[مقدمة المؤلف]
في 9 محرم 1421ه صلاح محمد أبو الحاج
الموافق 2 نيسان 2001م ... ... شارع حيفا/بغداد
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدا لمن جعل الموت عبرة لكل نائم ويقظان، وشكرا لمن جعل الكعبة قبلة الأحياء والأموات من بني الإنس والجان.
أشهد أنه لا إله إلا هو، شهادة تدخلنا في الجنان، وصلاة على حبيبنا وشفيعنا، صاحب الجود والإحسان، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فيقول من لا صنع له إلا كسب الخطيئات، ولا كسب له إلا ارتكاب السيئات، أبو الحسنات محمد المدعو بعبد الحي اللكنوي الأنصاري الحنفي، تجاوز الله عن ذنبه الجلي والخفي، سئلت عن كيفية توجيه الميت إلى القبلة في القبر، هل هو بالاستلقاء، أو بالاضطجاع؟
وهل يكفي مجرد توجيه وجهه إلى القبلة؛ لإتباع السنة عند الحنفية، أم لا؟
فأجبت بأن المسنون في وضع الميت في القبر عند الحنفية، والشافعية(1) بأجمعهم، هو الاضطجاع على الشق الأيمن. كما هو مذكور في ((النهاية))(2)، وغيرها(3).
مخ ۸
ثم بدا لي أن أكتب في هذه المسألة رسالة لطيفة، أذكر فيها نصوص التوجيه، والوضع وكيفيته وفروعه، وما يتعلق به، وأضم إلى ذلك تحقيق إدخال الميت في القبر، هل هو بطريق السل، أو غير ذلك مع ذكر مذهب الشافعية في المسألتين، وتحرير أدلة الفريقين(1) إحقاقا للحق، ولو كره الكارهون، وبمثل هذا فليعمل العاملون، واسميها ب:
((رفع الستر عن كيفية إدخال الميت وتوجيهه إلى القبلة في القبر))
وأرتبها على مقصدين:
الأول في الثانية(2)، والثاني في الأولى(3)، وأختمها بخاتمة حسنة راجيا من الله تعالى حسن الخاتمة.
- المقصد الأول -
في كيفية إدخال الميت في القبر
مخ ۹
وبيان اختلاف المذاهب والأدلة فيه فأقول: اختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب على ما ذكره شراح ((الهداية))(1)، و((المنية))(2)، وغيرهما :
- الأول -
مذهب الحنفية:
وهو أن توضع(3) الجنازة على شفي القبر
مخ ۱۰
من جانب القبلة ويؤخذ الميت منه لأن جانب القبلة معظم، فيستحب الإدخال منه. وإليه ذهب علي رضي الله عنه، وابنه محمد بن الحنفية(1)، وإبراهيم النخعي(2)، وإسحاق ابن راهوية(1)، وابن حبيب(2)، وأكثر أصحاب مالك.
ويشهد لذلك كثير من الأخبار والآثار:
مخ ۱۲
فأخرج الترمذي في ((جامعه))، والطحاوي(1)، وأبو نعيم(2) في ((حلية الأولياء)): بسند فيه الحجاج بن أرطأة عن عطاء عن ابن عباس، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبرا ليلا(3)، فأسرج له سراجا، فأخذ الميت من قبل القبلة، وقال: (رحمك الله إن كنت (2لأوابا(4) تلاء للقرآن)، وكبر عليه أربعا(5).
مخ ۱۳
قال الترمذي(1): حديث حسن(2).
وأنكر عليه النووي(3) في حكم الحسن؛ بأن الحجاج بن أرطاة(4) ضعيف باتفاق أهل الحديث(5).
مخ ۱۴
وهذا عجيب من النووي، وقد قال ابن معين(1): إن الحجاج(2) صدوق مدلس(3).
وقال ابن عدي(4): إنما عاب الناس تدليسه عن الزهري(5)، وغيره، أما أن يتعمد الكذب فلا(6).
مخ ۱۵
وقال الخطيب(1): هو أحد العلماء الحفاظ(2).
وهذا كله تعديلا له.
والشاهد العدل له رواية أبو داود، والترمذي، والنسائي، ومسلم أحاديثه.
وبالجملة هو ليس ممن ينحط حديثه عن درجة الحسن.
وأخرج أبو نعيم في ((حلية الأولياء)): والجلال(3) في ((جامعه)) بسندهما عن عبد الله بن مسعود، قال: ولله لكأنى أرى(4) رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة تبوك، وهو في قبر عبد الله ذي البجادين، وأبو بكر وعمر، يقول لهما: (أدنيا مني أخاكما، وأخذه من قبل القبلة، وأسنده في لحده، ثم خرج، فلما فرغ من دفنه استقبل القبلة رافعا يديه(5)، يقول: اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه، وكان ذلك في الليل).
قال ابن مسعود: فوالله لقد رأيتني، ولوددت أني كنت مكانه، وأسلمت قبله بخمسة عشر سنة(6).
