة والمحتضرة وهي تهوي عبر الأعماق الكثيفة. يقول البعض إن الكائنات التي تعلق في شباكها ليست ميتة ولا محتضرة، ولكنها مفتونة فحسب بصوت التدفق. أما ما تفعله بالعظام وعظام فكوك الحيتان، والجلد والرقاب، فهو أمر مجهول. يقال إنها تغرسها في الرمال، لتطعم الكائنات التي تزحف وتتسلل أسفلها. ويقال إنها تجمع الأجمل بين المخلوقات - حبارا مضيئا، بحارا ذا شعر ذهبي كثيف وعيون زرقاء وقرط لازوردي، ثعبان بحر شاردا - وترتبها في حديقة عشبية، بهدف أن تحظى بمتعة التحديق فيها. أولئك الذين رأوها لا يرون أي شيء آخر، ولا يعودون مرة أخرى كي يصفوها. (4) الإله ما هو إلا إنسان
كانت الطفلة النحيلة في زمن الحرب منشغلة بالسؤال عن كيفية خلق شيء من العدم. طبقا للقصة التي تروى في الكنيسة الحجرية، فإن شخصية تشبه الجد، ولديها استياء تجاه فكرة الافتراض، قد قضت ستة أيام ممتعة في صنع الأشياء؛ السماء والبحر، والشمس والقمر، والأشجار والأعشاب البحرية، والجمل، والحصان، والطاووس، والكلب، والقطة، والدودة، كل المخلوقات التي تعيش على الأرض لتغني له بأصوات مبتهجة، لترتل تمجيداته في الواقع، كما تفعل الملائكة على الدوام. وقد وضع البشر في مكانهم وأمرهم ألا يبرحوه وألا يأكلوا تفاحة إدراك الخير والشر. كانت الطفلة النحيلة تعرف ما يكفي من القصص الخيالية لتدرك أن الغاية من وجود المحظور في أي قصة هو أن يتم خرقه. كان مقدرا للبشر الأوائل أن يأكلوا التفاحة، فانقلب القدر عليهم. كان الجد مسرورا بنفسه. لم تجد الطفلة النحيلة أحدا في هذه القصة لتتعاطف معه. ربما باستثناء الثعبان، الذي لم يطلب أن يستخدم كوسيلة غواية. فكل ما كان يرغب فيه الثعبان ببساطة هو الالتفاف حول نفسه في الأغصان.
ما الذي كان موجودا في البداية في قصص أسجارد؟
في العصر الأول،
كان العدم،
لا رمال ولا بحار،
ولا أمواج باردة؛
لم تكن هناك أرض،
ناپیژندل شوی مخ
ولا سماء عالية.
انشق الخليج
ولم يكن هناك عشب نابت في أي مكان.
كان الخليج الخاوي يسمى «جينونجاجاب»، وهو اسم كررته الطفلة النحيلة مرارا وتكرارا. كانت تراه كلمة رائعة. ولم يكن هذا الخليج عديم الشكل تماما. كان محددا باتجاهات البوصلة. إلى الشمال كانت «نيفلهايم»، أرض الضباب والبرودة والمطر، التي انطلق منها اثنا عشر جدولا عنيفا من المياه الجليدية. وإلى الجنوب كانت «موسبلهايم»، أرض الحرارة، حيث تأججت النيران وتصاعد الدخان. تدحرجت الجبال الجليدية من نيفلهايم وذابت حتى تحولت إلى بخار بسبب الانفجار المحموم من موسبلهايم. وفي خضم هذه الفوضى المضطربة تكونت هيئة بشرية من المادة المتطايرة، إنه العملاق «يمير»، أو «أورجيلمير»، الذي يعني اسمه الطين المستعر أو الحصى الصائح. قال البعض إنه مصنوع من الطين الأبيض النقي الذي كانت «الاسكندنافيات» تغذي به «إجدراسيل». كان عملاقا؛ كان كل شيء، أو كل شيء تقريبا. رأته الطفلة النحيلة على هيئة نسر باسط جناحيه، ومتلألئ في كل بقعة، ولسبب ما لم يكن له وجه، ورأسه عبارة عن كرة صخرية.
كان هناك مخلوق آخر في «جينونجاجاب»، وهو بقرة ضخمة، تدر الحليب باستمرار وهي تلعق الملح الموجود على الصخور الجليدية. وقد تغذى «يمير» على هذا الحليب. لم تستطع الطفلة النحيلة تخيل كيف كان ذلك. كان العملاق شديد الضخامة. وهو الأب لكل عمالقة الجليد، «الهيرمثرسيون»، الذين نبتوا من جسده الهائل. ففي الحفرة حيث تلتقي ذراعه اليسرى بجذعه، تكونت المخلوقات، من ذكور وإناث؛ والتفت قدماه معا وتمخض منها ذكر. وفي غضون ذلك كانت البقرة العظيمة منشغلة بالتهام الملح بلسانها النهم، فكشفت أولا عن شعر مجعد، ثم لحم من الصقيع لعملاق آخر نائم، إنه «بر»، الذي أنجب عملاقا آخر، ألا وهو «بور»، الذي وجد في مكان ما (أين؟ هكذا فكرت الطفلة النحيلة، ورأسها مزدحم بالعمالقة الذين يملئون «جينونجاجاب») عملاقة تدعى «بيستلا»، والتي أنجبت ثلاثة أبناء، وهم الآلهة الأولى: «أودين» و«فيلي» و«في».
وقد هاجم هؤلاء الإخوة الثلاثة «يمير» وذبحوه وقطعوا أوصاله.
حاولت الطفلة النحيلة تخيل هذا. وهو ما كان من الممكن تأمله إذا قلصت حجم كل شيء، بحيث تصبح «جينونجاجاب» وكل ما تحتويه أشبه بكرة زجاجية سميكة، يهب داخلها الضباب كالحبال، ويتمدد الرجل الطيني في الفضاء، متلألئا بالصقيع. لقد تسللت، الآلهة الأولى، نحوه ومزقته بالأظافر، وبالأسنان، وبالمناجل، وبالخطاطيف، بماذا؟ لقد مزقته إربا، وهي عبارة تعرفها جيدا. لم يكن لهؤلاء الآلهة الثلاثة وجوه؛ إذ لم يكونوا أشخاصا، وكانوا يتحركون بخفة مثل ظلال سوداء راكضة، كالرجال القوارض، يطعنون ويبحثون. لقد حدث الفعل الأول للآلهة الجديدة، بأول ثلاثة ألوان يراها البشر ويسمونها: أسود، أبيض، أحمر. كانت «الفجوة» سوداء، ذات درجات عديدة من اللون الأسود، سميكة وناعمة، براقة وغامضة. كان العملاق الجليدي أبيض اللون، باستثناء الأماكن التي ألقت عليها أجزاؤه الضخمة ظلالا بيضاء بنفسجية؛ مثل الإبطين، وفتحتي أنفه الضخمتين، وأسفل ركبتيه. مزقت الآلهة الجديدة «يمير» إربا وضحكت. تدفقت الدماء من الجروح التي أحدثوها، وسالت من رقبته على كتفيه، وانزلقت كثوب ملتهب على صدره وخصره، واشتد تدفقها، حتى ملأت الكرة الزجاجية باللون القرمزي المتدفق، وأغرقت العالم. كانت دماؤه تتدفق بجموح لا يتوقف؛ فقد كانت هي الحياة التي تسكن بداخله، أسفل الطين والجليد، ولكنها استنزفت حتى الموت. كانت هناك قصة في كتاب «أسجارد» لم تحبها الطفلة النحيلة، وهي عن عملاق يدعى «بيرجلمير» بنى قاربا ونجا من الطوفان، فأصبح سلفا للعمالقة الآخرين. لم تعجبها القصة لأن الكاتب الألماني قال إنها ربما تكون محاكاة لقصة «نوح والطوفان». أرادت الطفلة أن تبقي هذه القصة منفصلة.
خلقت الآلهة العالم من العملاق الميت. شعرت الطفلة النحيلة بالانزعاج من اضطرارها لتخيل ذلك؛ إذ لم يكن هناك مقياس يمكن لها قياس هذا العالم به، على الرغم من أنها تمكنت من فهم الأشكال المظللة التي ربطت أجزاء «الإنسان» الميت بمخلوقات هذا العالم وتكويناته.
من لحم يمير،
تشكلت الأرض.
ناپیژندل شوی مخ
ومن عظامه تشكلت الجبال،
ومن جمجمة العملاق الباردة كالصقيع
تشكلت السماء.
ومن دمه،
انبثق البحر وماج.
تشكلت البحيرات من عرقه، والأشجار من شعره المجعد. وداخل التجويف الشاهق لجمجمته، تكونت السحب الجارية من دماغه. أما النجوم فربما كانت عبارة عن شرارات شاردة من «موسبلهايم» احتجزتها الآلهة وثبتتها أسفل عظام الجمجمة. أو ربما كانت عبارة عن أضواء فوق العظم، تلمح من خلال الشقوق والثقوب التي حدثت أثناء قتل «يمير».
تغذت الديدان واليرقات بجميع أنواعها على اللحم العفن. جعلت الآلهة من هؤلاء سكانا للكهوف، إنهم الأقزام، المخلوقات الخارقة القوية البطيئة، والجان الداكن البشرة. وأخذوا حواجب «يمير» الكثيفة من جثته وصنعوا منها سياجا كثيفا، يطوق «حديقة الأرض الوسطى»، «ميدجارد». وفي قلب «ميدجارد»، بنوا منزل الآلهة، «أسجارد». أطلقت هذه الآلهة على نفسها اسم «إيسر»؛ أي الأعمدة، وكان «أسجارد» محاطا من كل اتجاه ب «ميدجارد»، التي كانت بدورها محاطة بالبحر الدموي، الذي يقع خارجه «أوتجارد»؛ أي العالم الخارجي، حيث تكمن الأشياء الرهيبة وتتسلل خلسة.
خلقت الآلهة أيضا الشمس والقمر، ومعهما الوقت. كانت الأرض عبارة عن جثة نابتة، والسماء تجويف جمجمة. وكانت الشمس والقمر بشريين أيضا في هيئتيهما. كانت الشمس امرأة مشرقة، تقود عربة يجرها حصان، يدعى «أرفاكير» (أي المستيقظ باكرا). وكان القمر؛ «ماني»، فتى براقا يركب حصانه «ألسفيدر» (أي الشديد السرعة). وكانت الأم «ليلة» تقود حصانا داكنا، يدعى «هريمفاكسي» (أي ذا العرف الجليدي)، ويتبعها ابنها «نهار» على حصانه «سكينفاكسي» (أي ذا العرف المضيء). انطلقت هذه الأشكال البشرية، تبدل بين العتمة والنور، في موكب لا ينتهي أسفل الجمجمة، فوق السحب.
كان هناك شيء غريب في هؤلاء السائقين والفرسان الساطعين والمظللين. ذلك حيث تلاحق الذئاب كلا من الشمس والقمر لحاقا محموما ولصيقا، بأفواه مفتوحة، وتحاول نهشهما، وهي تثب عبر الفراغ. لم تذكر القصة أي شيء عن كيفية خلق الذئاب؛ فقد ظهرت فجأة وبكل بساطة، مزمجرة وداكنة. كانت الذئاب جزءا من إيقاع الأشياء. لا ترتاح ولا تتعب أبدا. كان العالم المخلوق موجودا داخل الجمجمة، وكانت الذئاب التي تتجول في عقل الجمجمة موجودة منذ بداية الموكب السماوي.
بنت الآلهة «أسجارد» بروعة. وصنعت أدوات وأسلحة، وأواني وأكوابا من الذهب؛ فقد كان الذهب وفيرا، كما صنعت أقراصا ذهبية للرماية، ونحتت أشكالا ذهبية للعب الدامة والشطرنج. كانت الآلهة قد خلقت الأقزام والمخلوقات الخارقة القوية البطيئة، والجان الداكن البشرة والنور. وعند هذه النقطة، وبشكل يكاد يكون عرضيا، خلقوا البشر، لإرضاء أنفسهم وتسليتهم.
ناپیژندل شوی مخ
كان هناك ثلاثة آلهة تركت «أسجارد» وذهبت للتمشية بغرض المتعة في الحقول الخضراء في «ميدجارد». ذلك حيث تزهو الأرض بالعشب الأخضر والكراث الغض. هؤلاء الثلاثة هم «أودين»، و«هونير»، و«لودر» الذي ربما كان «لوكي» السريع ولكن في هيئة أخرى، مثلما أوضح كتاب «أسجارد». وصلت الآلهة الثلاثة إلى شاطئ البحر ووجدت هناك جذعين ميتين من شجرتين مختلفتين، «أسك»، شجرة مران رمادية، و«إمبلا»، التي ربما كانت شجرة جار الماء، أو الدردار، أو إحدى الكرمات. كان هذان الجذعان فارغين لا يحتويان على أي شيء.
