رحمان او شیطان
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
ژانرونه
وفي مواضع كثيرة يستخدم النص تعبير «ملاك الرب» كناية عن حضور يهوه المرئي. نقرأ في سفر القضاة عن رؤية أبوي شمشون للرب الذي جاء يبشرهما بمولد غلام يحرر إسرائيل من أعدائها: «فقال منوح لملاك الرب ما اسمك حتى إذا جاء كلامك نكرمك. فقال له ملاك الرب لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب. فأخذ منوح جدي المعزى والتقدمة وأصعدهما على الصخرة للرب. فعمل عملا عجيبا، ومنوح وامرأته ينظران، فكان عند صعود اللهيب عن المذبح نحو السماء أن ملاك الرب صعد في لهيب المذبح ومنوح وامرأته ينظران، فسقطا على وجهيهما إلى الأرض ... فقال منوح لامرأته نموت موتا لأننا قد رأينا الله» (13: 17-22). إلى جانب هذه الظهورات التي يبدو فيها يهوه كإنسان عادي أو كجني ليلي يخاف طلوع الفجر، أو كعفريت شاهرا سيفه للقتل، هناك ظهورات يبدو فيها يهوه في هيئة الملك الشرقي الجالس على العرش، على هذه الصورة رآه النبي إشعيا في الهيكل رؤية العين وسمع من فمه: «في سنة غزيا الملك، رأيت السيد جالسا على كرسي عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل ... فقلت ويلي إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود» (إشعيا، 6: 1-5).
هذا وتنعكس إشكالية التوحيد في النص التوراتي على موقف الشخصيات الرئيسية في القصة التوراتية من هذه المسألة، وعلى سلوك الجماعة بأسرها، فلا قادة الشعب التزموا عبادة يهوه وحده، ولا بقية الشعب من ورائهم أيضا، وبما أن قائمة الشواهد من الكتاب تطول حتى تغطي عشرات الصفحات، فإننا سنكتفي هنا بإيراد شاهد واحد من كل حقبة من أحقاب الرواية التوراتية.
في سفر التكوين الذي يسرد قصص الآباء الأولين من إبراهيم إلى يعقوب والأسباط ، لدينا العديد من الشواهد النصية على أن الآلهة الأخرى كانت مبجلة في بيوت أولئك الآباء. نقرأ في الإصحاح 35: «ثم قال الله ليعقوب قم اصعد إلى بيت إيل وأقم هناك واصنع مذبحا لله ... فقال يعقوب لبيته ولكل من كان معه: اعزلوا الآلهة الغريبة من بينكم وتطهروا وأبدلوا ثيابكم» (35: 1-2). وفي سفر الخروج، وبعد ثلاثة شهور فقط على هروب بني إسرائيل من مصر، لم يجد هارون أخو موسى غضاضة في صنع تمثال للعجل، يتعبد له بنو إسرائيل أثناء غياب موسى الطويل على جبل سيناء: «قال الشعب لهارون: قم اصنع آلهة تسير أمامنا لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من مصر، لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هارون انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها ... فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل وصنعه عجلا مسبوكا. فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من مصر» (32: 1-4). وعندما وصل موسى بقومه إلى شرقي الأردن بعد أربعين سنة، لم يكن موقف الشعب من يهوه قد تغير: «ابتدأ الشعب يزنون مع بنات موآب، فدعون الشعب إلى ذبائح آلهتهن، فأكل الشعب وسجد لآلهتهن، وتعلق الشعب ببعل فغور «إله موآب»، فحمي غضب الرب على إسرائيل» (العدد، 25: 1-3).
وبعد موت موسى واجتياز خليفته يشوع بن نون نهر الأردن إلى أرض كنعان التي غنمها ووزعها على القبائل الاثني عشر، كانت الآلهة الغريبة ترافقهم في حلهم وترحالهم. وتوفي يشوع بن نون وهو يوصيهم بنزعها: «فالآن، انزعوا الآلهة الغريبة التي في وسطكم وأميلوا قلوبكم إلى الرب إله إسرائيل» (يشوع 24: 23). وعندما استقر الشعب في كنعان عبدوا الإله بعل والإلهة عشيرة ونسوا الرب الذي أخرجهم من مصر وعبر بهم الأردن، ولما جاء ملاك الرب إلى المدعو جدعون وأمره أن يهدم مذبح البعل ويقطع السارية المنصوبة «جذع الشجرة المقدس» عنده، لم يجرؤ على ذلك في وضح النهار. نقرأ في سفر القضاة: «وإذا كان يخاف من أهل بيته وأهل المدينة أن يعمل ذلك نهارا فعمله ليلا. فبكر أهل المدينة في الغد وإذا بمذبح البعل قد هدم والسارية التي عنده قد قطعت ... فقال أهل المدينة ليوآش: أخرج ابنك لكي يموت لأنه هدم مذبح البعل» (6: 27-30).
