رحمان او شیطان
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
ژانرونه
في الديانة الزرادشتية يبلغ المعتقد الألوهي كمال رؤياه للعلاقة بين الله والعالم، ويظهر مفهوم التاريخ الدينامي لأول مرة في تاريخ الدين مكتملا وناجزا. فهنا يقوم الوجود بأسره، وجود الله ووجود ما سواه والعلاقة بينهما، على ثلاثة مفاهيم أساسية مترابطة هي: الأخلاق والحرية والمسئولية. ولأول مرة في تاريخ الدين يظهر مفهوم متسق ومتكامل عن «الإنسانية»، وعن دورها الإيجابي والفعال في خطة الخلق وصيرورة التاريخ ومصير الكون والحياة. فالإنسان لم يعد عبدا للآلهة ولا أداة في يد القدر، بل كائن حر ومسئول، وهذه الحرية والمسئولية لا تنسحب على مصيره الفردي أو الجمعي فقط، بل تتسع لتشمل الكون بأسره وتتحكم بمآل التاريخ.
في البدء، لم يكن سوى الله، الذي يدعوه زرادشت أهورا مزدا، وجود كامل وتام، وألوهة قائمة بذاتها مكتفية بنفسها غنية عما عداها، ثم إن هذه الألوهة اختارت الخروج من كمونها والظهور فيما سواها، فصدر عنها روحان توءمان هما سبينتا ماينو وأنجرا ماينو، وقد وهبهما الله منذ البداية أهم خصيصة تميزهما عن مصدرهما وتجعل منهما كيانين مستقلين عنه، وهي خصيصة الحرية الكاملة. ومنذ البداية أيضا استخدم هذان الروحان حريتهما في الاختيار، فاختار الأول الخير، ومن هنا جاء اسمه سبينتا ماينو أي الروح المقدس، واختار الثاني الشر، ومن هنا جاء اسمه أنجرا ماينو أي الروح الخبيث، وبذلك تحددت القوتان الكونيتان اللتان سيدور حولهما الوجود المادي والروحاني المقبل، وجرى زرع المبدأ الخلقي في أصل الوجود ومبتدئه. فكل ما في الوجود الجديد حر وأخلاقي في آن معا.
بعد الخيار الأخلاقي للتوءمين، كان لا بد من تعارضهما وتصادمهما ودخولهما في صراع، وبما أن التوءمين يتمتعان بالطبيعة الإلهية التي لأهورا مزدا، وبما أنه قد وهبها أيضا ما له من حرية، فقد قرر عدم التناقض مع نفسه، والسير بخطته التي تقوم على الحرية إلى آخرها. هنا عمد الله بمشاركة الروح المقدس سبينتا ماينو إلى إظهار ستة كائنات قدسية إلى الوجود تدعى بالأميشا سبينتا، أي المقدسون الخالدون، يستعين بها على مقاومة الروح الخبيث أنجرا ماينو، فشكلت بطانته الخاصة التي تحيط به على الدوام وتعكس مجده، وقد شارك هؤلاء الخالق فيما تلا من أعمال الخلق والتكوين، وصاروا حافظين لخلق الله ووسطاء بينه وبين العالم، ثم إن هؤلاء قد أظهروا إلى الوجود عددا من الكائنات القدسية الطيبة المدعوة بالأهورا، وراح الجميع يكافح الشر كل في مجاله. وبالمقابل فإن أنجرا ماينو قد استنهض عددا من القوى الروحانية المدعوة بالديفا ثم عمل على ضلالتهم فانحازوا إلى جانبه وتحفز الجميع للانقضاض على خلق الله القادم.
فوق الروحين المتنافسين، وفوق فريق الأهورا وفريق الديفا، يسمو أهورا مزدا في عليائه متجاوزا ثنائيات الخلق، غير أن سمو أهورا مزدا فوق الثنائيات لم يكن يعني اتخاذه موقفا سلبيا مما يجري. فبعد أن تأسس الشر على المستوى الروحاني، عرف الله بواسطة علمه الذي يطال البدايات والنهايات ، أن القضاء على عناصر الشر دون الإخلال بمبدأ الحرية، لن يكون متيسرا إلا بخلق العالم المادي الذي سيكون المسرح المناسب لصراع طويل ينتهي بمحق الشيطان أنجرا ماينو وأعوانه، فلسوف يعمد الشيطان إلى مهاجمة العالم بكل قواه لأنه خلق حسن وطيب، ولكن عدوانه سيئول إلى خسران في نهاية الزمن ويحسم الصراع لصالح الخير، ويتم تخليص الكون إلى الأبد من شوائب الشر وإعادته كونا حسنا وطيبا إلى الأبد. وهكذا شرع أهورا مزدا يخلق الكون على ست مراحل، وكان الإنسان آخر ما خلق الله في اليوم السادس، ومع خلق الإنسان ينطلق التاريخ.