كانا بلا عقل،
وبلا إحساس،
بلا دم وبلا صوت،
وبلا ألوان زاهية.
حولتهما الآلهة الثلاثة إلى مخلوقات حية. أعطاهم «أودين» العقل، وأعطاهم «هونير» الحواس، بينما أعطاهم «لوكي» المتقد الدم واللون. وبذلك أصبحت الآلهة القاتلة الثلاثة هي الآلهة الثلاثة المانحة للحياة، ولكن هذا على افتراض أن «فيلي» و«في» اللذين اختفيا من القصة، قد حل محلهما ببساطة كل من «هونير» ولوكي، مثلما ظنت الطفلة النحيلة. كان هناك دائما ثلاثة آلهة؛ فهذه هي القاعدة في جميع القصص، سواء الأسطورية أو الخيالية. إنها «قاعدة الثلاث». كان الثلاثة في القصة المسيحية هم الجد المستاء، والرجل الطيب المعذب، والطائر الأبيض ذو الأجنحة المرفرفة. أما في قصة هذا العالم، كان أودين خالقا، وهكذا كان الإلهان الآخران أيضا، فشكلوا معا ثلاثة.
تخيلت الطفلة النحيلة الرجل الخشبي الجديد والسيدة الخشبية الجديدة. كانت بشرتهما ناعمة، وكأنها لحاء جديد، وعيونهما لامعة مثل الطيور اليقظة؛ حركا أصابع يديهما وقدميهما ببطء واندهاش، مثل الفراخ أو الثعابين الصغيرة وهي تخرج من البيض، وتتعثر قليلا بينما تتعلم المشي. فتحا فمهما ليبتسم كل منهما للآخر. لم يأكلا شيئا؛ فقد كانا عبارة عن مادة نباتية ميتة؛ ولكن فميهما المليئين بالأسنان البيضاء القوية والجديدة كانا يحويان أيضا الأنياب الحادة التي تميز آكلي اللحوم، كالذئب الذي يقبع في الرأس.
لم يعرف بعد ذلك أي شيء عن مصائر «أسك» و«إمبلا» سواء السعيدة أو التعيسة. وشأنهما شأن الكثير من الأشياء في هذه الحكاية، فهما يبقيان معا لفترة وجيزة، ثم يعودان إلى الفجوة المظلمة. ولكن «أودين»، الإله، كان أحد محركي القصة. ولوكي أيضا؛ إذ كان الإله الهائم الثالث من النوع المخادع فعلا، كما فضلت أن تعتقد الطفلة النحيلة؛ لأن الروابط التي تحيك نسج الحكاية ستصبح أقوى لو كان موجودا وقت خلق البشر.
سارت الطفلة النحيلة عبر الحقل الجميل في كل الظروف الجوية، وهي تحمل حقيبة كتبها وأقلامها التي يتدلى منها القناع الواقي من الغاز، مثل العبء الذي كان يحمله المسيح عندما يسير عبر الحقول، وهو يقرأ كتابه المقدس. وبينما كانت تسير، فكرت طويلا ومليا في معنى الإيمان. إنها لم تصدق القصص الموجودة في كتاب «أسجارد والآلهة». ولكن هذه القصص كانت ملتفة في جمجمتها كالدخان، وتطن فيها كما يطن النحل الداكن في خليته. وقد قرأت القصص الإغريقية في المدرسة، وقالت لنفسها إنه ذات مرة كان هناك أناس جلبوا «الإيمان» إلى هذه الآلهة المتقلبة والعدوانية، بيد أنها كانت تقرأ هذه القصص مثلما تقرأ القصص الخيالية. «القط ذو الحذاء»، و«بابا ياجا»، وجنيات الليل التي تساعد في الأعمال المنزلية، والعفاريت والجنيات، الحمقى منهم والخطيرين، وحوريات البحر، وحوريات الغابة، والهيدرا، والحصان الأبيض المجنح؛ «بيجاسوس»، كل هذه القصص والمخلوقات الخيالية منحت العقل المتعة التي يمنحها الخيال عندما يكون لفترة وجيزة أكثر واقعية بكثير من العالم المرئي نفسه. ولكن هذه القصص لم تعش فيها، ولم تعش هي في تلك القصص.
كانت الكنيسة تحتوي على بوابة صغيرة حقيقية، مثل تلك الموجودة في كتاب «رحلة الحاج»، مكتوبة عليها عبارة «اطرق على البوابة، وستفتح لك». هرولت عبر تلك البوابة، ووضعت الحقيبة والقناع، ثم حملت عبء ما كان مطلوبا منها تصديقه وهي «لا تستطيع» تصديقه، وكانت تعلم، في أعماق عقلها وجسدها، وفي رئتيها اللاهثتين وفي الفراغ خلف عينيها، أنها «لا تريد» تصديقه. كان بنيان سيجد عقابا رهيبا لها، كأن تنزلق في قدر من الزيت المغلي، أو أن يحملها شيطان ذو مخالب بعيدا ويضعها فوق قمم أشجار الغابة.
ناپیژندل شوی مخ
تحدث القس بلطف عن المسيح اللطيف، وشعرت أنها «وقحة» إن لم تصدقه.
ما كان حيا في هذا المكان الحجري النظيف الذي تفوح منه رائحة دهان تلميع النحاس والأخشاب، هو اللغة الإنجليزية. أيها الآب القدير والرحيم؛ لقد أخطأنا، وانحرفنا عن طريقك كالخراف الضالة. لقد أسرفنا في اتباع أهوائنا ورغبات قلوبنا. لقد أسأنا إلى نواميسك المقدسة. لقد تركنا ما كان يجب علينا فعله ولم نفعله؛ وقد فعلنا ما كان يجب علينا ألا نفعله؛ وليس بنا صلاح. أما أنت يا إلهي، فارحمنا، نحن الخطاءون البائسون. واعف، يا إلهي، عمن يعترفون بخطاياهم.
كانت الطفلة النحيلة تحفظ هذه الكلمات عن ظهر قلب. وترنمها أحيانا وهي تسير بجانب السياج، مشددة على الكلمات للحفاظ على الإيقاع، وهي تتخيل الخراف الضالة وهي تثغو وتحدق حولها في حقل رمادي. أما أسس العقيدة فلم تستطع ترديدها. إنها لم تؤمن لا بالآب، ولا بالابن، ولا بالروح القدس. حاولت ترديد هذه الكلمات فشعرت كأنها الابنة السيئة في الحكاية الخيالية، التي يمتلئ حلقها وفمها بالضفادع والعلاجيم المتمعجة.
لقد صنعت لنفسها أسطورة عن المروج وهي تهرع ذهابا إلى المدرسة وتتلكأ إيابا منها في أوقات الظهيرة الطويلة. كانوا يغنون، في الكنيسة، وفي المدرسة قائلين:
زهور الأقحوان هي فضتنا،
وزهور الحوذان هي ذهبنا؛
فهذا هو كل الكنز
الذي يمكننا حمله أو امتلاكه. •••
قطرات المطر هي ماساتنا،
وندى الصباح،
ناپیژندل شوی مخ
أما الياقوت المتلألئ
فهي زهور الفيرونيكا الزرقاء.
كانت الطفلة تحب رؤية الأشياء وتعلمها وتسميتها. الأقحوانات. قسمت المرادف الإنجليزي لهذه الكلمة،
Daisies ، إلى جزأين
Day’s eyes ، وتعلمته بشيء من المتعة. زهور الحوذان، صفراء لامعة، لونها أجمل من الذهب، وزهور الهندباء الموجودة في كل مكان، شديدة الصفرة ذات الأوراق المسننة ورءوس البذور الأنعم من الصوف، بذورها عبارة عن نقاط سوداء كالضفادع الصغيرة التي تسبح في كرات من الهلام في البركة. في الربيع كان الحقل يمتلئ بزهور بريمولا الصفراء؛ وفي سياج الشجيرات، وفي الضفة المتشابكة، وأسفل سياج الزعرور البري وشجرة المران، تنتشر زهور بريمولا البيضاء وزهور البنفسج ذات الألوان العديدة، من اللون الأرجواني الزاهي إلى اللون الأبيض الذي يميل إلى البنفسجي الفاتح. والهندباء؛ أي ناب الأسد، مثلما أخبرتها والدتها. ذلك حيث كانت والدتها تحب الكلمات. وكانت هناك نباتات البيقة ونبات قش الفراش، وزهور آذان الفأر الرومانسية والفيرونيكا، وزهور قفاز الثعلب، والأخيون، وبقدونس البقرة، ونبات عنب الديب (الذي كان يغطي الأسيجة الشجرية ويكللها)، وعشبة السنفية والغرنوقي، والحرف الزغبي، والكربل (وهو مفيد لعلاج الجروح واللسعات)، والماميران الربيعي، والسيلين واللخنيس. كانت تراقب كل واحدة منها، بينما تنبت في مجموعات شجيرية متناثرة عبر العشب، أو كزهور منفردة مستترة في المصارف أو ملتصقة بالحجارة.
كانت الضفة المتشابكة تعج بأشكال الحياة، وهي غير مرئية في معظمها، ومع ذلك كان من الممكن سماعها، في حركتها وسط حفيف الأوراق الميتة، وسكونها وهي تنصت إلى الطفلة المنصتة. كان بإمكانك سماع انتباه طائر مخفي، أو جثوم فأر من فئران الحقول. شاهدت العناكب تنسج أفخاخها الهندسية المتقنة، أو تقبع تحت قمع حريري سميك وجذاب. كانت هناك أسراب من الفراشات، في أوقات مختلفة من العام، فراشات صفراء وبيضاء وزرقاء وبرتقالية وسوداء مخملية. وامتلأت الحقول بالنحل الطنان المرتشف. وسكنت الطيور الفروع والسماء. وحلق طائر القبرة عاليا من الأرض العارية وصولا إلى السماء الزرقاء وهو يغرد. وضربت طيور السمنية الحلزونات في الحجارة تاركة وراءها بساطا متكسرا من القواقع الفارغة. وقفزت الغربان بخطى واسعة ونعقت وتجمعت في مجموعات كبيرة لامعة على قمم الأشجار. وحلقت أسراب ضخمة من طيور الزرزور عاليا منطلقة وكأنها جناح أسود كبير، والتفت كأنها سحابة من الدخان. وصاحت طيور الزقزاق.
كانت الطفلة النحيلة تنقب عن الضفادع الصغيرة والأسماك الصغيرة في البركة، والتي كان هناك عدد لا نهائي منها. وجمعت باقات كبيرة من الزهور البرية، وزهور بريمولا الصفراء المليئة بالعسل، وزهور أم رويس في وسائد زرقاء، وزهور النسرين، وأخذتها إلى المنزل، حيث لم تعش هذه الزهور طويلا، وهو أمر لم يهمها؛ لأنه دائما ما كان يزهر المزيد محل التي قطفت. ازدهرت الزهور ثم ذبلت وماتت ولكنها دائما ما كانت تعاود الإزهار في الربيع التالي، وستظل تزهر حتى بعد فترة طويلة من وفاتها هي شخصيا، هكذا فكرت الطفلة النحيلة. ربما أكثر زهرة كانت تحبها من بين بقية الزهور هي زهرة الخشخاش البري، التي جعلت الضفة الخضراء قرمزية اللون كالدم. كانت تحب قطف برعم مكتنز على وشك التفتح، وذي حواف خضراء مزغبة. كانت تفتح تخت الزهرة بأصابعها، وتستخرج البوغ الأحمر الحريري المجعد - والذي ظنت أنه رطب قليلا - وتنثره في ضوء الشمس. كانت تعلم في قرارة نفسها أنها ينبغي ألا تفعل ذلك. فقد كانت تنهي حياة قبل أوانها، وتحدث خللا في المسار الطبيعي للأشياء، من أجل متعة إشباع فضولها وإلقاء نظرة على قلب الزهرة القرمزي المجعد والمزخرف والمتواري. لقد ذبل هذا القلب على الفور تقريبا بين إصبعيها. ولكن كان هناك دائما المزيد والمزيد منها. كانت كل أشكال الحياة في الأصل شيئا واحد؛ الحقل، والسياج ، وشجرة المران الرمادية، والضفة المتشابكة، والمسار المعتاد، وأشكال الحياة التي لا تعد ولا تحصى، والتي كانت الطفلة النحيلة، بعدما وضعت حزمتها وقناع الغاز الخاص بها على الأرض، واحدة من بين الكثير منها. (5) أسجارد
كانت الآلهة في «أسجارد» تتناول الطعام الفاخر في أطباق ذهبية، وتحتسي شراب «الميد» في كئوس ذهبية. كانوا يسعدون بالمشغولات المعدنية، ولا سيما تلك التي تصنع من الذهب، وكانوا يكتنزون كميات ضخمة من الحلي والخواتم السحرية التي يصنعها الحدادون داكنو البشرة من الأقزام. كانوا يمارسون الخدع المضحكة بعضهم على بعض، ويتشاجرون. وذهبوا إلى حافة دائرة «ميدجارد» وواجهوا العمالقة، ثم عادوا وتغنوا بمديح أنفسهم. شكلت الطفلة النحيلة وجهة نظر مفادها أن الجنة المسيحية و«الاسكندنافية» كلتاهما مملتان؛ ربما لأن البشر الفانين لا يستطيعون فهمهما. فها هم القديسون، في الترنيمة التي غنوها، يلقون بتيجانهم الذهبية حول بحر شفاف لامع. كانت كلمات الترنيمة: بحر شفاف، ذهبي، جميل. ولكن الخلود كان يهدد بإصابة الطفلة النحيلة بالملل.
