80

فسلمت إليه رسالة أخرى صغيرة، وهي تقول: هاك رسالة أخرى ادفع بها إلى الحاكم آني يمهد لك السبيل، ويدلك على أول قافلة تقوم.

ثم حم الوداع، فازدرد ريقه واضطرب، وبدا عليه الارتباك والهيام، فمدت له يدها، فتردد لحظة، ثم وضعها بين يديه، وكفاه يرتعشان كأنما يلمس نارا موقدة، ثم ضمها إلى صدره حتى سرت إليها حرارته وخفقاته، ثم مضى راجعا فغيبه الباب، وقد شيعته بنظرة حائرة، ولسان يلهج بالدعاء الحار.

كيف لا، وقد ربط على قلبه أملا تتعلق به حياتها؟

طاهو يهذي

وكان الانتظار مرا من أول عهدها به؛ لأنه كان لا يفتأ يهتف بها هاتف رجاء يقول بحسرة: ليت الملك لم يفش سر الرسالة لإنسان. كانت تتمنى هذا بحرقة لم يخفف من لوعتها ما أبدى الملك من ثقة عظيمة برجليه المقربين. ولم تكن وساوسها ريبة صريحة، ولكن ثمة قلق دفعها إلى التساؤل: ترى ماذا يحدث لو سعى ساع بفحوى الرسالة إلى رجال الكهنوت؟ هل يترددون في الدفاع عن أنفسهم إزاء هذا الشر المبيت؟ .. رباه! .. إن إفشاء سر الرسالة أمر خطير .. لا يجرؤ على إدراك كنه خطورته عقل وطني. وأحست بقشعريرة تسري في جسمها الرقيق، وهزت رأسها بعنف تطرد عن مخيلتها أوهام الوساوس، وهمست لضميرها تسكته قائلة: إن كل شيء يسير وفق الخطة التي رسمناها، وليس من داع إلى إثارة هذه المخاوف، وما هذه الأوهام المرتعبة إلا وساوس قلب مغرم لا يهدأ ولا ينام.

على أنها كانت لا تكاد تطمئن حتى يحوم خيالها مرة أخرى حول هاتيك المخاوف، وتخال أنها ترى وجه طاهو الغاضب المتقلص من الألم، وأنها تسمع صوته الأجش ذا النبرات المتألمة المجروحة. وقد عانت من مخاوفها الآلام، ولكنها لم تجسر على تفسيرها أو إزالة الغموض الذي يكتنفها.

ترى هل يحق لها أن تخشى طاهو أو أن تسيء به الظن؟ .. إن كل الدلائل تدل على أنه نسي، ولكن هل كان بوسعه أن يفعل شيئا وامتنع عنه طواعية؟ فما كان يستطيع أن يطرق بابها بعد أن أصبح حرما محرما، وما كان بوسعه إلا الإذعان والتسليم، ولا يعني هذا أنه نسي أو برأ.

ترى هل يبقى شيء من زوايا الماضي عالقا بقلبه؟ .. إن طاهو جبار عنيد، وقد يستحيل الحب في قلبه حقدا موريا، فيتحفز عند سنوح الفرصة للانتقام .. على أنها لم تنس في أحزانها أن تنصف طاهو، وأن تذكر له إخلاصه وتفانيه في حب مولاه، وأنه رجل الواجب الذي لا يحيد به عن سبيله نزوع ولا مطمع.

كان كل شيء يدعو إلى الطمأنينة، ولكن وساوسها لم تدعها في طمأنينتها قط، وكان الرسول برح قصرها منذ ساعات قلائل فقط، فكيف لها بالانتظار شهرا أو يزيد؟ .. لقد لحقها الفزع، وخطر لها خاطر غريب أن تدعو طاهو إلى مقابلتها. وكان خاطرا لا يخطر لها على بال قبل يوم، أما اليوم فقد وجدت به راحة وإليه رغبة. وكان يدفعها إليه ما يدفع الإنسان إلى احتضان خطر يتقيه ولا يجد سبيلا إلى دفعه أو الإفلات منه، وفكرت في ذلك تفكيرا مضطربا، وقالت لنفسها: فلأدعه ولأحادثه لاستبطان ذاته، وعسى أن أفوز بدفع شره - إن كان هناك شر يدفع - فأنقذه من نفسه، وأنقذ مولاي من شره، وما لبثت رغبتها أن تحولت إلى عزيمة لا تقبل التردد، فاستمسكت بها بكل ما أوتيت من قوة وقلق .. ودعت من فورها شيث وأمرتها بالذهاب إلى قصر القائد طاهو واستدعائه. وذهبت شيث وانتظرت هي في بهو استقبالها على قلق؛ ولم يكن يداخلها ريب في تلبيته لدعوتها. وذكرت في انتظارها اضطرابها، وقرنت به ما كانت عليه من القوة والبرود في الأيام الخوالي، فأدركت أنها منذ الساعة التي نزل فيها الحب بقلبها، انقلبت امرأة ضعيفة قلقة، يطرد النوم عن عينيها وهم ساخر، أو قلق كاذب.

وجاء طاهو كما توقعت، وكان مرتديا لباسه الرسمي، فوجدت في ذلك معنى مطمئنا، فكأنه يقول لها إنه نسي رادوبيس غانية القصر الأبيض، وإنه يحظى الآن بمقابلة صديقة مولاه فرعون.

ناپیژندل شوی مخ