بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله الملك العلي الكبير ، الحكم العدل اللطيف الخبير ، العالم الذي لا يعزب عن علمه كبير ولا صغير ، المطلع على ما يفوه به اللسان ، وما يكنه الضمير ، له الخلق والأمر ، وبيده النفع والضر ، وله الحكم في خلقه والتدبير ، أحمده على ما هدانا إليه من اتباع الشرع المنير ، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي حمانا ووقانا من ابتداع كل شيطان مبير ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده الداعي إلى كل ما فيه الرشد والجزألة الناهي عن كل بدعة وضلالة ، المبجل بالتعظيم والتوقير ، صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وأصحابه التابعين لسنته ، المتمسكين بمحاسن شرعته ، المتحامين عن زيغ الشيطان وبدعته ، المتحلين بكل أمر خطير ، وبعد...
فهذه رسالة مسماة بالرهص (¬1) والوقص (¬2) لمستحل الرقص ، وذلك أن طائفة ممن يدعي التصوف ، وهو فيه دعي بالتصلف قد اتخذوا الرقص واللعب ديدنا ، واعتقدوه تدينا ، وخلطوا العبادة باللعب ، وافتروا على الله الكذب ، يأخذ بعضهم بيد بعض ، ويتحلقون حلقة، ويدورون محركين أيديهم إلى وراء وقدام ، ورؤوسهم بالتصعيد / والتسفيل ، والتلوي كالهيئة التي يفعلها بعض2 ب النصارى في لعب لهم يسمونه بركض الديك ، ساء ما يصنعون .
فصل :
مخ ۲
... ... الفعل الاختباري القصدي إن لم يتعلق به غرض صحيح بأن لم يتوقف عليه فائدة دينية ، ولا دنيوية ، فهو دائر بين العبث واللعب واللهو ، ولم يفرق بينها في كتب اللغة ، ولا بد من الفرق لعطف اللهو على اللعب وعكسه في القرآن ، واختلف فيه ، قال الحدادي (¬1) : العبث كل لعب لا لذة فيه ، فأما الذي فيه لذة فهو لعب ، وفي الكفاية نقلا عن الكردري (¬2) ، العبث : الفعل الذي فيه غرض لكن ليس بشرعي ، وما قاله الحدادي أنسب ، فإن العبث إنما يقال لما لا فائدة فيه أصلا ، قال الإمام أبو زيد الدبوسي (¬3) في التقويم في تقسيم قبح المنهي عنه : أما الأول فكالسفه والعبث ، فواضع اللغة وضع الاسمين لفعلين قبيحين لذاتهما عقلا ، وقال شمس الأئمة السرخسي (¬4) في أصوله بيان القسم الأول ، يعني ما هو قبيح لعينه في العبث والسفه ، فإنهما قبيحان شرعا ؛ لأن واضع اللغة وضع هذين الاسمين لما يكون خاليا عن الفائدة ، ومبنى الشرع على ما هو حكمه ناتج عن فائدة ، فما يخلو من ذلك قطعا يكون قبيحا شرعا ، انتهى .
مخ ۴
... واللعب قد يقصد منه فائدة نفسانية ، لا نفع لها ، واللهو مثله ، إلا أن فيه زيادة حظ للنفس ، بحيث تشتغل به عما يهتمها ، والكل حرام ، إلا ما استثنى الشارع لخاصية فيه ، تميزه عن نوعه ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى ، وذلك أن هذه الأشياء الثلاثة لم تذكر في القرآن إلا على سبيل الذم ، سوى موضع واحد، هو من المستثنى من اللعب في قوله صلى الله عليه وسلم : ( كل شيء من لهو الدنيا باطل إلا ثلاثة : انتضاء لك بقوسك ، وتأديبك فرسك ، وملاعبتك أهلك فإنهن من الحق ) رواه الحاكم من حديث أبي هريرة ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، وفي رواية جابر ، أخرجه النسائي : (كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو ولعب إلا أربعة : ملاعبة / الرجل امرأته ، وتأديب 3 أالرجل فرسه ، ومشي الرجل بين الفرضين ، وتعلم الرجل السباحة ) وكذلك رواه إسحاق ابن راهويه ، والموضع المستثنى في القرآن قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف : [أرسله معنا غدا يرتع ويلعب] (¬1) على قراءة النون ، فإن المراد باللعب أحد ما استثني في هذا الحديث ، فإن المفسرين أجمعوا على أن المراد به الاستباق بالرمي والصيد ، ولقد بالغوا في تقبيح العبث حتى إن الإمام فخر الإسلام البزوري وغيره قرنه مع اللعب في القبح ، حيث قال في أصوله : والنهي في صفة القبح ينقسم انقسام الأمر ، ما قبح لعينه وضعا ، مثل الكفر والكذب والعبث ، انتهى .