عاش «أودين»، حاكم الآلهة، في «فالهالا»، أو «فالهول»، والتي تعني قاعة القرابين. وهي قاعة شاسعة. إنها قاعة مسقوفة بدروع ذهبية ولها خمسمائة باب. كان سكانها هم «الإينهيرجار»؛ أي المحاربون القتلى الذين اختطفوا في لحظة مقتلهم من ساحة المعركة من قبل عذراوات «الفالكيري» المجنحات اللاتي يحملن دروعا. كانت المعارك هي ما عاشوا من أجله. كانت المعارك هي مهنتهم الأبدية. ذلك حيث كانوا يخرجون كل يوم ويتقاتلون حتى يتجرعوا الموت المرير. وفي كل مساء يعادون إلى الحياة من جديد ويتناولون في «فالهول» اللحم المشوي للخنزير «ساهرمنير»، الذي، بعدما تشرب دماؤه ولا يتبقى منه سوى عظامه، يعاد إحياؤه مرة أخرى، فيصدر شخيرا ويعود صلب البنية لكي يذبح مرة أخرى، ويشوى ويؤكل، يوما تلو الآخر ويستمر هكذا إلى الأبد.
ارتجفت الطفلة النحيلة خوفا وانفعالا من فكرة أن «أودين» كان إلها شريرا وخطيرا. لقد كان إلها معاقا، إلها أعور قدم إحدى عينيه ثمنا للمعرفة السحرية التي تجرعها من بئر «أورد»، التي يقبع فيها الرأس المقطوع للعملاق «ميمير»، من سلالة «يوتن»، يقص التاريخ، والقصص، وتعاويذ القوة، وقصائد الحكمة المكتوبة بالأحرف الرونية. كان «أودين» إلها متواريا، يتنكر في زي رجل عجوز يرتدي عباءة رمادية وقبعة تواري محجر عينه الفارغ. كان إلها يسأل أسئلة ملغزة ويدمر من يقدمون إجابات خاطئة. وكان يحمل رمح الحرب، «جونجنير»، الذي نحتت عليه حروف رونية تكشف أسرار البشر والوحوش والأرض. وقد صنع الرمح من غصن اقتلع من «إجدراسيل» نفسها. وبعدها شذب حتى أصبح على شكله الحالي. وقد ترك جرحا وندبة لدى «أودين» (وكان أول من سرد هذا الجزء من القصة هو ريتشارد فاجنر).
ناپیژندل شوی مخ
صور «أودين» في كتاب «أسجارد» في قصر الملك العملاق «جيرود» الذي ربط معصمي الزائر المجهول بالحبال وشدهما وجعله يحترق بين نارين. وهي صورة جيدة؛ فقد كان الشكل الأسود الغامض جاثما بين ألسنة اللهب المستعرة، لا مبتسما ولا عابسا، بل واجما. بعد ثماني ليال دون طعام أو شراب، قدم إلى الزائر بوقا من الجعة، فراح يغني وصوته يعلو أكثر فأكثر أغنية لأسجارد والمحاربين في فالهول ولإجدراسيل التي تضرب بجذورها في كل جذور العالم. ثم كشف عن نفسه، فسقط الملك على سيفه. كان أودين إلها لا يمكن توقعه، وكان يقبل قرابين بشرية في هيئة «نسور دامية» مربوطة بجذوع الأشجار، برئات وأضلع ممزقة. وعلى الرغم من أنه إله، فقد عانى هو نفسه من العذاب، وهو ما جعله أشد بأسا وأكثر حكمة وخطورة.
أعلم أنني كنت معلقا على شجرة في مهب الريح،
تسع ليال طويلة،
مصابا برمح يخص «أودين»،
وحيدا، معلقا على تلك الشجرة، التي لا يعلم أي إنسان.
من أين تمتد جذورها. •••
لم يعطوني خبزا ولا رشفة ماء من قربة،
نظرت إلى أسفل؛
أخذت الأحرف الرونية، أخذتها وأنا أصرخ،
ثم عدت من هناك. •••
ناپیژندل شوی مخ
تعلمت تسع تعويذات قوية ...
كان «أودين» هو إله «الصيد البري». كما كان أيضا «الجيش الغاضب». وهو جيش طيفي من الرجال المسلحين والصائدين، الذين يمتطون أحصنتهم ويصطحبون كلاب صيدهم، وينطلقون عبر السماء. لا يتعبون ولا يتوقفون أبدا؛ فبينما كانت الأبواق تعوي في الرياح، وحوافر الخيل تضرب، كانوا يحومون في مجموعات خطيرة تدور وتنعطف كأسراب طيور الزرزور الوحشية. كان لحصان «أودين»، «سليبنير»، ثماني أرجل، وكان ركضه مدويا كالرعد. في الليل، كانت الطفلة النحيلة داخل غرفة نومها المعتمة تسمع أصواتا في السماء، وأنينا بعيدا، وصوت الأزيز والخفقان العنيف لمراوح الطائرات، وصوت الرعد وهو يمر فوقها مباشرة ثم يختفي. لقد حدثت مشاهد التحطم واندلاع الحريق على مرأى ومسمع منها عندما قصف مهبط الطائرات القريب من بيت جدها وجدتها. واختبأت مرتعبة في خزانة أسفل السلم مثلما علم الناس أن يختبئوا، ويستلقوا منبطحين على الأرض، أثناء مرور «جيش الصائدين». كان «أودين» هو إله الموت والمعارك. لم يكن هناك الكثير من حركة المرور عبر أطراف المدينة الصغيرة التي تعيش فيها الطفلة النحيلة. معظم ما كان موجودا يشار إليه باسم «القوافل»، وهي كلمة اعتقدت الطفلة النحيلة أنها مرادفة لمواكب المركبات ذات اللون الكاكي، وهي تهتز وتسحق الأرض أثناء مرورها. كان بعضها يحمل شبانا يجلسون في مؤخرة الشاحنات، يبتسمون للأطفال الملوحين، ويهتزون مع حركة الشاحنات. كانوا يجيئون ويذهبون. ولم يعلم أحد إلى أين أو من أين. لقد كانوا «رجالنا». تخيلت الطفلة والدها وهو يحترق في السماء فوق شمال أفريقيا. لم تكن تعلم أين تقع شمال أفريقيا. تخيلته بشعره الأصهب المتوهج وهو يحترق داخل طائرة سوداء، وصوت مراوح الطائرة يضج في السماء. كان الطيارون هم «الصائدين البريين». كانوا خطرين. ولو سقط أي صائد عن جواده، يتفتت إلى غبار، هكذا قرأت الطفلة. كانت قصة جيدة، وذات معنى؛ فهي تمزج بين الخوف والخطر، والأشياء الخارجة عن السيطرة.
في النهار، هناك الحقول المشرقة. أما في المساء، فقد كان الهلاك يدمدم في السماء. (6) الذئب ما هو إلا إنسان
ثم كان هناك «لوكي». وهو كائن لم يكن من الآلهة «الإيسير» ولا العمالقة «سلالة يوتن». ولم يكن يعيش، لا في «أسجارد» ولا «يوتنهايم». كانت «الإيسير» محددة الهدف. فالذكور منهم يركزون على المعارك والطعام، بينما تركز الإناث على الجمال، والغيرة، والخواتم والقلادات. وقد عاشت الجميلة «إيدونا» في الغصون «إجدراسيل» الخضراء وزرعت تفاح الشباب البراق، الذي كانت تطعمه للآلهة. ذات مرة، عندما أمسك عملاق ب «إيدونا» وتفاحها، اتخذ «لوكي» شكل صقر وحملهما بمخالبه إلى المنزل. كان «لوكي» وحده، من بين الآلهة، هو من يمكنه تغيير هيئته. كان يركض عبر مروج «ميدجارد» على هيئة فرس جميل. جذب هذا الوحش الجميل انتباه الفرسة السحرية للعملاق الذي بنى جدران «أسجارد» بشدة، حتى إنها أنجبت لاحقا «سليبنير»، فرس «أودين» ذا الثماني أرجل. واتخذ «لوكي» هيئة ذبابة مزعجة، سرقت قلادة «فريا» الذهبية، «بريسينجامن». ذلك حيث كان على دراية بالأماكن السرية.
كان يتنكر في هيئة مزارعة بريئة تحلب الأبقار، وكان بإمكانه تغيير جنسه مثلما يغير هيئته. كان مخادعا. وقد صارع نافخ البوق «هايمدال» في هيئة فقمة. واتخذ هيئة سمكة سلمون تقفز فوق الشلالات، أو تنزلق بسلاسة تحت سطح الماء.
اعتقد الألمان أن اسمه كان مرتبطا باللهب والنار، «لوهي»، «لوجي»، «لوجاي». كان يعرف أيضا باسم «لوبتر»، إله الهواء. ولاحقا دمج الكتاب المسيحيون بينه وبين «لوسيفر»، أو «لوكيفر»، حامل النور، والابن العاصي للصباح، العدو. كانت الروايات تؤكد دائما أنه جميل، ولكن جماله من الصعب تحديده أو رؤيته، وهذا لأنه كان دائم البريق، والوميض، والذوبان، والامتزاج، وهو على شكل لهب عديم الشكل، وكان الخيط المعاكس للأشكال الإبرية التي ترى في الكتلة الضخمة للشلال العديمة الشكل. كانت الريح غير المرئية التي دفعت السحاب في مجموعات كبيرة أو شرائط رقيقة. يمكنك أن ترى شجرة جرداء في الأفق محنية بفعل الرياح، وتحمل أغصانا ملتوية وفروعا محنية، ولكن فجأة تتحول هيئتها غير محددة الشكل إلى المخادع «لوكي».
كان مسليا وخطيرا، وفي الوقت نفسه لم يكن طيبا ولا شريرا. أما «ثور» فقد كانت شخصيته أشبه بمتنمر الفصل الذي ارتقى مستواه إلى إحداث الرعد الهادر والأمطار الجارفة. كان «أودين» هو القدرة والنفوذ، وهو من يسير الأمور. أما «لوكي» المتحور المراوغ، فهو يشع دهشة ويمتع نفسه.
كان الآلهة يحتاجون إلى «لوكي» لأنه ذكي وضليع في حل المشاكل. عندما يحتاجون إلى نقض الصفقات التي أبرموها بتهور مع العمالقة في أغلب الأوقات ، فإن «لوكي» هو من يساعدهم في التملص منها. كان إله النهايات. وكان يقدم الحلول التي تنحل بها عقدة الحكايات إذا أراد ذلك. ولكن غالبا ما كانت النهايات التي يختارها تؤدي إلى المزيد من المشاكل.
لم تبن المذابح ل «لوكي»، ولم تنحت التماثيل له، ولم يكن معبودا. كان في الأساطير هو الثالث والأخير في الثالوث، الذي ضم كلا من «أودين» و«هودير» ولوكي. في الأساطير، دائما ما يأتي الأهم أولا في ترتيب الثالوث. لكن في القصص الخيالية والفولكلورية، التي تلعب فيها هذه الآلهة الثلاثة أدوراها أيضا، تختلف قاعدة الثلاثة؛ إذ يصبح اللاعب الأهم هو اللاعب الثالث؛ ألا وهو الابن «الأصغر»: «لوكي».