مخ ۱۶
وفي رواية لأبي نعيم عنه: قمت من جوف الليل، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فاتبعتها فإذا عبد الله ذو البجادين، قد مات ورسول الله وأبو بكر، وعمر يدفنونه فلما فرغ، قال: (اللهم إني أمسيت عنه راضيا، فارض عنه).
قال ابن مسعود يا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة(1).
وأخرج الحافظ أبو بكر الشيرازي(2) في ((الألقاب)): أخبرنا أبو الفضل أحمد بن محمد بن حمدون، أنبأنا أبو محمد بن حمدون بن عبدان الهمداني، حدثنا محمد بن عبيد الهمداني، حدثنا القاسم بن الحكم، حدثنا عمرو بن شمر، عن الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن ابن مسعود، قال: والله إني أرى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة تبوك إذ رفع لنا سمع من قبل منزله، فانتهيت إليه، وهو في قبر عبد الله ذي البجادين، هو وأبو بكر وعمر، والله لكأني أسمعه يقول: أدنيا منى أخاكما، أخذه من قبل القبلة، ثم قال: (اللهم إني أمسيت راضيا عنه فارض عنه).
قال ابن مسعود: فلقد رأيتني، وإني لأتمنى أن أكون مكانه.
مخ ۱۷
قال الشيرازي: بعد روايته هذا حديث غريب من حديث عمرو بن شمر(1) عن الأعمش.
وقال الحافظ جلال الدين السيوطي(2) في كتابه: ((مسامرة الشموع في ضوء الشموع)): عمرو بن شمر، وإن كان ضعيفا إلا أن أصل الحديث ثابت من طرق أخرى:
منها: طريق: سعد بن الصلت، أخرجه أبو نعيم(3).
ومنها: طريق: محمد بن إبراهيم، أخرجه أبو نعيم(4) أيضا بطريق آخر.
مخ ۱۸
قال الطبراني(5) : حدثنا علي بن عبد العزيز ، ومحمد بن النضر الأزدي، قالا: حدثنا ابن الأصبهاني، حدثنا يحيى بن يمان، عن المنهال بن خليفة، عن الحجاج بن أرطاة، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: (دخل رسول الله قبر عبد الله ذي البجادين ليلا...)الحديث(1).
وأخرجه ابن مردوية(2) في ((تفسيره)): من طريق عبد الله بن حرب الليثي، ويحيى بن عبد الحميد كلاهما، عن يحيى بن يمان، به.
مخ ۱۹
وأخرجه البيهقي(1) في ((سننه)) من طريق الهيثم بن سهل القشيري، عن يحيى ابن يمان، به.
وورد أيضا من حديث جابر، أخرجه ابن مردوية.
فهذه طرق متعددة تقتضي(2) ثبوت الحديث غير أن لفظة الشمع، لم يرد إلا في الطريق الأول. انتهى كلام السيوطي.
قلت: رواية أبي نعيم(3): (فرأيت شعلة من نار) أيضا، تؤيد رواية: الشمع، والعلم عند الله تعالى.
وأخرج ابن أبي شيبة(4) في ((مصنفه)) عن عمير بن سعد: أن عليا صلى على يزيد بن المكفف: فكبر أربعا، وأدخله من قبل القبلة(5).
مخ ۲۰
وأخرج أيضا(1) عن محمد بن الحنفية: أنه ولي ابن عباس، فكبر عليه أربعا، وأدخله من قبل القبلة(2).
وأخرج أبو داود في ((المراسيل)) عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم(3): أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أدخل من قبل القبلة، ولم يسل سلا)(4).
مخ ۲۱
وذكره الحافظ عبد الحق(1) في ((أحكامه))، وقال فيه: عن إبراهيم التيمي(2)، وغلطه ابن القطان(3) في ((كتابه))، فقال: ليس هو التيمي، بل هو إبراهيم النخعي، ولعل الذي أوقعه في ذلك اشتراكهما في الاسم، واسم الأب. انتهى(4).
مخ ۲۲
قال الإمام الزيلعي(5) في ((تخريج أحاديث الهداية))(6): قلت: صرح به ابن أبي شيبة في ((مصنفه))(1)، فقال: عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم
النخعي، فذكره، وزاد: (ورفع قبره حتى يعرف).
وأخرج ابن ماجة في ((سننه)) عن أبي سعيد الخدري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم أخذ من قبل القبلة، واستقبل استقبالا)(2).
وأخرج ابن عدي في ((الكامل))(3)، والعقيلي(4) في ((الضعفاء))(5): عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أخذ من قبل القبلة، ولحد له، ونصب عليه اللبن نصبا). انتهى كلام الزيلعي رحمه الله(6).
فإن قلت: نقل البيهقي عن الشافعي أنه قال ردا على هذه الأخبار: لا يتصور إدخال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من جهة القبلة؛ لأن القبر في أصل الحائط، فما الجواب عنه؟
مخ ۲۳
قلت: هذا عجيب، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يتوف ملصقا مع الجدار ، بل مستندا إلى عائشة على ما دلت به أخبار الصحيحين(1)، وهو يقتضي كونه متباعدا عن أصل الجدار.