... وتقدم كلام الشيخ أبي زيد الدبوسي في التقديم ، وكلام شمس الأئمة ، وصرح الإمام جواهر زاده (¬1) في حواشي القدوري بحرمته ، حيث قال : المحرمات أربعة : العبث والسفه والجهل والظلم ، انتهى .
... وهذا كله ظاهر عند من له أدنى عقل .
فصل :
مخ ۵
... وحيث علم حرمة اللعب واللهو والعبث ، علم حرمة الرقص والدوران الذي تفعله هذه الطائفة بلا شك ، فإنه داخل في العبث واللعب ، وهو بالعبث أنسب ، بخلوه عن اللذة التي في اللعب ، اللهم إلا أن تكون نفوسهم تستلذه بتسويل الشيطان ، فليدخل حينئذ في حد اللعب ، وقد قررنا حرمته ما لم يكن مما استثناه الشرع ، والتصريح بحرمة الرقص مشهورة في كتب أئمتنا رحمهم الله وغيرها ، قال البزازي (¬1) والقرطبي على أن هذا الغناء ، وضرب القضيب والرقص حرام بالإجماع عند مالك والشافعي وأحمد في مواضع من كتابه ، وسيد الطائفة شيخ أحمد النسوي صرح بحرمته ، ورأيت فتوى شيخ الإسلام ، جلال الملة والدين الكيلاني أن مستحل هذا الرقص كافر ، ولما علم أن حرمته بالإجماع لزم أن يكفر مستحله ، وللشيخ الزمخشري في كشافه كلمات فيهم تقوم بها عليهم الطامة ، ولصاحب النهاية ، والإمام المحبوبي أيضا أشد من ذلك ، وقال في شرح الكنز بعدما ذكر / قوله عليه الصلاة والسلام ( كل 3ب لعب ابن آدم حرام إلا ثلاثة : ملاعبة الرجل أهله ، وتأديبه لفرسه ، ومناضلته بقوسه ) ، وهذا نص صريح في تحريم الرقص الذي يسميه المتصوفة الوقت وسماع الطيب ، وإنما هو سماع فيه أنواع الفسق ، وأنواع العذاب في الآخرة ، وقال في اليتيمة سئل الحلواني عن من يسمون (¬1) أنفسهم بالصوفية ، واختصوا بنوع لبسة ، واشتغلوا باللهو والرقص ، وادعوا لأنفسهم المنزلة ، فقال : افتروا على الله كذبا أم بهم جنة ، فليس النبي صلى الله عليه وسلم من الدد ، ولا الدد (¬2) منه ، ونهى عليه الصلاة والسلام عن لبس الشهرتين ، فقال ليس (¬3) بشيء ، ألا ساء ما يزرون ، وسئل إن كانوا زائغين عن الطريق المستقيم ، هل ينفون من البلاد لقطع فتنتهم عن العامة ، فقال : إماطة الأذى أبلغ في الصيانة ، وأمثل في الديانة ، وتمييز الخبيث من الطيب أزكى وأولى ، وذكر في التاتار خانية عن النصاب ، هل يجوز الرقص والسماع ؟ الجواب لا يجوز ، وذكر في الذخيرة أنه كبيرة ، ومن أباحه من المشايخ فذلك للذي حركاته كحركات المرتعش ، انتهى .