كانت له زوجة تحبه في «أسجارد» اسمها «سيجين»، وابنان: «فالي» و«نارفي».
ناپیژندل شوی مخ
ولكنه كان دخيلا جامحا، ويميل إلى كل ما هو متطرف.
كانت الطفلة النحيلة، بعدما تقرأ هذه الحكايات وتعيد قراءتها، تشعر بأنها لا تكن حبا ولا كراهية تجاه الموجودين فيها؛ إذ لم يكونوا «شخصيات» يمكنها أن تشغل خيالها الخاص بأفعالهم. وكقارئة، فقد كانت متابعة جادة، وأحيانا منزعجة، وأحيانا أخرى مبتهجة. ولكنها استثنت «لوكي» من ذلك تقريبا. كان وحده بين كل هذه المخلوقات يتمتع بروح الدعابة والذكاء. كانت هيئاته المتغيرة جذابة، وبراعته ساحرة. كان يشعرها بعدم الارتياح، ولكن لديها مشاعر تجاهه، أما الآخرون؛ «أودين» و«ثور» و«بالدور» الجميل، فقد كانوا كما هم؛ هيئاتهم ثابتة لا تتغير، وهم حكماء وأقوياء ويتسمون بالجمال.
شرقا تسكن العجوز في «الغابة الحديدية»،
تربي الذئاب من سلالة «فنرير»،
أحدهم مقدر له، يوما ما،
أن يصبح الوحش الرهيب الذي يدمر القمر.
كانت الغابة الحديدية، «آيرنوود»، تقع خارج جدران «أسجارد»، وخارج مرج «ميدجارد»، وهي مكان مظلم شيطاني، تسكنه كائنات كل منها نصفه حيوان ونصفه الآخر إنسان، أو حتى نصفه إله، ونصفه شيطان. والعجوز التي تشير إليها القصيدة هي «أنكربودا»، جالبة العذاب، وهي عملاقة ذات وجه شرس، وترتدي ثيابا من جلد الذئب وفرائه، ولها مخالب في أيديها وأرجلها، وأسنان حادة. لعب «لوكي» معها، متموجا كاللهب في جسدها وفوقه ، كان يمتعها غصبا، حيث يمسك بها ويعانقها ويهرب منها، ويقتحمها دون أن تتمكن من الإمساك به. كانا يتبادلان الحديث عبر الزمجرة والحفيف. لم تكن «سيجين» لتتعرف على «لوكي» الشرس هذا ولا على عوائه المنتصر وهو يضع بذرة نسله داخل «أنكربودا». هل تنبأ «لوكي» بشكل أطفاله؟ كان أحدهم ذئب جرو، مسلحا بالفعل بمجموعة من الأسنان الحادة يقبع خلفها حلق أسود. وطفلة أخرى هي أفعى مرنة، ذات تاج من قرون الاستشعار اللحمية وأسنان حادة كأسنان أخيها، ولكنها كانت مستدقة كالإبر. كان لونها ذهبيا باهتا مع بريق أحمر قرمزي على قشورها وهي تتمدد وتلتف.
أما الثالثة، فكانت امرأة من العمالقة أو الآلهة. ذات لون أو ألوان غريبة. هيئتها قاسية، ومستقيمة القامة، مع سيقان طويلة، ويدين قويتين متمكنتين، وقدمين ثابتتين. كان وجهها قاسيا؛ إذ لا توجد كلمة أخرى لوصفه. ووجنتاها منحوتتان، وفمها عريض، غير مبتسم، وبداخله أسنان حادة قوية، كأسنان الذئب، لتمزيق أعدائها. وأنفها رفيع، وحاجباها داكنان كالدخان، كالكناية «الأعشاب البحرية للتلال»، التي تستخدم في العالم السفلي للإشارة إلى «الغابة». وفي تجويف العين استقرت عينان داكنتان لا تطرفان، كبرك القطران، أو الآبار التي لا ينعكس الضوء فيها. أما لونها، فقد كانت نصف سوداء، ونصف زرقاء. وقال من رأوها أيضا إن نصفها كان جسدا حيا، والنصف الآخر ميت. وفي بعض الأحيان كان الخط الفاصل بين اللون الأسود واللون الأزرق يقسمها بدقة، ويمتد من أعلى رأسها، مرورا بأنفها الطويل، وذقنها، وعظام صدرها، وعانتها، وصولا إلى الفراغ بين القدمين. ولكن في أحيان أخرى كان اللونان الأسود والأزرق يمتزجان معا. كانا جميلين؛ فقد كان اللون الأزرق مثل آخر خط من زرقة السماء يعانق ظلمة الليل القادمة. وكان لون الكدمات الموجودة على لحمها المهترئ أو الميت بشعا. كانت تنام عارية، منكمشة وملتفة مع أخويها البشعين، بقشورهم، وفرائهم، وخطومهم، وأنيابهم، وجفونهم التي تخفي عيونا حادة غاضبة. وهم يصدرون أصوات فحيح وخرخرة صاخبة. لقد أسعدوا «لوكي». ذلك حيث كان يطعمهم ويشاهدهم وهم يكبرون. ولكن من كان يدري ما قد يفعلونه؟ لقد كبروا، أكثر فأكثر.
جلس «أودين» على عرشه، «هليدسكيالف»، ممسكا بحربته، «جنجنير»، وهو يتفقد «أسجارد» و«ميدجارد» و«يوتنهايم» و«آيرنوود». أخبره غرابان أسودان، وهما «هوجين» (أي الفكر) و«مونين» (أي الذاكرة)، بما رأياه أثناء تحليقهما. فأدار وجهه القاسي نحو «آيرنوود».
كان «لوكي»، في البداية، في الزمن الذي غمرت فيه دماء «يمير» المتدفقة «الفجوة»، أخا «أودين» بالتبني. وقد أقسما بدمائهما على عهد الأخوة، وركبا القارب نفسه وأبحرا فوق هذا الدم. أما الآن فقد فرض «أودين» النظام، بينما ابتسم «لوكي» للفوضى. علمت الآلهة أن الوحوش الثلاثة خطيرة، وأنها ستصبح أكثر خطورة. ومن ثم أرسل «أودين» قوة لجلبهم، تتألف من «هيرمودر» الساطع و«تير» إله الصيد. فعبرا الجسر المشرق «بيفروست»، الذي يربط «أسجارد» بالعوالم الأخرى، وعبرا النهر «إيفينج» حتى وصلا إلى حيث كان «لوكي»، في أرض «الهيرمثرسيين» المظلمة. وقبضا على الوحوش الثلاثة وعادا بهم إلى درجات سلم «هليدسكيالف». فتثاءب الذئب. بينما لفت الأفعى نفسها على شكل عقدة. أما «هيل» فوقفت جامدة، بلونيها الأزرق والأسود، وهي تحدق.
ناپیژندل شوی مخ
ومن ثم تصرف «أودين». فألقى باثنين منهم في الفضاء. حيث أضاءت الأفعى الصغيرة في الهواء ضوءا باهتا، وسقطت، ثم طارت، ثم سقطت مرة أخرى، وهبطت على سطح المحيط الأسود اللامع الذي يحيط ب «ميدجارد». تمددت، وسبحت لبعض الوقت، وهي ترتفع وتهبط على الأمواج. ثم هوت أو غطست في الماء، واختفت عن الأنظار. فصفق الآلهة.
أخذ «أودين» «هيل» وألقاها نحو «نيفلهايم»، أرض الضباب والبرودة والظلام. فبقيت جامدة، مثل سهم انطلق من أحد الأقواس، أو صاروخ ذي مقدمة حادة مستدقة الطرف، وظلت مندفعة، وظلت تهبط إلى الأسفل أكثر فأكثر؛ إذ ظلت تسعة أيام تسقط ويتقلب عليها ضوء الشمس، وضوء القمر وضوء النجوم، متجاوزة عربات الشمس والقمر، وأطراف شجر الشوح الصنوبري مرورا بجذورها، ثم دخلت في المستنقعات والبرك المظلمة في «نيفلهايم» ومرت من خلالها، ثم مرت عبر التيار البارد لنهر «جيول» وصولا إلى «هيلهايم»، حيث كان عليها أن تحكم الموتى من البشر الذين لم يحالفهم الحظ بالموت في المعارك، فيما يسمى أرض الظلال. كان الجسر الذي يمر فوق «جيول» جسرا ذهبيا، والسياج الذي يحيط ب «هيل» سياجا حديديا شاهقا ولا يمكن اجتيازه. أما داخل القاعة المظلمة فقد كان هناك عرش ينتظر المخلوقة السوداء المزرقة، ذات الكدمات، تلك الإلهة والطفلة الوحشية، كما كان هناك تاج موضوع على وسادة سوداء، مصنوع من الذهب الأبيض، وأحجار القمر، واللؤلؤ الذي يشبه دموعا متجمدة، والبلورات التي تشبه الصقيع. وعندما حملت التاج والعصا الموضوعة بجانبه، بدأ الموتى يتدفقون إلى قاعتها مثل الخفافيش الهامسة، مثل أشباح لا تعد ولا تحصى. رحبت بهم دون أن يعتلي وجهها أيما ابتسامة. كانوا يلتفون حولها، وهم يصفرون بضعف، أما هي فقد أحضرت أطباقا من الفاكهة واللحم الطيفيين، وأكوابا تحتوي على طيف شراب الميد، تعلوه فقاعات طيفية عند الحافة.
وماذا عن الذئب، ما الذي حل به؟ تجري الذئاب بقوة عبر غابات العقل. ويسمع البشر عواءها في الظلام، مثل الموسيقى الطارئة الملحة، وكأنها جوقة جذلة تتبادل الألحان؛ كانت الذئاب الراكضة الواثبة المتسللة، التي لا تكل ولا تمل، غير مرئية وقابعة داخل الرأس. وهناك، أيضا، الفرو الخشن، والخطم، والأسنان، والدم. ينعكس ضوء النار وضوء البدر في عيون الوحوش، ويتلألأ في الظلام، كبقع من الضوء تسطع في الظلال الداكنة. يحترم البشر الذئاب؛ لما تمتاز به قطعانها من قرب ودفء، ولبراعتها في المطاردة، ولعوائها وزمجرتها، التي هي بمثابة رسائل ترسلها من حلوقها. كان لدى «أودين» في «أسجارد» جروان أليفان يرقدان عند قدميه، وهو يلقي إليهما اللحم الذي لم يتناوله. إن الذئاب حرة ووحشية، وهي أسلاف الكلاب، التي تهوى الجلوس بجانب المدفأة وتتسم بحب المطاردة، والتي استبدلت بقائد قطيعها آخر بشريا. وقد كون البشر والآلهة قطعانهم الخاصة لمطاردة وقتل قطعان الذئاب. ربما أخذت جراء الذئاب من أحد المخابئ بعدما ذبح والداهم، وأطعمت الحليب واللحوم، وجلبت من البرية. ربما جلس جرو وحيد على مؤخرته عند حافة إحدى الأراضي المقطوعة الأشجار وعوى، فأخذته امرأة وأطعمته وروضته. إنهم يوجهون خطامهم نحو القمر ويعوون.
كان الإله «تير» صيادا ومقاتلا. وهو يرتدي عباءة من جلد الذئب؛ بينما ثبتت الرأس الميتة الضخمة فوق وجهه الملتحي، شعثاء عمياء مكشرة عن أنيابها. عندما تردد «أودين» حول كيفية التخلص من الجرو «فنريس»، قال «تير» إنه سيأخذه، ويطعمه، وربما يروضه، كي يصطاد معه. زمجر «فنريس» في حلقه وأرجع أذنيه إلى الخلف متأهبا. تساءلت الطفلة النحيلة في زمن الحرب: لماذا ببساطة لم يقتل أودين الذي يعلم كل شيء الذئب والثعبان، اللذين كانا سامين ومروعين بكل وضوح، وكذا مشحونين بالعداء تجاه آلهة «الإيسير». لكن من الواضح أنه لم يستطع فعل ذلك؛ فقد كان مقيدا ببعض القوة الأخرى، التي شكلت القصة التي كان هو جزءا منها. قررت القصة أنه لا بد من بقاء المدمرين على قيد الحياة. وكل ما يمكن للآلهة فعله هو كبح الوحوش وتعطيلها. اعتقد «تير» أنه يعرف الذئب؛ وهذا لأنه كان يعرف كل ما هو بري جامح. فأخذه إلى غابة «ميدجارد» وأطعمه، وركض معه عبر الأشجار. لقد لعبا معا، وعندما يكبر الوحش، سيصطادان معا.
