رحمان او شیطان
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
ژانرونه
16
وهنا أريد التوقف قليلا عند مقطع من ملحمة جلجامش جرى تفسيره أحيانا على أنه يقدم دليلا على وجود مفهوم كوني للشر في الدين الرافديني، أو على الأقل وجود بذور لمثل هذه الفكرة بشكلها الجنيني، فعندما كان جلجامش يتشاور مع صديقه إنكيدو في موضوع رحلة غابة الأرز يقول له: «في الغابة هناك يعيش حواوا الرهيب. هيا أنا وأنت نقتله، هيا نمسح الشر كله عن وجه الأرض.» وقبل أن يشرع في رحلته يزور أمه ننسون راجيا بركتها: «إلى اليوم الذي به أعود، إلى أن أصل غابة الأرز، إلى أن أقتل حواوا الرهيب فأمحو عن الأرض كل شر يكرهه الإله شمش، صلي من أجلي إلى شمش.»
استنادا إلى هذين المقطعين، وما تلاهما من مشاهد مغامرة غابة الأرز التي انتهت بقتل حواوا الوحش الرهيب حارس الغابة، يرى بعض المفسرين في حواوا رمزا لمبدأ الشر المجرد وفي الإله شمش رمزا لمبدأ الخير المجرد، وهذا في واقع الأمر بعيد كل البعد عن العقلية الدينية والفلسفية البابلية التي لم تتوصل إلى مثل هذا التجريد قط، ودليلنا على ذلك هو المدلول الحرفي الدقيق لكلمة «الشر» الواردة هنا وهي بالأكادية «ميما-ليمنو». فالكلمة تشير إلى كل ما هو مؤلم ومؤذ وغير موات لحياة وسعادة الإنسان، ولا يوجد ما يدل على استخدامها للدلالة على الشر الأخلاقي.
17
نقرأ على سبيل المثال في نص تعويذة بابلية مخصصة لاستنهاض أرواح الأسلاف من أجل شفاء المريض: «أقف اليوم في حضرة جلجامش وشمش: احكما في قضيتي، أصدرا قرارا بحقي، انزعا ما في لحمي وعظمي من ميما - ليمنو.»
18
وفي تعويذة أخرى تستنهض روح جلجامش باعتباره أحد الأسلاف العظام الصالحين: «لقد تمكن في المرض، فاحكم في قضيتي، إني أركع أمامك، فأصدر قرارا بحقي، انزع المرض من جسدي خذ عني الميما-ليمنو الذي يهدد حياتي، خذ عني المرض الذي يعشعش في لحمي وعظمي وأوصالي.»
19
إن الشر المقصود في هاتين التعويذتين هو الألم والمرض، ومرتل التعويذة يستنهض روح جلجامش الذي أجهز على واحد من ممثلي هذا النوع من الشر الذي يكرهه شمش على حد تعبير نص الملحمة، وهو النوع الذي وصفناه في موضع سابق بالشر الطبيعاني تمييزا له عن الشر بالمعنى الأخلاقي الاجتماعي.
وكان لمثل هذا الشر الطبيعاني ممثلون يجسدونه في مجمع الآلهة الرافدينية، فإلى جانب آلهة البانثيون الرئيسية التي تميز سلوكها بالتناقض حيال الخير والشر، فإننا نجد آلهة أخرى موكلة بشئون الشر الطبيعاني وخصوصا ما تعلق منه بحياة الإنسان من ألم ومرض وموت، وهذه الآلهة تنتمي إلى قوى الظلام والعالم الأسفل، فهناك إريشكيجال ربة العالم الأسفل التي تعمل على ملء مملكتها من الناس أجمعين، وزوجها نرجال الذي كان يرسل عفاريت الظلام لتجوس في الأرض وتؤذي الناس خلال الليل، ونرجال هذا هو مظهر من مظاهر الإله شمش، الذي يغيب في باطن الأرض جهة المغرب ليسير في العالم الأسفل نحو المشرق فيطلع في اليوم الثاني. إنه الشمس السوداء في مقابل الشمس المنيرة البيضاء، ويمثل الجانب الأشأم من فعاليات إله الشمس حيث يتسبب بالحروب والخراب والطوفانات والأوبئة، وهناك نمتار رسول إريشكيجال وصلة الوصل بينها وبين آلهة العالم الأعلى، وكان يلعب دور ملاك الموت قابض الأرواح، يعاونه في ذلك سبعة عفاريت تحف به في غدوه ورواحه. وهناك إيرا إله الطاعون والأوبئة الفتاكة التي تحصد الناس بالآلاف، يصعد من العالم الأسفل وهو يجر وراءه ستين مرضا وعلة يطلقها على من يشاء من الناس. وهناك ليليث شيطانة القفار الجميلة التي تمثلها الأعمال الفنية على هيئة امرأة عارية لها جناحان ومخالب الطير الكاسر، وكانت تخطف الأطفال الرضع عن صدر أمهاتهم. إن هذه الكائنات الما ورائية المرعبة ليست كائنات أخلاقية انحازت إلى جانب الشر عن خيار ووعي، بل هي تجسيد على المستوى الميثولوجي لوجود الشرور الطبيعانية في معزل عن الحكم القيمي الأخلاقي، وضمن عقيدة دينية لم تتوصل إلى مفهوم للخير والشر باعتبارهما مبدأين كونيين مجردين.
ناپیژندل شوی مخ