فصل :
مخ ۷
... وما ذكره البزازي من الإجماع عن تحريم الرقص محمول على ما إذا اقترن بشيء من اللهو كالدف والشبابة ، ونحو ذلك ، أو بالتكسر والتمايل ، وأما مجرد الرقص فمختلف في حرمته ، مذهبنا ومذهب الجمهور أنه حرام لما تقدم من الأدلة ، فأنه داخل في اللهو والعبث واللعب غير مستثنى ، وعن بعض الشافعية أباحته بشرط أن لا يكون فيه تكسر وبشرط أن لا يعتاده ، واستدلوا عليه بحديث رقص الحبشة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ينظر إليهم ، وبقصة علي وجعفر وزيد ، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد أنت أخونا ومولانا ، فحجل ، وقال لجعفر : أشبهت خلقي وخلقي ، وقال لعلي : أنت مني وأنا منك ، فحجل ، والحجل أن يرفع رجلا ، ويقفز على الأخرى ، فهو رقص بلا تكسر ، والجواب من وجوه : الأول أن المحرم مرجح / على 4 أالمبيح عند التعارض ، والثاني أن القول مرجح على الفعل عند التعارض أيضا ، الثالث أن رقص الحبشة لم يكن مجرد رقص بل كان لعبا بالدرق والحراب ، قال البخاري رحمه الله ، باب الحراب : والدرق يوم العيد ، ثم ذكر الحديث عن عائشة رضي الله عنها ، إلى أن قالت : وكان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدرق والحراب ، فإما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإما قال تشتهين تنظرين ، فقلت نعم ، فأقامني وراءه ، خدي على خده ، وهو يقول : دونكمم يا بني أرفدة ، حتى إذا مللت قال : حسبك ، قلت : نعم ، قال : فاذهبي ، انتهى .
فحينئذ هو من جنس ما استثني في الحديث ، فإنه من الاستعداد للحرب والجهاد ، وكالرمي ، والقوس ، وتأديب الفرس ، وإليه أشار الشيخ الإمام العلامة شرف الدين إسماعيل ابن المقري اليمني الشافعي في قصيدته في ذم الرقص بقوله :
قالوا رقصنا كما الأحبوش قد رقصوا ... بمسجد المصطفى قلنا بلا كذب
مخ ۸
قلنا بلا كذب فالحبش ما رقصوا لكنهم لعبوا من آلة الحرب بالآلات واليلب وذلك اللعب مندوب تعلمه في الشرع للحرب تدريبا لكل غبي
الرابع : أن كلا من الحديثين حكاية حال ، محل للاحتمال ، فلا يصلح للاستدلال ، كما تقرر في الأصول ، فسلمت دلائل الجمهور النقلية والعقلية عن المعارض ، على أن هيئة الرقص التي تفعلها الطائفة المذكورة خالية عن الشرطين اللذين شرطهما القائل بالإباحة ، فإنها مشتملة على التكسر والتخلع والتمايل ، وكانوا اتخذوا ذلك عادة ، كما لا يخفى ، فكانت مجمعا على تحريمها ، ولقد كان اللائق على تقدير أن الجمهور هم القائلون بالإباحة ، وبعض الأئمة قال بالتحريم أو الكراهة أن يتحرز من يدعي التصوف عنه أشد التحرز، ويكون أبعد الناس عنه، فكيف والإجماع على تحريمه بالصفة المذكورة ، ولكن التوفيق من الله تعالى وحده .
فصل :
مخ ۹
ومن جملة الحماقة استدلال بعض من يدعي العلم منهم على إباحة الرقص والدوران المذكور بقوله تعالى : [الذين يذكرون /الله قياما وقعودا 4 ب وعلى جنوبهم] (¬1) وهذا الاستدلال منه أبعد شيء عن العلم ، فإن مفهوم الآية تعميم الأحوال التي اعتوارها على الإنسان ضروري بالذكر ، وأين هي من حالة زائدة ذمها الشرع ، والعقل ، يجب تنزيه الذكر عنها ، كما يجب تنزيهه عن حالة التغوط ، ومخالطة النجاسات ، وسائر أنواع الفسق ، فإن الرقص المذكور من جملة الفسق ، على ما تقرر ، ومن جملتها أنه يزول عن ذلك بقوله تعالى : [وترى الملائكة حافين من حول العرش] (¬2) ، ويقيس دورانهم الشنيع على طواف الملائكة بالعرش ، وعلى الطواف بالكعبة ، فانظر إلى هذه الحماقة ، كيف يقيس المعصية على الطاعة ، ويشبه القبيح بالحسن ، ولا يدري أن هذا الفعل لو فرض أنه غير قبيح في ذاته لما جاز قياسه على الطواف؛ لأن الطواف أمر تعبدي ، ليس للرأي فيه مدخل ، قال الشيخ حافظ الدين في منع التشبيه بالواقفين بعرفة : هذه عبارة مخصوصة بمكان ، ولا تتصور عبادة في غيره ، فإن من طاف حول مسجد ينوي الكعبة يخشى عليه الكفر ، انتهى .