ومن المعلوم أن قبره عليه الصلاة والسلام كان لحدا، فغاية الأمر أن يكون موضع اللحد ملصقا إلى أصل الجدار، وليس الإدخال من جهة القبلة إلا بوضع الجنازة على سقف اللحد.
فالقول بعدم إمكان ذلك ليس كما ينبغي.
* * *
- المذهب الثاني -
مذهب الشافعي(2)، وأحمد بن حنبل(3)، ومن تبعهما:
وهو أن الميت يسل سلا.
مخ ۲۴
وكيفيته المروية عنهم: أن توضع(1) الجنازة في مؤخر القبر حتى يكون رأس الميت بإزاء موضع قدميه من القبر، ويسل هناك سلا رفيقا كسل السيف، لا ما ذكره شمس الأئمة(2) الحلواني(3): من أنه توضع(4) الجنازة في مقدم القبر بحيث يكون رجلا الميت بإزاء رأسه في القبر، وينزع من هناك.
واستدلوا عليه بأن هذا النحو من الإدخال أسهل على الميت، وعلى الأخذ أيضا، بخلاف النحو السابق للإدخال، والسهولة في هذا المقام مطلوبة، وقد شهدت له بعض الأخبار والآثار أيضا:
مخ ۲۵
فأخرج الشافعي في ((مسنده)) بإسناده عن ابن عباس، وعمران بن موسى رضي الله عنهم، وأبي الزناد(1)، وربيعة(2)، وأبي النضر: أنهم قالوا: (سل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قبل رأسه سلا)(3)، وكذلك أبو بكر وعمر.
وأخرجها البيهقي من طريق الشافعي، وقال: هذا هو المشهور فيما بين أهل الحجاز. انتهى.
وأخرج ابن ماجه في ((سننه)): عن أبي رافع، قال: (سل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سعدا، ورش عليه ماء)(4).
وأخرج أبو داود عن أبي إسحاق، قال: أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد، فصلى عليه، ثم أدخله من قبل رجلي القبر، وقال هذا من السنة(5).
وأخرجه البيهقي أيضا، وقال: إسناده صحيح، وهو كالمسند؛ لقوله من السنة .انتهى(6).
وهاهنا بعض أخبار تشهد للسل بالمعنى الذي ذكره الحلواني:
مخ ۲۶
فأخرج أبو حفص عمر بن شاهين(1) في ((كتاب الجنائز)) عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (يدخل الميت من قبل رجليه، ويسل سلا).
وأخرج ابن أبي شيبة(2) عن ابن سيرين(3)، قال: كنت مع أنس في جنازة فأمر بالميت، فأدخل من قبل رجليه.
وأخرج أيضا(4): عن ابن عمر أنه أدخل ميتا من قبل رجليه.
- الثالث -
التخيير بين الإدخال من جانب القبلة وبين السل
وإليه ذهب مالك، والظاهرية(5).
والتحقيق في هذا المقام أن مذهبنا أدق نظرا، وأحسن سرا؛ لأن الأخبار القولية والفعلية في هذا الباب متعارضة، وكذا الأخبار الواردة في إدخال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ما مر ذكرها.
فلما تعارضت الأخبار صرنا إلى الترجيح، فوجدنا أن مذهبنا هو المرجح؛ لما ذكرنا من أن جانب القبلة معظم فيستحب الإدخال منه.
وما ذكره الشافعية من أن السل أسهل.
فجوابه أن اعتبار الأمر الشرعي أولى من اعتبار السهولة كما لا يخفى.
مخ ۲۷
وما ذهب إليه مالك من التخيير، فإن أراد به إباحة كلا الأمرين، فخارج عن محل النزاع؛ لأن النزاع، إنما هو في الاستحباب، ولا خلاف لأحد في جواز كلا الأمرين، وإن أراد به التخيير في الاستحباب، فغير مقبول، لما ذكرنا.
هذا ما حضر عندي في ترجيح مذهب الحنفية من المذاهب الثلاثة في هذا المقام.
وقال الحافظ بدر الدين العيني(1) في ((شرح الهداية)): أحاديث السل غير صحيحة، ولئن سلمنا فالجواب عنها من وجوه:
الأول: أن ما رواه الخصم، إما فعل الصحابة، أو قوله.
وما رويناه فعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والثاني: في أنه يحتمل أن يكون ما رواه فعل خوفا من رخوة الأرض.
والثالث: أنه لم يكن من جهة القبلة ما يسع فيه جنازة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. انتهى كلامه(2).
قلت: العجب عنه أنه مع جلالة قدره، واستنكافه عن تبعية شراح ((الهداية)) الذين مضوا قبله، قد تبعهم في هذا المقام، ولم ينظر ما في هذه الوجوه من السخافة.
أما الأول: فلثبوت السل عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في رواية ابن ماجه(3).
مخ ۲۸