ومن ثم كبر الذئب. وكان مثل والده جامحا. اخشن صوته وعلا، فكان يصدر سلسلة من الزمجرات المتدرجة، والنباح الخافت، والعواء الكامل المرتفع الذي كان يمكن سماعه أعلى وأعلى في «أسجارد» البعيدة. كان هذا العواء بالنسبة إلى «تير» هو موسيقى البرية الجامحة. بالنسبة إليه هو فقط. أصبح الجرو اللعوب صغيرا واثبا بحجم الخنزير، وكان ينمو كل يوم. كان يقتل من أجل المتعة، وهو ما أرجعه «تير» إلى اللعب واللهو الذي يتسم به الصغار. فهو يترك أرانب نازفة في الجليد، وصغار غزلان بأحشاء ممزقة في الغابة. وقد كبر حتى صار في حجم الحمار، ثم المهر، ثم العجل. كان صدى صوته المدوي يتردد في «ميدجارد»، أما صمته فكان نذير شؤم؛ ذلك أنه يعني أنه يتربص بإحدى الفرائس ويطاردها، ولم يكن أحد يعرف - ولا حتى الآلهة - ما الذي ينوي مطاردته بعد ذلك. أحضر له «تير» أجزاء كاملة من لحم الخنزير والإوز النافق ليرضيه ولينال ثقته. فكان «فنريس» يبتلع، ويعوي، ويقتل.
قررت الآلهة تقييد الذئب. كانت الكلمات التي استخدمها البشر لوصف الآلهة هي نفسها التي استخدموها للتعبير عن القيود أو الروابط، وهي الأشياء التي تجعل العالم متماسكا، ضمن الحدود المسموح بها، وهو ما يمنع اندلاع الفوضى والشغب. حكم «أودين» بحربة مصنوعة من فرع مأخوذ من «إجدراسيل»، ومنحوتة عليها الأحرف الرونية لكلمة العدالة، حربة جلبت الحرب إلى العالم لحل النزاعات، حربة قضت على المحاربين وقادتهم إلى «فالهالا» حيث يتناولون لحم الخنزير المشوي والعسل، ويلعبون الشطرنج إلى الأبد. تحكمت الآلهة في زمام الأمور. كان الذئب هو الابن الغاضب ل «لوكي» الغامض والمتقلب، الذي سخر من رسمياتهم وقال إنها لن تنتهي نهاية جيدة. ولكن شيئا ما في مفهومهم حول النظام دفعهم أن يقرروا تقييد الوحش الضخم وتعذيبه فحسب، بدلا من محاولة قتله. ولكي يتحقق لهم ذلك كان عليهم التصرف بدهاء حتى يتمكنوا من خداعه كي يتعاون معهم، وإخضاعه.
ومن ثم صنعوا قيودا قوية أطلقوا عليها اسم «ليدنج»، وذهبوا في عصبة إلى الذئب في الغابة، وتحدثوا إليه بلطف، وقالوا إنهم أحضروا له هذه اللعبة كي يستعرض قوته. قالوا إنهم سيقيدونه بها على سبيل المتعة، وإنه سيكسرها ويتحرر، ويظهر لهم قوته العضلية والعصبية. ارتفع شعر عنقه متأهبا، ونظر إليهم نظرة باردة حذرة، وضاقت حدقته حتى صارت كالدبابيس. وقال إنه يمكنه فعل ذلك، وهو يلف عضلاته القوية المنحوتة تحت فروته اللامعة. ولكن لم عليه فعل ذلك؟ كانوا قد راهنوا، حسبما قالوا، على مواجهة الوحش عند حافة الأرض المقطوعة الأشجار، حيث يمكن أن يختفي في الغابة المظلمة، أو يثب مهاجما الآلهة بأسنانه ومخالبه، وراهنوا على المدة التي سيستغرقها للتحرر من القيود. كان يمكن لنافخ البوق «هايمدال» الذي يحرس بوابة «أسجارد» الشاهقة أن يسمع العشب وهو ينمو على الأرض، والصوف وهو يخرج من جلود الغنم. ولذا أمكنه سماع دماء الذئب النابضة، وفروته وهي تتمدد. «العب معنا.» هكذا قال للوحش، الذي ألقى نظرة حذرة على «ليدنج» واستلقى على أرض الغابة ورفع كفه الضخم ذا المخالب. فأخذوا القيد، وقيدوا قدميه، وكتفوهما معا، وقيدوا فكه متجنبين رائحة أنفاسه اللحمية الساخنة، وحملوه كثور مهيأ للشواء. أطلق صوتا مخنوقا، وهز رأسه يمينا ويسارا، وسعل داخل حلقه المقيد، ثم سعل مرة أخرى، وهز نفسه، حتى انتفخت جميع مفاصله، فانشق القيد والتوى ثم سقط على الأرض. وقف الذئب على قدميه وحدق في الآلهة وأصدر صوتا بين العواء والخرخرة، وهو ما كانوا يعرفون أنه ضحك. نظر إليهم، وهو يتوقع المزيد من اللعب تقريبا، ولكنهم تراجعوا وعادوا إلى «أسجارد».
أخبروا حداديهم أنه يتعين عليهم القيام بعمل أفضل من ذلك. فصنعوا سلسلة جديدة، بحلقات مزدوجة، ومدمجة معا بمهارة. كان اسمها «درومي». فأخذوا السلسلة الجديدة إلى الذئب، الذي وضع رأسه على جانب واحد، ليقيس قوتها. وقال إنها قوية جدا. كما قال أيضا إن حجمه قد زاد منذ أن حطم «ليدنج». فقالت الآلهة إنه سيصبح وحشا مشهورا إذا تمكن من التعامل مع مثل هذه السلسلة المعقدة المصنوعة بمهارة. وقف وفكر، ثم قال لهم إن هذه السلسلة أقوى فعلا. ولكن هو نفسه كان أقوى كذلك. ولذا سمح لهم بتقييده مرة أخرى. ثم هز نفسه بعنف، وهو ملتو ومشدود، وركل بقدميه فكسر القيد إلى شظايا طارت هنا وهناك. وابتسم للآلهة، وكان لسانه يتدلى خارج فمه، وضحك بسخرية. واستمر في النمو، وكان «هايمدال» يستطيع سماعه.
أرسل الآلهة «سكيرنير»، وهو مرسال شاب، إلى الأقزام الذين يعيشون في أعماق موطن الجان الداكن البشرة. وكان الأقزام يصنعون خيوطا مرنة من أشياء مستحيلة. كانت هناك ستة منها مغزولة معا، وهي صوت وقع خطوات قطة، ولحية امرأة، وجذور جبل، وأوتار دب، ونفس سمكة، وبصاق طائر. كان هذا الشيء خفيفا كالهواء وناعما كالحرير، وهو عبارة عن شريط طويل وحساس. أخذوا هذا إلى الذئب، وقالوا له بمكر إن هذا الحزام أقوى مما يبدو عليه. وحاولوا تمزيقه بأيديهم، واحدا تلو الآخر، ولكنه لم يخدش. كان الذئب مرتابا. وأراد أن يرفض تحديهم، ولكنه خشي أن يسخروا منه. وقال لهم إنه يشك في سوء نيتهم. ويرتاب من خداعهم. وقال إنه سيلعب هذه اللعبة لو وضع أحد الآلهة يده بين فكيه، كضمان لصدقهم وتعهدهم على حسن النية. فوضع «تير» يده على رأس الوحش الساخن، كما قد يفعل مع كلب غاضب، ثم وضع يده بهدوء في فم «فنريس». فأخذ الآلهة يلفون شريطهم المرن حول خاصرة «فنريس» وفخذه وكفه ومخالبه ورقبته وردفه. هز الوحش نفسه والتوى، فالتصق القيد به واشتد وثاقه. كان هذا أمرا لا مفر منه. وما كان لا مفر منه أيضا أنه قبض بأسنانه على يد «تير»، فقطع اللحم والجلد والعظم. شاهدت الآلهة الذئب وهو يصر بأسنانه ويبتلع، وربطوا يد «تير» المبتورة والنازفة. فحدق الذئب فيهم بغضب مستعر، وقال إنه إذا كان ممكنا أن تؤكل يد إله، فسيكون من الممكن قتل الآلهة عندما يحين وقت الذئب. وكان رد الآلهة أنهم أخذوا الحبل الذي كان جزءا من «جليبنير» - وكان اسم هذا الحبل «جيلجيا» - ولفوه حول لوح حجري ضخم اسمه «جيول». ودفعوا به إلى داخل الأرض، ثم ربطوه بصخرة ضخمة أخرى اسمها «ثفيتي». عوى الذئب بشراسة، وصر بأسنانه. فأخذت الآلهة الضاحكة سيفا ضخما ودفعوا به في فمه. بحيث استقر المقبض على لثته السفلية؛ ورأس السيف على اللثة العلوية. تلوى الوحش الضخم ألما، ووسط عوائه انبثق نهر من بين فكيه المفتوحين. وكان اسم هذا النهر هو «هوب» أي الأمل.
ولكن الأمل في ماذا؟
ناپیژندل شوی مخ
كانت الآلهة تعرف، وكذلك «أودين»، أن زمن الذئاب سيأتي لا محالة. سينضم الذئب إلى إخوته عند نهاية العالم. جرى التنبؤ بالأهوال التي ستحدث، مثل تحرر الذئب من أسره، أو كلب الصيد «جارم»، وهو حارس بوابة مملكة «هيل» السفلية. كان هذا الوحش مرتبطا بالذئبين اللذين يركضان باستمرار عبر السماء داخل جمجمة «يمير» في ملاحقة عربات الشمس والقمر. رأت الطفلة النحيلة، التي كانت تقرأ عن العالم المتماسك الذي نشأ عندما قطعت أوصال «يمير»، نقشا يبين الليل والنهار، والشمس والقمر، وهما يركبان عربتين تجرهما خيول رائعة. كانا يمران باستمرار بسرعة خاطفة؛ ذلك أنهما، كما رأت الطفلة النحيلة وفهمت، كانا يعيشان في خوف دائم. فخلف الشمس والقمر، تعدو الذئاب بكامل سرعتها، والشعر على أعناقها منتصبا في تأهب، وألسنتها متدلية، لا تكل ولا تمل، كما هو حال الذئاب عند المطاردة، فهي فقط تنتظر أن تتعثر فريستها أو تسقط. لم تكن الطفلة النحيلة تعلم من أين أتت هذه المخلوقات الرهيبة. قالت الأساطير إنهم من نسل العملاقة القاسية التي تسكن «آيرنوود»، وإنهم إخوة الذئب «فنريس». فكرت الطفلة النحيلة في أنه لا بد من وجود زمن كان فيه الشمس والقمر، اللذان صنعتهما الآلهة، يتحركان بإرادتهما الحرة، وربما يتلكآن، أو يتوقفان مؤقتا، فيطيلان وقت يوم جميل، أو صيف جميل، أو ربما ليلة مظلمة تخلو من الأحلام. في إحدى القصص العتيقة كانت للذئاب أسماء. كان «سكول» هو من يطارد الشمس، بينما هرع «هاتي هرودفيتنسون»، عازما على الإمساك بالقمر. ومن ثم، كما فهمت الطفلة النحيلة، فقد نتجت حركة الضوء والظلام وتعاقب الليل والنهار والفصول عن الخوف من الذئاب الموجودة في العقل. لقد نبع النظام من القيود والتهديد بالأسنان والمخالب. قرأت الطفلة النحيلة في زمن الحرب بتجهم نبوءة ذئب جبار آخر قادم، إنه «مونجارم»، الذي سيملأ نفسه بدماء الحياة من كل من يموت، وسيبتلع الأجرام السماوية، ويرش الدماء في الجنة والسموات كلها. وهذا من شأنه أن يخل بحرارة الشمس وضوئها ويعيقهما، مما سيؤدي إلى هبوب رياح عنيفة، في كل مكان وتدمير الغابات ومساكن البشر والحقول والسهول. ستضرب السواحل وتنهار، وسيهتز النظام المستقر للأشياء وتقوض أركانه. (7) يورمنجاندر (7-1) المياه الضحلة
سقطت الأفعى بعدما ألقى بها «أودين» عبر السماء بينما تتغير هيئتها. فتارة تشبه الرمح عندما ينفرد عمودها الفقري، فتنطلق بسرعة وسلاسة، وتندفع لبدتها التي تتكون من شرائط لحمية من جمجمتها الحادة إلى الخلف وتتموج، بينما تومض أنيابها. وتارة أخرى كانت تسقط ملتفة في شكل حلقات، وكأنها سوط ملفوف، أو مثل شريط خفيف يدور في دوامات الهواء. كانت غاضبة لأنها انتزعت من إخوتها وأبعدت عنهم. كانت وحشا ذا إحساس؛ فقد كان اندفاع الهواء يسعدها، وكذا شم رائحة غابات الصنوبر، والأراضي القاحلة، والصحراء الساخنة، وملح البحر. لقد رأت أمواجه التي لا تهدأ، والزبد الذي يعلوها، واللون الأزرق الفولاذي ، وقابلت سطحه مثل الغطاسين، برأسها أولا ثم تبع ذلك ذيلها القوي بسلاسة. فغاصت، عبر هذا العنصر الجديد، حتى القاع الرملي، وأحدثت حركتها دوامات من حبات الرمال، وانزلقت بسلاسة بين النتوءات الصخرية. كانت وحشا بريا؛ فقد تربت في الغابة الحديدية «آيرنوود»، ولعبت في الظلال الخضراء الداكنة، والتفت حول نفسها في التراب. لكنها بدأت تتأقلم مع المياه المالحة، وشعرت بخفة جديدة في عضلاتها، وهي تطفو بتراخ على السطح، مثل الفضة وصغار أسماك الأنقليس، حيث عانق الضوء جلدها المبتل. في البداية بقيت في المياه الضحلة، تتنفس هواء الشاطئ من خلال فتحات أنفها ذات اللون الأحمر القرمزي، وتشق طريقها عبر برك الصخور، وتنزلق على امتداد خطوط المد، وتلتقط سرطانات البحر وقواقع البطلينوس والمحار، وتكسر القريدس المرجاني بأنيابها الحادة، وتخرج منها اللحم الغض بلسانها المشقوق. لقد استمتعت باكتشاف أساليب التمويه. فقد لاحظت سرطانات الناسك وهي تجري مسرعة بخطوات قصيرة، لتختبئ داخل الأصداف المهجورة.