وكذلك يستدل أيضا بما هو كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ، وباطل بإجماع أهل العلم ، وهو الحديث الذي ذكره صاحب العوارف أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشد بين يديه :
قد لسعت حية الهوى كبدي ... ... فلا طبيب لها ولا راق
مخ ۱۰
إلا الحبيب الذي شغفت به ... ... فعنده رقيتي وترياقي فتواجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وتواجد الأصحاب حتى سقط رداءه عن منكبه إلى آخره (¬1) ، مع أن صاحب العوارف قد تبرأ من عهدته ، ونبه على ما يجب التنبيه عليه ، فقال بعدما رواه : فهذا الحديث أوردناه مسندا كما سمعناه ووجدناه ، وقد تكلم في صحته أصحاب الحديث ، وما وجدنا شيئا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاكل وجد أهل الزمان ، وسماعهم ، واجتماعهم ، وهيئتهم إلا هذا / وما أحسنه حجة للصوفية ، وأهل الزمان في سماعهم5 أوتمزيقهم الخرق ، وقسمتها أن لوصح ، والله أعلم ، ويخالج سري أنه غير صحيح ، ولم أجد فيه ذوق اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ، وما كانوا يعتمدونه على ما بلغنا في هذا الحديث ، ويأبى القلب قبوله ، والله أعلم وأحكم ، انتهى .
... فانظر إلى هذا الذي يدعي العلم والتصوف والتدين ، كيف يستدل بهذا الحديث على رؤوس المسلمين ، ويذكر إيراد صاحب العوارف له ، ويسكت عما ذكره صاحب العوارف من الطعن فيه ، وعدم قبوله له ، وهذا عين الخيانة ، والغش للأمة بالتلبيس عليهم ، فيا للعجب [ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين ] (¬1) قال السروجي في شرح الهداية : ومن الموضوعات حديث تمزيق الرداء ، والطرب للغناء ، وقال ابن أبي حجلة في كتابه غيث العارض : وكذلك ما يرويه بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنشده منشد :
قد لسعت حية الهوى كبدي ، الى آخره .
فإنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث ، وقال الدميري من الشافعية في شرح المنهاج : ومن نسب السماع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدب أدبا شديدا ، ويعزر تعزيرا بليغا ، ويدخل في زمرة الكذابين عليه ، صلى الله عليه وسلم ، فليتبوأ مقعده من النار .
فصل :
مخ ۱۲
... ... واعلم أن صنيعهم هذا قد اشتمل على جملة من القبائح منها : عدم المروءة ، والتشبه بالنساء والصبيان ، قال سلطان العلماء الشيخ عز الدين بن عبد السلام : الرقص لا يتعاطاه إلا ناقص العقل ، ولا يصلح إلا للنساء ، ومنها التشبه بالبهائم كالقردة والدباب (¬1) ، والتشبيه بالنصارى كما تقدم ، ومنها خلط المعصية بالعبادة ، ومنها اعتقاد ذلك عبادة وقربة ، فكان من هذه الحيثية أشد من الفسق الذي يعتقده فاعله فسقا ، ولقد بلغني عن من أنكرت ذلك عليه أنه قال بعدما غبت عنه : لا ينكرون / على من يشرب الخمر ، وينكرون علينا 5ب أو كما قال ، فأقول لو تأمل هذا المسكين تأمل المصنفين لوجد هذا الفعل أشد ضررا عليه من شرب الخمر ، فإن شارب الخمر يعتقد حرمة فعله ، فربما يستغفر منه ، ويندم عليه ، ويحصل له الذلة والانكسار ، ويقابل من الخلق باللوم والاحتقار ، بخلاف هؤلاء ، فإنهم باعتقادهم أنه عبادة لا يستغفرون منه ، ولا يندمون ، بل يتباهون به ، ويتطاولون ، وينالون عند الناس المنزلة والاعتبار ، والتعظيم ، وهذا ما يذكر عن إبليس أنه قال : قصمت ظهور بني آدم بالمعاصي ، فقصموا ظهري بالاستغفار ، فأحدثت لهم ذنوبا لا يستغفرون منها ، وهي البدع ، ومنها إظهارهم الوجد من غير وجد ، وهو رياء وشرك ، حتى قال في العوارف (¬2) :
مخ ۱۳
إنه عين النفاق ، وذكر عن النصر اباذي أنه كان كثير الولع بالسماع ، فعوتب في ذلك ، فقال : نعم ، هو خير من أن تقعد وتغتاب ، فقال له أبو عمرو بن نجيد وغيره من إخوانه : هيهات يا أبا القاسم ، زلة في السماع شرمن كذا وكذا سنة تغتاب الناس ، وذلك أن زلة السماع إشارة إلى الله تعالى ، وتدبج حال بصريح المحال ، وفي ذلك ذنوب متعددة ، منها أنه يكذب على الله أنه وهب له شيئا ، وما وهب له ، والكذب على الله تعالى من أقبح الزلات ، ومنها أن يغر بعض الحاضرين ، فيحسن به الظن ، والغرور جناية ، قال عليه الصلاة والسلام : من غشنا فليس منا ، إلى آخر ما ذكر صاحب العوارف .