يسير التاريخ عبر ثلاث مراحل: المرحلة الأولى هي مرحلة الخلق الطيب الحسن الكامل. المرحلة الثانية هي مرحلة امتزاج الخير والشر في نسيج العالم عقب هجوم أنجرا ماينو عليه وتلويثه. المرحلة الثالثة هي مرحلة الفصل بين الخير والشر ودحر الشيطان ورهطه، والارتقاء بالعالم نحو المستوى الماجد والجليل الذي ينتظره في نهاية التاريخ. خلال المرحلة الثانية الحاسمة من التاريخ، يقف الإنسان على قدم المساواة مع الأميشا سبينتا وبقية الكائنات الروحانية الأخرى في مسئوليته عن مكافحة الشر في العالم، ويكون دوره حاسما في الوصول بالتاريخ إلى نهايته المرتقبة. فالإنسان هو أنبل خلق الله والأقدر على مكافحة الشر، لأنه يعيش في العالم المادي الذي اتخذه الشيطان مسرحا لمقاومة خلق الله وإفساده، ولأنه صار في بؤرة الصراع الكوني وعرضة دائمة للغواية الناجمة عن سلطة الشيطان على العالم ومخلوقاته. وأما سلاح الإنسان في المعركة فوعيه وحريته وخياره الأخلاقي، ويتجلى الخيار الأخلاقي من الناحية العملية في عناية الإنسان بأخيه الإنسان وببقية الكائنات الحية لأنهم جميعا صنعة الخالق الواحد، كما أن عليه أن يرعى جسده وروحه في آن معا، وتأتي رعاية الجسد من اتباع قواعد النظافة والطهارة والصحة العامة، والاعتدال في الطعام والشراب وتجنب الإفراط في كل شيء، وأما رعاية الروح فتأتي من اتباع النظام الأخلاقي الذي اختطه زرادشت، وأداء فروض العبادة الله وحده. من هذا المنظور تتخذ الإنسانية مكان المركز من خلق الله، وهي في سعيها نحو خلاصها إنما تخلص العالم بأسره.
في المرحلة الأخيرة من التاريخ، سوف يظهر المخلص المنتظر المدعو ساوشنياط، وهو الذي سيقود المعركة الفاصلة الأخيرة ضد الشيطان ويقضي عليه. ومع القضاء على الشيطان يتم تدمير العالم القديم الملوث بعناصر الشر وتجديده بطريقة أقرب ما تكون إلى خلق جديد، ثم تفتح القبور وتلفظ الأرض ما اتخمت به من عظام عبر الزمن، فتهبط الأرواح من البرزخ، مكان إقامتها المؤقت، لتتحد أجسادها وتأتي إلى يوم الحساب الأخير الذي يفصل بين الأخيار والأشرار. فأما الأشرار فيجرفهم تيار ناري ويمحو عن الأرض أثرهم بعد عذاب أليم، وأما الأخيار فيعبرون الصراط المستقيم إلى العالم الجديد، ويعيشون خالدين في جنة أرضية. هنا يتوقف التاريخ وتدخل الإنسانية الجديدة في زمن مفتوح على الأبدية. (6-2) نتيجة ومدخل
لاهوت التاريخ وفكرة الشيطان
لقد واجه الإنسان منذ فجر وعيه نوعين من الشرور: النوع الأول شرور طبيعانية، والثاني شرور أخلاقية اجتماعية. فالشرور الطبيعانية هي الشرور المتضمنة في صلب صيرورة عمليات الكون والطبيعة والبيولوجيا، وذلك مثل البراكين والزلازل والأعاصير والفيضانات والحرائق، ومثل الألم والمرض والشيخوخة والموت. وأما الشرور الأخلاقية فهي الشرور الناجمة عن ممارسة الإرادة الإنسانية لدى الكائنات العاقلة، عندما تخرج عن القواعد المتعارف عليها للتعامل بين أفراد الجماعة الواحدة، وذلك مثل السرقة والاغتصاب والتسلط والظلم. ورغم أن الإنسان لم يربط في البداية بين هذين النوعين من الشرور، ولم يتصورها ناجمة عن مصدر واحد، إلا أنه قد عكس معاينته للشر الأخلاقي باعتباره فعلا إراديا على الطبيعة، ورأى في عملياتها فعلا تمارسه كائنات ما ورائية تمثلت في أرواح خبيثة وأرواح خيرة، ثم تحولت هذه الأرواح وارتقت تدريجيا لتصير آلهة.
21
فالنظام المستقر المتوازن على المستوى الطبيعاني والبيولوجي تدعمه آلهة معينة، والخروج على هذا النظام وتهديده تمارسه آلهة أخرى، وهذا ما قاده إلى تطوير نوعين من الطقوس، الأول يهدف إلى طلب عون الآلهة الخيرة، والثاني يهدف إلى اتقاء أذى الآلهة الشريرة. أما الشر الأخلاقي فقد بقي شأنا اجتماعيا لا يتصل بتلك القوى الما ورائية، فالذي يسرق أو يظلم أو يعتدي ليس مدفوعا من قبل إله شرير، والذي ينصف ويعين ويرأف ليس أيضا مدفوعا من قبل إله خير. وبتعبير آخر، فإن الثنائية أو القطبية الطبيعانية لم تتسع لتشمل العلاقات الاجتماعية، وبقي الإنسان ينظر إلى السلوك في صفته الخيرة أو الشريرة، ويميزه إلى فضائل ورذائل من غير أن يربطه بثنوية أخلاقية ما ورائية، وهكذا تركت المجتمعات الإنسانية لتدير شئونها الأخلاقية بنفسها دون وصاية من قوة قدسية ما، وهذا ما قامت به على أحسن وجه. ذلك أن إحجام الآلهة عن التدخل في المسائل الأخلاقية، لم يكن معادلا بأية حال من الأحوال للفوضى الأخلاقية في المجتمع، لأن الإنسان كان قادرا منذ بدايات التجمع الإنساني على سن قوانينه ووضع لوائحه الأخلاقية التي لم يكن بدونها للتجمع الإنساني والحياة المشتركة وجود البتة.
ناپیژندل شوی مخ