ولوحت لهم بيدها البضة وولتهم ظهرها، وغادرت المكان على عجل.
وصعدت إلى مخدعها مسرورة لما فعلت، سعيدة بخلاصها تلك الليلة، وما تزال تطن بأذنيها تأوهات القوم الحارة .. وشخصت إلى النافذة رأسا وأزاحت عنها الستارة، ونظرت إلى الطريق المظلم، فرأت على البعد أشباح عجلات وهوادج تحمل النشاوى البائين بالحسرة والخذلان، فلذ لها منظرهم وارتسمت على شفتيها ابتسامة ساخرة قاسية.
كيف فعلت ما فعلت؟ .. لا تدري! ولكنها تشعر باضطراب وقلق.
واها .. ماذا وراء هذه الحياة الراتبة؟ لقد حارها الجواب، ولم يرو غلتها الحكيم هوف نفسه، ثم استلقت على سريرها الوثير، واستسلمت للأحلام، فمرت بصفحة خيالها حوادث اليوم العجيبة واحدة في أثر الأخرى؛ فرأت جموع المصريين المحتشدة .. ورأت عيني الساحرة المتقدتين اللتين جذبتاها إليها بقوة قاهرة، وسمعت صوتها البشع الذي يبعث الرعشة في المفاصل .. ثم شاهدت فرعون الشاب في هالة المجد والجمال، ثم ذلك النسر الهصور الذي انقض على فردة صندلها وطار بها إلى السماء. حقا كان يوما حافلا. ولعل هذا أيقظ عواطفها، وشرد خيالها، ووزع نفسها أشتاتا، مما ذهب ضحية له العشاق البائسون. إن قلبها يخفق خفقانا شديدا، ونفسها تضطرم بلهيب غامض، وخيالها يتيه بها في وديان غريبة. وكأنها تود أن تنتقل من حال إلى حال، ولكن أي حال هذه؟! إنها حيرى لا تدري شيئا، فهل يكون ما بها نفثة سحر أصابتها بها تلك الساحرة الملعونة؟!
إن ما بها لسحر مبين، فإن لم يكن سحر ساحر، فهو سحر الأقدار المسيطرة على المصائر.
طاهو
كانت قلقة مبلبلة موزعة النفس، فيئست من النوم، وغادرت السرير مرة أخرى، ودلفت إلى نافذة تطل على الحديقة، وفتحتها على مصراعيها، ووقفت وراءها كالتمثال، ثم حلت عقدة شعرها، فانساب في خصلات مرتعشة على عنقها ومنكبيها، ولفح جلبابها الأبيض بسواد عميق، وملأت رئتيها بهواء الليل الرطب، ثم وضعت مرفقيها على حافة النافذة، وأسندت ذقنها إلى كفيها، وتاهت عيناها في الفضاء الشامل للحديقة، والنيل الجاري وراءها. كانت ليلة ظلماء معتدلة الجو، يهب نسيمها متقطعا خفيفا ضعيفا فيراقص الغصون والأوراق رقصا رحيما رقيقا، وكان النيل يرى عن بعد كقطعة من الظلماء. أما السماء فمزدانة بالنجوم اللوامع، ترسل شعاعا باهتا ما إن يقترب من الأرض حتى يغرق في بحار الظلمة.
هل يستطيع الليل المظلم والسكون المطبق أن يلقيا على رأسها القلق ظلا من السكينة والطمأنينة؟ هيهات .. وبلغ بها اليأس من الطمأنينة منتهاه، فأتت بوسادة ووضعتها على حافة النافذة، وأسلمت إليها خدها الأيمن، وأغمضت عينيها.
وطرقت ذاكرتها بغتة عبارة الفيلسوف هوف: «فالجميع يشكو، وما من فائدة ترجى من التغيير، فاقنعي بما قسم لك.» وتنهدت من أعماق قلبها، وتساءلت في حزن .. أما من فائدة ترجى من التغيير حقا؟ .. أحقا أن الشكوى تلاحق الإنسان أبدا؟ .. ولكن كيف تستطيع أن تؤمن بهذا إيمانا صادقا يصرف قلبها عن طلب التغيير؟ إن ما بقلبها ثورة جامحة، تود لو تدمر بها حاضرها وماضيها، وتفر خالصة إلى آفاق غامضة مجهولة، فكيف تجد الراحة والقناعة؟ إنها تحلم بحالة تبطل فيها الشكوى، ولكنها جزعة برمة بكل شيء.
ولم تترك لأفكارها وأحلامها، إذ سمعت طرقا خفيفا على باب مخدعها، فأرهفت أذنيها دهشة، ونادت قائلة وهي ترفع رأسها: من؟
ناپیژندل شوی مخ