وفي عصر المملكة الموحدة نجد أصنام الآلهة موجودة في بيت داود، الشاب الذي مسحه الرب ملكا على إسرائيل بدلا عن شاؤل. نقرأ في سفر صموئيل الأول: «فأرسل شاؤل رسلا إلى بيت داود ليراقبوه ويقتلوه في الصباح. فأخبرته ميكال زوجته قائلة: إن كنت لا تنجو بنفسك هذه الليلة فإنك تقتل غدا. فأنزلت ميكال داود من الكوة فذهب هاربا ونجا، وأخذت ميكال الترافيم ووضعته في الفراش ووضعت لبدة المعزى تحت رأسه وغطته بثوب» (19: 11-13). والترافيم المذكور هنا، هو نوع من أصنام الآلهة الخاصة بالبيوت، ويبلغ حجمها في بعض الأحيان حجم الإنسان الحقيقي. (بخصوص أصنام الترافيم راجع المواضع الآتية في التوراة: التكوين، 31: 9 و34 و35؛ وصموئيل الأول، 15: 23). وكان الملك سليمان باني هيكل الرب في أورشليم من عبدة الآلهة السورية، ولهذا فقد حكم الرب على مملكته بالانقسام بعد وفاته. نقرأ في سفر الملوك الأول: «وكان في زمن شيخوخة سليمان، أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه. فذهب سليمان وراء عشتاروت إلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونين، وعمل سليمان الشر في عيني الرب ... فقال الرب لسليمان: من أجل أن ذلك عندك، ولم تحفظ عهدي وفرائضي فإني أمزق المملكة عنك تمزيقا وأعطيها لعبدك» (11: 4-11).
بعد انهيار مملكة سليمان وانقسامها إلى مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا، كان ملوك إسرائيل وعامتها يعبدون الآلهة السورية حتى دمار عاصمتهم السامرة عام 721ق.م. أما في يهوذا فإن المقطع الآتي من سفر الملوك الثاني يعطي صورة حية عن حالة هيكل سليمان في أورشليم الذي امتلأ بنصب ورموز آلهة الخصب الكنعانيين: «وأمر يوشيا الملك الكاهن العظيم حلقيا وكهنة الفرقة الثانية أن يخرجوا من هيكل الرب جميع الآنية المصنوعة للبعل وللسارية ولكل أجناء السماء وأحرقها خارج أورشليم، ولاشى كهنة الأصنام الذين جعلهم ملوك يهوذا ليوقدوا على المرتفعات في مدن يهوذا وما يحيط بأورشليم، والذين يوقدون للبعل وللشمس وللقمر ومنازل السماء ولكل أجناء السماء، وأخرج السارية من بيت الرب خارج أورشليم ... وهدم بيوت المأبونين (= الدعارة المقدسة) التي عند بيت الرب حيث كانت النساء ينسجن بيوتا للسارية» (23: 4-7).
ويحدثنا النبي حزقيال عن تحول هيكل الرب إلى مكان لعبادة الآلهة الأجنبية وأداء طقوس الخصب التموزية فيه: «وقال لي ادخل وانظر الرجاسات الشريرة التي هم عاملوها هنا، فدخلت ونظرت وإذا كل شكل دبابات وحيوان نجس، وكل أصنام بيت إسرائيل مرسومة على الحائط على دائرة، وواقف قدامهم سبعون رجلا من شيوخ بيت إسرائيل وكل واحد مجمرته في يده وعطر عنان البخور صاعد ... وقال لي بعد تعود تنظر رجاسات أعظم هم عاملوها، فجاء بي إلى مدخل باب بيت الرب الذي من جهة الشمال، وإذا هناك نسوة جالسات يبكين على «الإله» تموز ... وجاء بي إلى دار بيت الرب الداخلية وإذا عند باب هيكل الرب بين الرواق والمذبح نحو خمسة وعشرين رجلا ظهورهم نحو هيكل الرب ووجوههم نحو الشرق وهم ساجدون للشمس» (حزقيال، 8: 7-16).
وفي أسفار الأنبياء وفي بعض فصول شعر المزامير، يرسم المحرر التوراتي صورة أكثر وضوحا لإله عالمي شمولي، تجعلنا نعتقد لأول وهلة بأن الأيديولوجيا التوراتية قد لامست فكرة «الله» وبلغت أعتاب مفهوم التوحيد، غير أن القراءة المدققة للمقاطع المعنية في هذه الأسفار، توضح لنا أن كل وصف عالمي شمولي للإله يهوه يتبعه مباشرة توكيد على علاقة يهوه بشعبه المختار، ووعد صريح بتخليصه وإعلائه فوق الجميع «وهذه المسألة لم يلحظها الباحثون الغربيون الذين يعيدون القول في كل مناسبة بأن أسفار المزامير والأنبياء قد توصلت أخيرا إلى مفهوم التوحيد الصافي.» فالشمولية والحالة هذه ليست إلا حلية وزينة للإله التوراتي الذي يبقى رغم كل سماته الكونية إلها لإسرائيل وحدها عاملا في سبيل تحقيق مملكتها الأرضية وسلطانها على بقية الشعوب.