وقد كشفت بعينيها الحادتين الخاليتين من الجفون في رأسها الحاد أسماك الداب وأعجبت بها وهي تنثر بقعا رملية على سطحها كي تشبه الرمل نفسه، بينما عيناها السوداوان تستقران على رأس مسطح مثل الحصى المضطرب. كما أعجبت بالحافة الدقيقة لهدب الزعنفة والذيل، التي بدت كظل خفيف بين قشرة السمكة الرملية اللون والرمل نفسه. ومن ثم نفخت في الرمال، واصطادت المخلوقات ولفتهم بلسانها المشقوق. كانت تحب العوالق الدقيقة، وتمتصها، وتبتلعها، ثم تبصقها. كانت دائما جائعة، ودائما ما تقتل أكثر مما تحتاج، بدافع الفضول، أو الحب، أو الانشغال النهم.
ولهذا نمت. ونما لها خياشيم، بين لبدتها اللحمية، حتى لم تعد بحاجة إلى الصعود إلى السطح للتنفس، أو لزيارة الشاطئ ما لم يكن ذلك مسليا لها.
لم يكن لديها أسلوب تمويه خاص بها، لكن في تلك الأيام الأولى كان يصعب رؤيتها؛ لأن حركاتها سريعة وماكرة. كانت مغطاة بقشور شفافة ناعمة، وأسفل هذه القشور كان جلدها مزيجا من اللون الأسود، والأحمر، والأخضر العشبي عندما يسقط الضوء عليه، ويعكسه درعها ذو القشور. كانت تستمتع بالاستلقاء والانتظار في بسط أعشاب الفوقس الحويصلي وثناياها، وتتمايل مع حركتها البطيئة أثناء تحركها مع المد، حيث تسحب بداخلها، ثم تمتص خارجها، وكانت لفائفها مجمعة على نحو عشوائي، وطبيعي مثل الطحالب المبللة تماما، بينما كانت قمة رأسها التي تكسوها مستشعرات تشبه أجمة صغيرة من النباتات التي أطلت من خلالها عيون يقظة.
لقد لعبت لعبة خاصة بها في الخلجان المنعزلة. وسبحت إلى الجزء الأكبر من المياه الرقيقة، واستلقت على الموجة وتركت نفسها تتحرك معها، بعضلات مسترخية، وتطفو مثل حطام سفينة أو طرح البحر. عندما ارتفعت الموجة إلى قمتها، ارتفعت معها الأفعى، وعيونها السائلة تتلألأ مثل عملات معدنية بفعل ضوء الشمس على السطح، ثم تقوست كي تهبط مع الماء الأبيض المليء بالهواء والضوء حتى أصدرت كل من الأفعى والموجة هسيسا على الرمال وتدحرجتا معا في كسل. وبعد واحدة من هذه الغطسات المشابهة نظرت إلى الأعلى ورأت شخصا فارع الطول، يرتدي عباءة، ويعتمر قبعة مشدودة فوق عينيه. اعتقدت لوهلة أنه «أودين» الأعور، قد أتى لتعذيبها، فأرجعت رأسها إلى الخلف لتهاجمه. وعندئذ استدار وحدق فيها من أسفل حافة قبعته، فرأت أنه «لوكي» المخادع، سريع البديهة، إنه والدها الذي يصعب تذكر شكله، حتى بالنسبة إليها؛ وهذا لأن شكله كان يتغير ببراعة، ليس فقط من يوم ليوم، ولكن من لحظة إلى أخرى. ومن ثم رفع قبعته، فظهرت خصلات شعره اللامعة. وابتسم ابتسامة عريضة. «سعيد بلقائك، يا ابنتي. أرى أنك تكبرين، وتزدهرين.»
لفت نفسها حول كاحليه العاريين. وسألته عن سبب قدومه. فقال إنه قد أتى ليرى كيف حالها. ولكي يدرس الأمواج الهائجة. وما إن كان هناك شكل ما يتوارى في انعدام شكلها. تلاحقت الأمواج، واحدة تلو الأخرى، في تتابع منتظم. ولكن مياه الأمواج هذه كانت هائجة؛ فقد تدفقت دواماتها في كل اتجاه. ولكن هل كان هناك نظام ما في زبد الأمواج؟ قالت الأفعى إنها تدغدغ جلدها كالإبر، وإن هذا الشعور ممتع. جلس النصف إله القرفصاء بجانبها وصنع صفا من الحصى المبلل والمحارات الشفافة التي تعكس ألوان قوس المطر. وقال إن لديه مشروعا لرسم خريطة للخط الساحلي. ولكن ليس على شكل أنصاف دوائر منتظمة مثلما قد ترسم الآلهة والبشر هذا الخليج كي يصنعوا مرفأ لسفن التنين. بل خريطة صغيرة، تظهر كل حجر، وكل غدير، وكل نتوء، حتى وإن كان صغيرا مثل هذه الأصابع، وناعما ودقيقا مثل هذه الأظافر. خريطة لبراغيث الرمال وأنقليس الرمال؛ وهذا لأن كل شيء مرتبط ببعضه؛ ومن ثم يمكن تدمير العالم بفرط الاهتمام، أو انعدامه، تجاه أنقليس الرمال، مثلا. «ولذلك»، هكذا قال «لوكي» الساخر لابنته الأفعى، «لا بد أن نعرف كل شيء، أو قدر ما نستطيع على الأقل. تمتلك الآلهة رموزا رونية سرية تساعدهم في الصيد، أو في تحقيق النصر في المعارك. إنهم يطرقون، ويشقون خصومهم. ولكنهم لا يدرسون. أما أنا فأدرس. وأعلم.» ركل حاجزه القصير جانبا في طبقة الماء الرقيقة. وتحسس بأطراف أصابعه كما لو كان يتنصت بأذنه، وكشط الرمال وسحب دودة رمل خشنة، سوداء ومرتجفة، ثم قدمها لابنته، التي ابتلعتها. (7-2) الأعماق
بعد هذا اللقاء التقت به كثيرا، ليس فقط حيثما تلتقي اليابسة بالماء، ولكن أيضا في الأعماق. في رحلاتها الجائعة، كانت تحتك بخطافات البشر، التي امتدت كالثعابين في خطوط طويلة، وبأقفاص وأكياس مصنوعة من الشباك تحدق منها كائنات حية غاضبة، مستسلمة ومذهولة. كانت تستمتع بإخراج سمكة قد سمينة من خطاف منحن، أو بتمزيق سلة مليئة بالكائنات المضطربة. كانت تبتلع بعض أسماك القد، وتشاهد البعض الآخر وهو يهز نفسه ويسبح بعيدا. كانت تترك المئات من أسماك الرنجة تخرج مندفعة من إحدى شباك الصيد، ثم تلتقط الدفعة الثانية بأسنانها، وتقضمها وتبتلعها، تاركة الدماء والعظام تلوث مياه البحر. وعندما كانت تقابل خطافا معقدا ومتشعبا بحيث يستحيل العبث به فهي تصعد إلى سطح الماء لتحيي الصياد مخلفة رذاذا من الماء على ثيابه. وعندما تجد شباكه مربوطة بعقد محكمة ليس لها مثيل؛ فهي تسبح في دوائر ضخمة حول قاربه، في انتظار ندائه، ثم ترتفع مندفعة مبتلة، وتضحك كما تضحك الثعابين.
ومن ثم لعبا لعبة التنكر والاكتشاف. «امسكي بي.» هكذا قال لها، واختفى ، تاركا ظل عباءته المتلاشي مقابل السماء الزرقاء. كان يصعب العثور عليه عندما يتنكر في شكل سمكة ماكريل، كسمكة ماكريل واحدة غير مهمة، تسبح بعيدا عن السرب. كان جلد الماكريل هو إحدى حيل الاختفاء والتواري عن الأنظار. فعلى طول جلدها الأملس توجد خطوط من تموجات الماء، تحاكي الشمس والظل، وضوء الغيوم والقمر وهي تهبط مخترقة المياه الكثيفة، وتحاكي الأعشاب البحرية الزاحفة والموجات المتدفقة وهي تومض بينما تتقلب الحراشف التي تشبه المرآة. كان موجودا؛ فقد كان هو هذه السمكة المرئية واللامرئية، وعندما تندفع ابنته الأفعى في الماء يغير شكله لبقعة غير ثابتة من ضوء النهار، أو ضوء الليل، التي لا تلطخ سوى صفحة المياه فقط. كان يقود الأفعى إلى أسراب الماكريل، اللامعة المسرعة، ويغير شكله إلى سمكة أبي رمح أو سمكة أبي سيف، كي ينضم إلى الأفعى في المطاردة. كان سرب الأسماك المندفع يبدو مثل مخلوق واحد هائل، ضخم البطن، يغلي ويلتوي ويتحول من اللون الأخضر إلى الوردي ثم النيلي والفولاذي. كانت الأفعى ولوكي المتحول يسوقان الأسماك البرية فقط من أجل المتعة المطلقة لمشاهدة الأشكال المتغيرة للسرب المضطرب. ثم غاصا مرارا وتكرارا مقسمين السرب إلى مجموعات صغيرة تدور، ويلتقطان الأسماك الضالة ويبتلعانها، ويدفعان السرب المنطلق ويبتلعانه بالكامل. كانت الأفعى جائعة دائما؛ لأنها تنمو باستمرار. لقد كانت مثل عضلة ذراع رجل، ثم صارت كفخذ متينة، ومع ذلك هي لا تزال تنمو وتنتفخ، حتى صارت مثل حبل ضخم طويل من العضلات الخالصة تضرب السطح عندما ترتفع وتهبط، وتسحق الأعشاب وهي تشق طريقها سابحة، وتطحن الأشياء التي نمت في قاع البحر.
أصبح فكها الفاغر أكبر وأوسع، ونمت أسنانها الرهيبة لتصبح أقوى وأكثر حدة، وصارت أكثر سماكة بسبب ابتلاعها للهياكل العظمية ولأصداف عدد لا يحصى من المخلوقات التي تعيش تحت سطح الماء.