... أقول إذا كان هذا بالسماع المباح ، فكيف بمن هو متلبس بفعل حرام ، وهو الرقص المذكور ، ومن جملة القبائح ، وأقبحها الافتراء على الله في أن مثل هذا الرقص مباح ، أو قربة ، فإن واضع الإحكام هو الله تعالى وحده ، لا حكم لغيره فيها ، فإباحة ما حرمه ، أو العكس افتراء عليه ، وإسناد إليه ما لم يفعله [ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا] (¬1) ونحن قد أغنى الدليل من الكتاب والسنة ، والإجماع على حرمته متى كان بالصفة المذكورة ، فإنه لهو ولعب/ 6أ وعبث ، وقد ذم ذلك سبحانه في كتابه ، ورسوله في سنته ، وأولوا العلم والعقل في كلامهم ، [ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور] (¬2) .
فصل :
مخ ۱۴
... ... وكثير من هؤلاء الجهال يظنون أن الرقص من السماع ، ويستدلون عليه بورود السماع عن المشايخ المعتبرين ، كونه في الكتب المعتمدة ، وهذا جهل منهم لاللغة والاصطلاح ، فإن السماع في اللغة هو إدراك القوة السامعة للأصوات ، وكذلك هو في اصطلاح الصوفية ، ولهذا تراهم يفتحون الكلام فيه بقوله تعالى : [الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه] (¬1) وذلك بأن ينشد بعضهم من الأشعار المباحة ، ويستمع الباقون ، فيحصل لكل منهم ما يقتضيه حاله ، وإنما حركات الأعضاء مسببة عن الوجد ، الذي يثيره السماع ، ولا يسمى سماعا أصلا ، ولا يحل إلا إذا صارت الحركات كحركات المرتعش ، بحيث لا يتعداه ، يمسك نفسه عنها على ما صرح به في العوارف وغيره ، وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في مختصر القواعد : وقد يصيح بعضهم لغلبة الحال عليه ، وإلجائها إياه إلى الصياح ، ومن صاح لغير ذلك فمتصنع ، ليس من القوم في شيء ، وكذا من أظهر شيئا من الأحوال رياء وتسميعا فإنه ملحق بالفجار دون الأبرار .
فصل :
... ... البدعة ، قال في القاموس : الحدث في الدين بعد الإكمال ، أو ما استحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال زين العرب : البدعة ما أحدث على غير قياس ، أصل من أصول الدين ، وقال الهروي : البدعة الرأي الذي لم يكن له من الكتاب ، ولا من السنة سند ظاهر أو خفي مستنبط .
... أقول : مرادهما البدعة المكروهة ، أو المحرمة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : (أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة )، فأراد إخراج البدعة الحسنة ، فإنها لا بد أن تكون على أصل وسند ظاهر أو خفي أو مستنبط على ما سنذكر إن شاء الله تعالى .