نقرأ في سفر إشعيا، وهو السفر المفضل لدى الباحثين عن التوحيد في الأيديولوجيا التوراتية، هذه الفقرات المنتخبة، لنرى كيف ترتبط الصورة الشمولية للإله بالصورة التقليدية لإله إسرائيل، وكيف يجري توظيفها لخدمة النظرة الشوفينية الضيقة للخطاب التوراتي: «أنا الرب. أنا الأول والآخر. رأت الجزائر وخافت، ارتعدت أقاصي الأرض فدنت وأقبلت ... إلخ. أما أنت يا إسرائيل عبدي ويا يعقوب الذي اخترته، نسل إبراهيم خليلي، لا تخف لأني معك، لا تتلفت لأني إلهك. قد أيدتك وأعنتك وعضدتك بيمين بري ... يكون كلا شيء مخاصموك ويبيدون، تفتش عن منازعيك ولا تجدهم» (41: 8-12). نلاحظ في هذا المقطع كيف يتم الانتقال مباشرة من المفهوم التوحيدي الشمولي في قوله «أنا الأول والآخر»، إلى مفهوم إله إسرائيل الذي ينصر شعبه على أعدائه، وهذه الصيغة تتكرر عبر كامل سفر إشعيا: «هكذا قال الرب ملك إسرائيل وفاديه، رب الجنود: أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيري. من مثلي يدعو ويخبر بهذا أو يرتب لي ذاك، منذ أنشأت شعبا أبديا ليخبروهم بالمستقبل وبما سيأتي. لا ترتاعوا ولا تضطربوا، ألم أسمعكم من ذلك الوقت وأخبركم، أنتم شهودي هل من إله غيري أو من صخر لا علم لي به؟ ... هكذا قال الرب فاديك «يا إسرائيل» وجابلك من البطن: أنا الرب صانع الكل، ناشر السماوات وحدي وباسط الأرض بنفسي، مثبت كلام عبده ومتمم مشورة رسله. القائل لأورشليم ستعمرين ولمدن يهوذا ستبنين وأنا أقيم المنهدم منها» (44: 6-26). إن كل هذا الإعلاء من شأن إله إسرائيل وجعله باسطا للأرض وناشرا للسماوات، لا يخدم أيديولوجيا توحيدية عالمية، بل يهدف إلى زرع الثقة في قارئ النص بأن إله إسرائيل قادر على إعادة بناء أورشليم وبقية مدن يهوذا المهدمة.
ونتابع القراءة في الإصحاح 43: «أنتم شهودي يقول الرب، وعبدي الذي اخترته، لكي تعلموا وتؤمنوا بي وتفهموا أني أنا هو، لم يكن إله قبلي ولا يكون بعدي. أنا، أنا الرب ولا مخلص غيري. إني أخبرت وخلصت وأسمعت وليس فيكم غريب، وأنتم شهودي يقول الرب وأنا الله» (43: 10-12). إن لفظ الجلالة «الله» المذكور هنا وفي مئات المواضع الأخرى من النص التوراتي هو ترجمة للاسم الكنعاني «إيل» الذي يستخدمه المحرر التوراتي في الإشارة إلى إله التوراة إلى جانب الاسم الآخر «إيلوهيم» الذي هو صيغة جمع من «إيل». وفي الإصحاح 46 نقرأ: «اسمعوا لي يا آل يعقوب ويا بقية آل إسرائيل الذين أقلوا من البطن وحملوا من الرحم إلى شيخوختكم أنا، وإلى مشيبكم أقلكم. أنا صنعتكم أنا أحملكم، أنا أقلكم وأنجيكم، بمن تشبهونني وتعادلونني، وبمن تمثلونني فنتشابه؟ ... اذكروا الأوائل منذ الدهر، إني أنا الله وليس آخر ، أنا الله وليس مثلي، أنا المخبر منذ البداءة بالنهاية، ومن القديم بما لم يكن، قائلا: إن مشورتي تثبت وإني أصنع كل ما أشاء ... إني قربت بري فلا يبعد، وخلاصي فلا يبطئ، وسأجعل في صهيون الخلاص ولإسرائيل فخري» (46: 3-13). ونقرأ في الإصحاح 48: «اسمع لي يا يعقوب ويا إسرائيل الذي دعوته. أنا هو، أنا الأول وأنا الآخر. يدي أسست الأرض ويميني شبرت السماوات. أدعوهن فيقفن جميعا ... هكذا قال الرب فاديك قدوس إسرائيل: أنا الرب إلهك الذي يعلمك ما ينفع ويهديك الطريق الذي تسير فيه ... اخرجوا من بابل، اهربوا من الكلدانيين بصوت الترنيم، أخبروا بهذا ونادوا به، أذيعوه إلى أقاصي الأرض. قولوا قد افتدى الرب عبده يعقوب» (48: 12-20).
ناپیژندل شوی مخ