ناپیژندل شوی مخ
وقد تجولت حول العالم، من القطب الجليدي إلى القطب الجليدي المقابل، أو عبر المحيطات الساخنة تحت أشعة الشمس الحارقة. سبحت تحت الأجراف الجليدية، وفي الأنفاق البحرية والشقوق، مطبقة أنيابها على أجنحة طائر قطرس وهو يغوص في الماء، باصقة الفراء المتشابك لصغير فقمة سمين. سبحت في مستنقعات المنجروف، بين متاهة الجذور النامية في الوحل، والتقطت السرطانات الكمانية وأسماك نطاط الطين، باصقة الصدف في فوضى كثيفة من الوحل، وبقايا الأوراق، والأعشاب البحرية. استلقت في الوحل محدقة إلى الأعلى، وشاهدت أشكال البشر، وهم يسكبون السم على السطح بحيث تختنق الأسماك، وتتصلب، وتطفو إلى أعلى. فقامت بحركات كسولة وابتلعت كلا من الأسماك السمينة والسم.
لم تتوقف عن السباحة، وفي طريقها قابلت أسرابا من قناديل البحر الطافية التي امتدت لأميال، بمظلاتها الشفافة النابضة، مفرزة خيوطا سامة رفيعة، ولكنها كانت تبتلعها جميعا، بلا تمييز. ولم يؤذها السم. لكنه تجمع في أكياس خلف أنيابها؛ وسرى كالزئبق في دمها. كانت تبصق سمها في عيون خنازير البحر وفقمات الراهب، مما يصيبها بالعمى، فتبتلعها، وتبصق الأشياء غير المهضومة التي تغرق ببطء وتتأرجح في تيارات المياه. ذات مرة، غاصت وطاردت سمكة رقيطة، وهي عبارة عن وحش عريض مسطح وداكن، ولها ذيل كالسوط وعينان شبه مخفيتين. ولكن شيئا ما في حركة هذه السمكة جعلها تتوقف، بينما رأسها مهيأ للهجوم، وفشلت السمكة، لفترة وجيزة، في الاحتفاظ بشكلها الأنيق. ذلك حيث تلاشت إلى ظلال داكنة كالحبر، الذي يشبه الحجب، ثم أعادت تشكيل نفسها على هيئة سمكة قرش صغيرة، مبتسمة، لونها رمادي مائل إلى البترولي، فعرفت أنه والدها.
في إحدى المرات، ومن قبيل المصادفة، وهي تشق طريقها عبر غابة عشب البحر، صادفت «راندراسيل» وحدائقها النامية تحت الماء. من المحتمل أن شجرة البحر لم تكن دائما في المكان نفسه؛ فقد اجتازت الأفعى الضخمة طبقات الحشائش مرات عديدة، ولم تر الأوراق الذهبية، أو الساق الكهرمانية، أو الجذور الثابتة الهائلة الحجم. كانت الأفعى في هذه المرة الأولى، بحجم الأناكوندا في المستنقعات، أطول وأبدن أناكوندا يمكن أن توجد على الإطلاق. وعلى مسافة غير بعيدة من «راندراسيل» ضربت العواصف سطح الماء. بالقرب من «راندراسيل» نفثت الفوهات الموجودة تحت الماء أحجارا بركانية قرمزية وحمراء ودخانا أسود كثيفا. ولكن كل شيء هنا كان كما هو، كل شيء موجود بوفرة. الإسفنج، وشقائق النعمان، والديدان، وجراد البحر، والحلزونات بمختلف ألوانها؛ الياقوتي، والطباشيري، والأسود الفاحم، والأصفر الزبدي، والرخويات البحرية المخططة والمرقطة المبهرة الجمال، وهي تمتص الهلام من الأوراق السرخسية. كانت كائنات أذن البحر تستقر حول جذور «راندراسيل» الثابتة القوية، بالإضافة إلى حشود من القواقع الوردية، والحمراء، والخضراء، والبيضاء الناصعة بشدة. كانت قنافذ البحر، المليئة بالأشواك الحية الدقيقة، ترعى في الطحالب الكثيفة وأطلت مئات العيون المحدقة من بين الأوراق السرخسية الكبيرة التي تأويها وهي تتمايل في التيارات المائية البطيئة. تحركت صغار أسماك الأنقليس مثل الإبر عبر طحالب السرجس الوثيرة. التقطت «يورمنجاندر»، وهي مستلقية بكسل، وتحدق ببهجة، الأسماك التي تسكن طحالب السرجس، والتي لها ذيول لحمية كالرايات الملونة التي لا يمكن تمييزها عن الأعشاب البحرية، ولكنها كانت تتمكن من تمييزها، عبر عيونها اليقظة، التي تشبه رأس الدبوس بين الأعشاب. كانت هناك تنانين البحر، التي تختبئ في الأجمات المتمايلة؛ وهناك أسماك عشب بحر عملاقة، لها أجسام نصلية تشبه الأوراق السرخسية السميكة نفسها. أما بالأعلى على سطح الماء، فقد صنعت الكائنات أعشاشا من عشب البحر نفسه. طفت الطيور البحرية على وسائد طحلبية، بينما اضطجعت ثعالب الماء ذات الفراء الناعم في أراجيح عشبية كثيفة، وهي تدير أذن البحر في أيديها الماهرة، وتمتص الفتات.
وقفت «يورمنجاندر»، للمرة الأولى، ترصد المشهد بشيء من الحزن. فقد كانت شديدة البدانة والوزن بالفعل، بحيث إنها لم تستطع دخول هذه الأجمة السحرية. كانت كالمتفرجة التي تشاهد من خلال نافذة شارع وتحدق من الظلام والرطوبة في كنز دفين ونفيس مبهر اللمعان. ومن ثم تراجعت. وحنت رأسها الوحشي واستدارت بعيدا. وعندما ترى الشجرة فيما بعد ستكون قد تغيرت تماما.
لقد كبرت وازداد حجمها. ولم تعد بحجم أي ثعبان موجود. أصبحت بطول مصب نهر أو طريق عبر المستنقعات. وهي بحاجة إلى المزيد من الطعام. فكانت تمتص قريدس الكريل، وعلى غرار الحيتان الكبيرة، تبتلع أسرابا من أسماك الرنجة الهاربة. وغاصت نحو المياه المظلمة. وفي قاع المحيط تعيش حبارات وحشية بلون الجيفة وحيتان العنبر التي تمزقها بفكوكها الضخمة الثقيلة. ولم تكن هي مستعدة لمواجهة الحيتان، وعلى الرغم من ذلك كانت تأكل اللحم المتبقي من جثة أحدها، وتبتلع مع دهنه ذي المذاق المميز مستعمرات كاملة من الأسماك المخاطية، التي تشق برءوسها في الوحش الميت. كانت على استعداد لمواجهة الحبار الطويل المتدفق، وتمزيق مجساته، ودفع أنيابها في أعينه الشاحبة، مرتشفة ومبتلعة وسط سحابة من الحبر في الماء الداكن الخالي من الضوء.
كانت تأكل في تلك الأثناء بدافع الجشع. وأصبحت تضاهي نهرا ضخما من حيث الطول والعرض. دارت حول جبل جليدي ووجدت نفسها تلاحق وحشا غامضا مرتجفا اتضح أنه هي، لقد كانت تتبع نفسها. وأصبح رأسها الذي كان أملس يزداد خشونة وتكتلا. طاردت مجموعة من حيتان الأوركا، التي كانت تطارد سربا من الدلافين، وكانت جميعها تصنع موجات مقوسة في الماء البارد. كان أحد حيتان الأوركا، الذي ابتعد قليلا عن مجموعته، لامعا ومصقولا على نحو غير عادي، بلونيه الأسود والأبيض، فبدا كالرخام الرطب. كما بدا فمه الضخم وكأنه يضحك، وكان يضحك فعلا، وكانت عينه ساخرة وهو ما كان مستبعدا. حيا الشيطان وابنته أحدهما الآخر، حيث حيته هي بهز تاجها الثعباني، بينما حياها هو بصفير وطقطقة وبلطم ذيله بقوة.
اصطاد الحوت والأفعى معا. التقطا الأسماك الكبيرة كأسماك القد السمينة، والبطيئة، والكسولة، التي يضاهي بعضها في حجمه حجم الإنسان. كانا مسرفين في تناول الطعام؛ حيث يقتلعان الأكباد والبيض، ويتركان الزعانف والعظام. ربما كانت أكثر الأنواع متعة في مطاردتها هي أسماك التونة الزرقاء، بدمائها الدافئة، وجلدها الأملس، وسرعتها الفائقة، وأعينها الساطعة، وهيئتها التي تشبه درعا باللونين الأرجواني واللؤلئي. وقد قابلا فخاخا بشرية نصبت لصيد هذه الوحوش، ومساحات شاسعة من الشباك، ذات المداخل المعقدة، والممرات والحجرات الداخلية التي تقود إلى اتجاه واحد، ألا وهو المسلخ. مزق كلاهما هذه الحجرات بأنيابهما وأسنانهما وعضلاتهما، مستمتعين باندفاع الأسماك المحررة، وهما يبتسمان لبعضها، ويبتلعان بعضها الآخر. قادا الأسراب والتقطا الأسماك على جانبي جسميهما. واصطادا الفقمة كما تصطادها حيتان الأوركا، كان الوحش الباسم ذو اللونين الأبيض والأسود يقفز ليفحص ما حوله، وهو منتصب في الماء، ثم يرفع ذيله، ويضربه على الماء، فتجرف المياه المضطربة الفقمات التي تتغذى على سرطان البحر، وفقمات النمر، التي تتشمس على الصخور المسطحة، نحو فم أفعى البحر المفتوح.
لعبا معا ولكن لعبهما كان ينتهي بالدماء والخنق.
استمرت طوال هذا الوقت في النمو. وأصبحت بطول جيش زاحف على الأرض. وبعرض الكهوف الممتدة تحت الماء، عميقا في الظلمات. قضت المزيد والمزيد من الوقت في أحلك الأعماق، التي لا يصلها ضوء الشمس؛ حيث كان الطعام شحيحا ومضاء بغرابة بألوان حمراء متوهجة وزرقاء كوبالتية. قابلت سلاسل جبال في الماء، ومداخن نافثة وأعمدة غاز ساخن. كانت تمتص الجمبري الأبيض الشفاف الموجود هناك، وتلتقط الديدان المهدبة من شقوقها. لم يرها أي مخلوق وهي قادمة، وهذا لأنها كانت شديدة الضخامة للغاية بحيث لم تستطع حواسهم تقدير حجمها أو توقعها. كانت بحجم سلسلة من ألسنة اللهب، وكان وجهها كبيرا مثل غابة من عشب البحر، ومغطى بأشياء تتشبث بزوائدها؛ جلود وعظام وأصداف، وخطافات ضائعة، وخيوط صيد منهوشة. كانت بالغة الثقل. زحفت عبر طبقات المرجان الوردي والأخضر والذهبي، ساحقة المخلوقات، وتاركة وراءها سطحا مسحوقا، طباشيريا، وشبحيا. (8) «ثور» يصطاد السمك
صعدت من الأعماق ذات يوم ورأت رأسا بشعا مثل رأسها؛ رأسا ذا قرون بعيون زجاجية شفافة ورقبة دامية، رأسا بحاجب كثيف وفتحتي أنف واسعتين. رفعت نفسها، متأرجحة مثل حوت الأوركا وهو ينتصب في الماء ليرى ما حوله، وابتلعته. وكان داخل حلق الثور خطاف ثقيل، يستخدم لتعليق القدور. لقد ابتلعته قبل أن يتاح لها الوقت لرؤيته. فجذبها بعنف، وسحبها، فصعد الرأس الميت إلى أعلى، وتبعه رأس الأفعى، مندفعا عبر سطح البحر، محدثا نافورة من الرذاذ النتن.
ناپیژندل شوی مخ
كان هناك قارب صيد، كالعديد من القوارب التي دمرتها دون قصد، أثناء لعبها. وعلى متن القارب عملاق صقيع ضخم، لونه رمادي وفضي وأزرق، وذو شعر جليدي هائل ومتهدل، ولحية ضخمة نامية رمادية اللون. كان مربوطا بخيط السنارة والخطاف ورأس الثور، وجه بمثل شراسة وجهها، يشتعل غضبا وقوة، به عينان حمراوان تومضان أسفل حاجبين كثيفين، ومتوج بشعر ناري ومحاط بلحية حمراء متوهجة. إنه «ثور» إله الرعد يسحبها بخيط وعصا. ظلت تصعد، أكثر فأكثر، وكانت شاهقة مثل صاري القارب. ثبتت فمها المتألم على الطعم وجذبته. فتقوست العصا واهتزت. وأمسك الإله بقوة، وانحرف القارب في الماء. هزت الأفعى لبدتها اللحمية وأطلقت هسيسا مسموما. حدق الإله بغضب شديد، وظل يشد ويسحب. وقال العملاق: «لقد انتهى أمرنا.» أظلمت السماء، وتراكمت الغيوم في ركام أسود، والتوت الأفعى وأصدرت هسيسا، صمد الإله ممسكا بقوة، بينما شق البرق غطاء السحب. لم يؤذ أي شيء الأفعى مثلما آذاها هذا. كانت تضرب سطح البحر وتنخر. ثنى الخيط العصا، ولكن الرموز الرونية القوية أبقت عليه ثابتا.