مخ ۱۵
... اعلم أن المعصية إذا عملها صاحبها مع اعتقاد أنها معصية / يسمى 6ب فاسقا ، ولا يسمى مبتدعا ، فإن اعتقد مع ذلك كونها مشروعة في الدين جوازا أو ندبا أو وجوبا فهو مبتدع ، فالفسق أعم من البدعة ، فكل بدعة فسق ، ولا عكس ، فيكون هؤلاء بفعلهم هذا فساقا مبتدعين ؛ لعملهم المعصية معتقدين أنها طاعة ، ومن بدعهم الجهر بالذكر قدام الجنازة ، وقدام العروس ، وشبه ذلك في الطرقات ، أما الذكر جهرا قدام الجنازة فمنصوص عليه في مذاهب الأئمة الأربعة ، قال قاضي خان في الفتاوى : ويكره رفع الصوت بالذكر ، فإن أراد أن يذكر الله تعالى يذكره في نفسه ، وعن إبراهيم : كانوا يكرهون أن يقول الرجل وهو يمشي معها : استغفروا له ، غفر الله لكم ، ونحوه في الفتاوى الظهيرية ، وذكر في النهاية والكفاية عن الإمام التمرتاشي : ويكره لمشيعها رفع الصوت بالذكر ، والقراءة ؛ لأنه فعل الكتابي ، ويركز في نفسه ، والتشبه بالكافر فيما لنا منه بد مكروه ، وقال في المنهاج للشافعية : ويكره اللفظ في الجنازة ، قال شارح الدميري : وهو ارتفاع الأصوات ، لما روى البيهقي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهون رفع الصوت عند الجنازة ، وعند القتال ، وعند الذكر ، قال : وقال المصنف : المختار ما كان عليه السلف من السكوت في حال السير بالجنازة بغير رفع صوت بقراءة ولا بذكر ، وقال في الكتاب المسمى بالفروع للحنابلة : ويستن الذكر والقراءة سرا ، وإلا فالصمت ، ويكره رفع الصوت ولو بالقراءة اتفاقا ، قاله شيخنا ، وحرمه جماعة من الحنفية ، وغيرهم ، انتهى .
مخ ۱۶
... وقال في الكتاب المسمى بالمدخل للمالكية : وليحذر من هذه البدعة الأخرى ، التي يفعلها أكثرهم ، وهي أنهم يأتون بجماعة يسمونهم بالفقراء الذاكرين ، يذكرون أمام الجنازة جماعة على صوت واحد، يتصنعون في ذكرهم ، وينطقون به على طرق مختلفة ، إلى آخر ما ذكر ، وإذا تقرر كراهة رفع الصوت بالذكر مع الجنازة في مذاهب الأئمة الأربعة ، ففي نحو الذكر قدام العروس بالطريق الأولى ، وبالجملة فالذكر بالصوت الشديد في الطرقات بدعة ، لكونه غير معهود / في زمنه عليه الصلاة والسلام ، ولا في القرون 7 أالمشهود بخيريتها دلالة سند ظاهر ، ولا خفي ، ولا يجوز قياسه على التلبية والتكبير في طريق العيد لعدم شرط القياس ، على أن التلبية والتكبير لم يشرع الجهر بهما إلا لكل فرد بنفسه ، لا بهيئة الاجتماع والاتفاق في الصوت بالرفع والخفض، ومراعاة الأنغام ، والزيادة والنقص ، والتمطيط، والإبدال في الحروف، لأجل ذلك فإن ذلك كله حرام في الذكر ، كما يحرم في قراءة القرآن .
فصل :
مخ ۱۷
... ... وقد اعتاد هؤلاء وأمثالهم الجواب لمن قال لهم : إن هذه بدعة لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، بأن يقولوا : هذه بدعة حسنة ، وذلك لجهلهم بالبدعة الحسنة ، وعدم فرقهم بينها وبين السيئة ، فيظنون أن كل ما استحسنه نفر منهم ، فهو حسن ، وربما استدلوا بحديث ( ما رآه المسلمون حسنا فهوعندالله حسن )، وقد تقدم أن البدعة الحسنة ما كان على قياس أصل من أصول الشرع ، والحديث المذكور موقوف من قول ابن مسعود ، رضي الله عنه ، أخرجه أحمد في كتاب السنة ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود، قال : ( إن الله نظر في قلوب العباد ، فاختار محمدا صلى الله عليه وسلم ، فبعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد ، فاختار له أصحابا ، فجعلهم أنصار دينه ، ووزراء نبيه ، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون قبيحا ، فهوعند الله قبيح ) وكذا أخرجه الفراري ، والطيالسي ، والطبراني، وأبو نعيم ، ولا شك أن ليس اللام في( المسلمون ) لمطلق الجنس ، ولا للاستغراق الحقيقي ، بل إما للعهدالمذكور في قوله : فاختار له أصحابا ، فيكون المراد الصحابة فقط ، وإما لاستغراق خصائص الجنس ، وهي التي تخلفها كل مجازا ، نحو زيد الرجل علما ، أي الكامل في هذه الصفة ، ومنه قوله :
مخ ۱۸
وإن الذي حانت بفبج دماؤهم ... همالقوم كل القوم يا أم مالك (¬1) فيراد أهل الاجتهاد والعلماء العاملون في كل زمان ، فهم الكاملون في صفة الإسلام ، ومثل قوله عليه الصلاةوالسلام : ( لا تجتمع أمتي على ضلالة) ، كان المراد به أهل الاجماع ، على أن هذا يصح أن يراد به جميع الأمة / أي لا 7ب تجتمع جميع أمتي في زمان من الأزمنة على ضلالة ، كما اجتمع اليهود والنصارى على الضلالة في بعض الأزمنة ، ليكون موافقا لقوله عليه الصلاةوالسلام : ( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم حتى يلأتي أمر الله )، فعلم أن المراد ما رآه الصحابة ، أو أهل الإجماع في كل عصر حسنا ، فهو عند الله حسن ، وما رآه قبيحا فهوعند الله قبيح ، وقد قررنا أنهم أجمعوا على كراهة رفع الصوت بالذكر مع الجنازة ، فيكون عند الله مكروها .