تحرك العملاق، الذي كان يدعى «هيمير»، عبر القارب المليء بالمياه المتلاطمة، وأخرج سكين صيد ضخمة وضرب الخيط بقوة وقطعه. خارت الأفعى وغرقت. أخذ الإله مطرقته القصيرة اليد، وهو يستشيط غضبا، وألقى بها على رأسها. فضربتها ضربة قاسية وقوية. تدفق دمها الكثيف الداكن في مياه البحر. ثم سقطت المطرقة في المياه المظلمة، وطاردتها الأفعى. قال «هيمير» بقسوة وصرامة إن «ثور» سيندم على تلك الضربة، فأرجح الإله قبضته وسددها في رأسه الصخري ليوقع العملاق من القارب. ثم سبح الإله واجتاز المياه إلى الشاطئ بصعوبة. حكت الأفعى نفسها في الصخور، محاولة تمزيق الخطاف وخيط الصيد. وبصقت الرأس الميت، وضربت فمها الضخم المقوس على الصخور الحادة كشفرات الحلاقة، فخرج الخطاف من فمها، ساحبا معه قطعا سوداء ممزقة من حلقها.
صارت الأفعى أشد غضبا بعد هذا اللقاء الدامي. فراحت تقتل بوحشية أكبر، وتحطم ألواح القوارب، وتقتلع غابات البحر لإشباع غضبها المحموم. وفي وقت لاحق، مرت ب «راندراسيل» في غابة عشب البحر - وليس حيثما كانت من قبل - بضوئها الذهبي والكهرماني، وجذورها القوية الراسخة في الأعماق، وجذعها الضخم الذي تدعمه وسائد هوائية موجودة في الأكياس الهوائية التي تقع أسفل الشرائط الطحلبية. كانت قد رأتها من قبل، فشعرت بالبهجة. أما الآن فهي تقترب منها بنية الذبح والتدمير؛ فلم ينج منها لا أسماك النصل ولا حصان البحر، لا ثعالب الماء اللينة ولا طيور النورس في أعشاشها، لا نجم البحر المكلل بالشوك ولا قنافذ البحر ذات الشوك، ولا قناديل البحر الصغيرة ولا ثعابين البحر الرقيقة، ولا الرخويات ولا الحلزونات التي تلتصق بالأعشاب البحرية. لقد مزقت بفكها الضخم أوراق الأعشاب البحرية السرخسية ذاتها، وهي تهز لبدتها يمنة ويسرة، وتدمر مستعمرات بحرية بأكملها، حتى وصلت إلى جذع «راندراسيل» نفسه وأصابته. علقت أذرع هزيلة ممزقة في الماء وظلت تدور وتنقلب. وسادت العكارة في كل أرجاء المكان الذي امتلأ بدوامات كثيفة من الغبار.
ظلت ترتحل، وهي تكوم جسدها الضخم فوق الشعاب المرجانية ومستعمرات بلح البحر، وتسحق وتطحن كل ما يقابلها. وفي يوم من الأيام، رأت في المياه المظلمة شكلا مكوما، يرتعش وينتفض، فاعتبرت أنه حوت ضخم، ربما يكون جريحا، يستلقي في قاع البحر. فمالت «يورمنجاندر»، التي لا تزال في مزاج سيئ، إلى الأمام وانقضت لتهاجمه. كان الألم شديدا، وسرى في جميع أنحاء الأرض، ثم عاد إلى دماغها اللين الذي يسكن جمجمتها الهائلة. لقد هاجمت ذيلها. فقد كانت «يورمنجاندر» الضخمة تلتف حول الأرض كالحزام. وفكرت في أن تلتف حول نفسها وتستريح في قاع البحر إلى الأبد. كان المكان الذي استلقت فيه عبارة عن عمق كثيف فارغ ومقفر، أسود اللون كحجر البازلت. رفعت رأسها وبدأت تجر جسدها الهائل، ثم سبحت وهي تثني جسدها في ثنايا طويلة. ولكنها لو أنها سترتاح، لاختارت أن ترتاح في مياه تعج بالحياة، وتستلقي على طبقات اللؤلؤ والشعاب المرجانية، التي تسبح فيها أسراب من الأسماك كي تلتهمها، وحيث تتراقص ظلال السفن على صفحة الماء، وحيث يوجد عشب البحر الحي كي تريح رأسها عليه، وحيث يوجد المزيد والمزيد من الطعام الذي يشبع شهيتها الهائلة. (9) «بالدر»
فكرت الطفلة النحيلة كثيرا في الإله «بالدر» الجميل. كان إلها قدر له الموت، وهذا هو ما قيل عنه في الكتاب على أي حال. وبالمثل، كانت اللوحة التي تصور هيئة المسيح وهو يتحدث إلى الحيوانات، بهيئته البيضاء الطيبة المشرقة كالذهب، تصور إلها قدر له الموت. ولكن هذا الإله سيبعث من جديد ليحاسب الأحياء والأموات. أو هكذا قيل لها. كان كتاب «أسجارد والآلهة» يحتوي على فقرات تفسيرية وشروحات ناقش فيها مؤلفه الألماني الأكاديمي الأساطير ذات الصلة بالشمس والنباتات. ذلك حيث توارت الشمس في الظلام عند الانقلاب الشتوي. بينما كمشت النباتات حتى لم يتبق منها سوى جذورها القاسية كالحديد تحت سطح الأرض، وأصبحت المياه كالحجر، مثلما يغنون في الترانيم. احتفت القصص بعودة الربيع، وبإشراق الشمس في السماء، وبنمو الأوراق، والعشب الجديد الأخضر الزاهي.
ذهب «بالدر»، ولكنه لم يعد مرة أخرى. كانت الطفلة النحيلة تصنف في عقلها حديث العهد الأشياء التي ذهبت وعادت، والأخرى التي ذهبت ولم تعد. كان والدها بشعره المشرق كاللهب يحلق بطائرته تحت أشعة الشمس الحارقة في أفريقيا، وكانت تعرف في أعماقها أنه لن يعود. لقد عرفت ذلك جزئيا بسبب ما لم يكن يقال بشكل محسوس عندما يرفع أفراد الأسرة في عيد الميلاد، على سبيل المثال، أكوابا صغيرة من عصير التفاح، ويشربون نخب والدها، ويتمنون عودته في عيد الميلاد القادم. كانت هناك قصص قد انتهت، بدلا من أن تظل تدور في دوائر لا تنتهي، وقصة الإله الجميل واحدة منها، وقد وجدتها الطفلة النحيلة مرضية بالرغم من كآبتها. كانت قراءاتها وإعادة قراءاتها لهذه القصص في كل أوقات السنة قد أضفت عليها نوعا من التكرار الأبدي. وعلى الرغم من هذا التكرار؛ فقد كانت تنتهي في كل مرة، ولكنها تبدؤها مجددا.
لقد فهمت منذ البداية أن هذه الآلهة هي آلهة مخيفة وخائفة في الوقت نفسه. كانت «أسجارد» محاطة بجدران دفاعية وحراس يتولون المراقبة. ذلك حيث يسود «أسجارد» شعور بتوقع الموت والهلاك. وها هي الجميلة «إيدون» التي تعيش في ظلة خضراء وسط غصون «إجدراسيل» القوية، وتمنح الآلهة تفاح الشباب والقوة. وفي يوم من الأيام، مثلما ذكرت القصة، اختفت «إيدون»، وبدون سبب، من الشجرة. ذبلت وضعفت أغصان «إجدراسيل» عند الموضع الذي كانت «إيدون» تستقر فيه وتبتسم. ولم تعد الطيور تغني. أما بئر «أودريريير» التي تحتوي على ماء الحياة الباردة والداكنة، والتي كانت تحرسها «الاسكندنافيات»؛ فقد أصبح ماؤها غورا آسنا.
أرسل «أودين» غرابه «هوجين» (أي الفكر)، ليعرف مكان «إيدون». حلق الطائر الضخم، وهبط في الظلام، داخل أرض الجان الداكن البشرة، حيث تحدث إلى ملكي الأقزام؛ «دايين»، ويعني اسمه الميت، و«ثارين»، ويعني اسمه الجثة. كانا يغطان في النوم ولم يكن إيقاظهما ممكنا، ولكنهما كانا يتمتمان بكلام عن الدمار، والظلام، والتهديدات، والنهايات. فعاد الغراب وهو يحمل كلمات ملغزة. كانت السماء تهوي في «جينونجاجاب». كان كل شيء ينهار. ذلك حيث تتأرجح دوامات من الهواء وتتقلب. بينما تقبع «إيدون» أسفل جذور شجرة المران الرمادية المتدلية في عرين عملاق قديم، يدعى «نارفي»، وهو والد «الليل» الأسود. ذهبت الآلهة ووجدتها هناك صامتة ترتجف. فلفوها بجلد ذئب أبيض، غطى جبينها؛ حتى لا ترى الأغصان الحية التي سقطت منها، فهدأت وشعرت بالارتياح. استجوبت الآلهة «أورد»، «الاسكندنافية»، التي تقف عند حافة مرجل الحكمة. ما الذي تغير؟ هل نصب الوقت والموت لهن شركا؟ هل تغيرن هن أنفسهن؟ كانت إيدون ترتجف داخل الجلد الأبيض الذي تتدثر به، بينما بدت «أورد» العتيقة في ثوبها الأسود الرقيق، كالأقزام الناعسة، المثقلة بالنوم. لم يستطعن الإجابة، بل بكين أنهارا من الدموع، التي فاضت من عيونهن وأغرقت أيديهن. كانت قطرات الدموع الضخمة التي تتساقط واحدة تلو الأخرى، وتنتفخ ثم تنفجر؛ تشبه المرايا التي لم تر فيها الآلهة المستجوبة سوى انعكاس وجوهها القلقة. أصبح كل شيء فجأة بطيئا خاملا، ثم تسارع، واندفع نحو نهاية ما.
غالب النوم «بالدر» المشرق أيضا. كان خاملا، ككائنات البيات الشتوي، التي لا تستطيع الاستيقاظ، وتنكمش ناعسة في عالم الأحلام. حلم بالذئب ذي الفم الدامي، وهو يتحرر من الحبل السحري الذي يقيده، ويهشم السيف في حلقه بين فكيه الهائلين. وحلم بأفعى «ميدجارد» التي تلتف حول العالم من كل جانب، وهي تفرد ثناياها الملتفة وترتفع فوق الأمواج، باصقة السم. وحلم ب «هيل» وردهاتها المظلمة، ووجها نصف الحي ونصف الميت، وتاجها الباهت، والكوب الذي أعدته له عندما يحين الوقت الذي سيأتي فيه ويجلس بجانبها . كانت الطفلة النحيلة تعرف أن معظم الأحلام ضعيفة وهشة، ويمكن للنائم أن يمزقها إن عزم على ذلك، كما أنها يمكن أن تتحول إلى عرض يشبه صندوق الدنيا أو لغز يصبح فيه الحالم مجرد متفرج، غير مهدد. ولكن هناك أحلاما خانقة ومرعبة بحق، وتكون أكثر واقعية من العالم الذي يستيقظ الحالم فيه؛ وهي ثقيلة خانقة ومليئة بالأذى وبتهديد هلاك قادم، والحالم فيها ضحية أذى لا مفر منه.
كانت تحلم بأحلام من هذا النوع في زمن الحرب. كانت في بعض الأحيان أحلاما حمقاء. وقد حلمت مرارا وتكرارا أن «الألمان» يختبئون تحت سريرها المعدني، وينشرون أرجله بانتظام، حتى يتمكنوا من الإمساك بها وحملها بعيدا. كانت تعلم أنهم موجودون هناك، حتى بعدما تستيقظ وتدرك أنه حلم سخيف. كانت محطات الحافلات والمقاهي بها ملصقات تظهر خوذات رمادية تجلس القرفصاء تحت المقاعد وطاولات الشاي، تسترق السمع، وتستعد للهجوم. إذا جاءوا، سينتهي العالم، ولكنها لم تتخيل قدومهم في يقظتها.
ناپیژندل شوی مخ