فصل :
مخ ۱۹
... ... البدعة غير السيئة تنقسم إلى فرض كفاية كتعلم علم الكلام للرد على أهل البدع والإلحاد ، وإلى مستحب كتصنيف كتب العلم ، وبناء المدارس والربط ونحو ذلك ، وإلى مباح كالتوسع في الأطعمة ونحوها من المباحات ، وعند الاستقراء لا يوجد ذلك في العبادات الخالصة البدنية ، كالصلاة والصوم ، وقراءة القرآن ، والذكر ، وأوصافها ، وذلك لأن البدع الغير السيئة إنما تكون فيما حدث سببه بعد الصدر الأول ، أو زال المانع منه ، والعبادات الخالصة البدنية ليست كذلك ، فلا تكون البدعة فيها إلا سيئة ؛ لأنها كالاستدراك على أهل الصدر الأول ، إذ ترك الفعل لا يكون إلا لعدم الحاجة إليه ، أولمانع يمنع عنه ، أو لعدم التنبيه له ، أو للتكاسل ، أولكراهته ، والأولان منتفيان في العبادات المحضة ؛ لأن الحاجة إلى التقرب بها إلى الله لا تنقطع ، ولم يكن منها مانع بعد ظهور الإسلام ، وغلبة أهله ، وكذا الاستدراك بعدم التنبه أو التكاسل ، إذ لا يجوز ظن ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وجميع أصحابه ، فلم يبق إلا الكراهة ، وذلك [ ما ] (¬1) أراد عبدالله بن مسعود رضي الله عنه لما أخبر بالجماعة الذين ذكروا له أنهم يجلسون في المسجد بعد المغرب ، فيهم رجل يقول : كبروا الله كذا وكذا ، وسبحوا الله كذا وكذا ، واحمدوا الله كذا وكذا ، فيفعلون ، فحضرهم ، فلما سمع ما يقولون قام ، فقال لهم : أنا عبد الله بن مسعود ، والله الذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعة ظلما ، أولقد فقتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علما ..
مخ ۲۰
إلى آخره ، فكأنه قال : إما أن يكون ما جئتم به بدعة / وإما أنكم استدركتم على الصحابة ما فاتهم ؛ لعدم تنبههم ، أو 8أ لتكاسلهم ، ففقتموهم من حيث العلم بطرق العبادة ، والثاني منتف ، فتقرر الأول ، وهو أنه بدعة ، فهكذا يقال : كل من أتى في العبادات بصفة لم تكن في زمن الصحابة ، كالجهر بالذكر قدام الجنازة ، ونحوها ، ومنه عد حكم العلماء على ذلك بكونه بدعة مكروهة ، مع أنه في ذاته عبادة ، فلو كان وصف العبادة في الفعل المبتدع يقتضي كونه بدعة حسنة لم يوجد في العبادة ما هو بدعة مكروهة ، وقد وجد البدعة المكروهة فيها إجماعا ، ولم يوجد عبادة خالصة هي بدعة حسنة إجماعا، فعلم أن كل بدعة في العبادات الخالصة ، فهي مكروهة ، وإلا لما فاتت أهل الصدرالأول، والقرون التي شهد الصادق المصدوق بخيريتها ، ولأنها لا بد أن تدافع سنة ، وكل بدعة دافعت سنة فهي سيئة ، فالخبر المذكور يدافع السنة الثابتة بالحديث المتقدم ذكره الذي خرجه البيهقي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهون رفع الصوت عندالجنازة ، وعند القتال ، وعند الذكر ، وإذا استقرئت (¬1) البدع التي في العبادات المحضة فلا بد من أن يوجد فيها مزاحمة لسنة ، ولو لم تكن تلك السنة إلا متابعة الصحابة لكان فيها كفاية لأمره صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم ، بخلاف غير العبادات المحضة فإنها قد تكون لسبب تجدد بعدهم ، أو كان تركهم لها لمانع ، ثم زال على ما تقدم.
فصل :
مخ ۲۱
... ... ثم إن بعض هؤلاء المبتدعة قد زاد في شططه ، وتجاوز حدود نمطه حيث اعترض على مثل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، بسبب ما تقدم عنه من القصة ، وفي بعض رواياتها أنه قال لهم : ما عهدنا ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وما أراكم إلا مبتدعين ، فما زال يكرر ذلك حتى أخرجهم من المسجد ، فطعن فيه هذا المبتدع ، وقال في حقه : إنه كان متعصبا ، وهذا من غاية الجرأة على أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، الذين قال عليه الصلاة والسلام في حقهم: ( الله الله في أصحابي/لا تتخذوهم8ب غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، يوشك أن يأخذه ) ، وخصوصا مثل عبد الله بن مسعود الذي هو من أكابر الصحابة ، وفقهائهم ، ومن أهل بدر ، وخادم النبي صلى الله عليه وسلم ، وصاحب سره ، وقال في حقه ما حدثكموه ابن مسعود فصدقوه ،ولما أمره النبي صلى الله عليه وسلم ، فصعد شجرة ضحكوا من حموشة ساقيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هما في الميزان يوم القيامة أثقل من أحد ) ، وقال علقمة : كان عبد الله يشبه النبي صلى الله عليه وسلم في هديه ودله وسمته ،وقال أبو موسى الأشعري : مكثت حينا وما أحسب ابن مسعود وأمه إلا من أهل البيت ، إلى غير ذلك من فضائله ، التي يطول ذكرها ، فكيف يجوز التكلم في حق مثله بما فيه شين ما ، بل يجب أن يعد من جملة مناقبه الحمية لإقامة السنة ، وإزالة البدعة ، وأما الاعتراض بأن فعله ذلك يدخله تحت قوله تعالى : [ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ] (¬1) فناشيء عن عدم التأمل في معنى الآية باعتبار تركيبها ، فإن محل [أن يذكر] النصب ، على أنه ثاني مفعولي منع ، وحينئذ يفهم من السلب الكلي ، وهو ينتقض بالإيجاب الجزئي ، فإن من قال : منعت فلانا عطائي ، لا يصدق إذا أعطاه نوعا من العطاء ، وإنما يصدق بمنع جميع أنواع العطاء ، فعلى هذا لا يصدق عليه أنه مانع مساجد الله ذكر اسم الله إلا بمنع جميع أنواع الذكر ، لا بمنع نوع واحد من الذكر ، وهي البدعة المخالفة لطريقة النبي صلى الله عليه وسلم ، وطريقة أصحابه ، مع عدم منع ما سواه من أنواعه ، وكذا إن كان نصبه بنزع الخافض ، أي من أن يذكر ، فهو بمنزلة قولك منعته من عطائي ، وإن نصب على أنه مفعول له ، وكراهة أن يذكر فيها اسمه ، فأظهر ، فإن فعله رضي الله عنه ليس لأجل كراهة ذكر اسم الله ، بل إنما هو لكراهة البدعة ، التي ينبغي تطهير/المساجد منها ، وإذا وجب صون9 المساجد عن الأمور المباحة كالبيع والشراء ، وإنشاد الضالة ، فصونها عن فعل البدع المكروهة أوجب وأوجب .
... وبالله التوفيق ، عصمنا الله من أفعال المبتدعين ، وحشرنا في زمرة الذين لم يزالوا للسنة متبعين بمنه وكرمه ، إنه أرحم الراحمين .
... تمت الرسالة ولله الحمد على يد محررها الفقير إلى رحمة ربه الغني ، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحلبي إمام الجامع المحمدي بقسطنطينية المحروسة وقت الضحوة الكبرى ، يوم الأحد خامس ربيع الآخر ، سنة أربع وثلاثين وتسعمائة ، وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وسلم .
مخ ۲۳