فلثم الشاب يدها، وقام واقفا، وغادر الحجرة.
ودخلت شيث على الأثر، وكانت رادوبيس تهم بترك مجلسها، فلما رأت الجارية ابتدرتها قائلة لتتخلص منها: إلي بإبريق من الجعة.
فذهبت الجارية إلى القصر، وكان بنامون قد اتجه إلى البركة واطمأن إلى مقعد على حافتها، وكان في تلك الساعة يشعر بالسعادة والغبطة، ويدني إليه الأمل غايته في أن يذهب بمعبودته إلى أمبوس بعيدا عن الشقاء المخيم على آبو فتخلص له، ويسكن إليها، ودعا الآلهة أن تهبط إليها في وحدتها وتلهمها الرأي السديد والحل السعيد.
ولم يطق الجلوس طويلا، فقام يسير الهوينى حول البركة، ولما أتم دورته رأى شيث تحمل إبريقا، وتتجه بسرعة إلى الحجرة، فتبعها بعينيه حتى غيبها الباب، وأراد أن يعاود الجلوس مرة أخرى، ولكنه لم يكد يفعل حتى سمع صرخة مدوية آتية من داخل الحجرة فانتفض واقفا، وقد انخلع قلبه في صدره، واندفع جريا إلى مصدرها، فرأى في وسط الحجرة رادوبيس ملقاة على الأرض، والجارية تجثو على ركبتيها إلى جانبها وتنكب عليها تناديها، وتجس خديها وكفيها .. فهرع إليها بساقين مرتجفتين، وقد اتسعت عيناه ولاح فيهما الهلع والفزع، وجثا إلى جانب شيث وأمسك بكف رادوبيس بين كفيه، فشعر ببرودتهما، وكانت كالنائمة، إلا أن وجهها شاحب تمازجه زرقة خفيفة، وقد انفرجت شفتاها الباهتتان وبعثرت خصلات شعرها الأسود على صدرها ومنكبيها، وانسابت ضفائر منه على البساط، فأحس بجفاف حلقه واختناق أنفاسه، وسأل الجارية بصوت مبحوح: ماذا بها يا شيث .. لماذا لا تجيب؟
فأجابت المرأة بصوت كالعويل: لا أدري يا سيدي؛ فلقد وجدتها عند دخولي الحجرة كما تراها الآن، فناديتها فلم تجب، وأسرعت إليها أهزها فلم تنتبه، ولم تبد عليها اليقظة، أواه يا مولاتي! .. ما لك؟ ما الذي اعتورك فحولك إلى ما أرى؟
ولم ينبس بنامون بكلمة، وجعل يطيل النظر إلى المرأة الملقاة في سكون رهيب، وإن عينيه لتدوران فيما حولها إذ عثرتا تحت مرفقها الأيمن بالقارورة الجهنمية منزوعة السدادة، فشهق شهقة عنيفة، والتقطها بأصابعه المرتعدة، فلم يجد بها إلا آثارا لاصقة بباطنها، وردد بصره بين القارورة ووجه المرأة فتبين له الحق، وسرت في جسمه النحيل رجفة مزقت جوارحه، فأن أنينا موجعا لفت إليه الجارية، وقال بصوت فزع: يا للهول! .. يا للرعب!
فصوبت إليه الجارية عينيها، وسألته بلهفة وذعر: ماذا يهولك ويرعبك؟ .. تكلم فإني أكاد أجن من الحيرة!
ولكنه لم يأبه لها، وقال يحادث رادوبيس، وكأنها تسمعه وتبصره: لماذا انتحرت .. لماذا انتحرت يا مولاتي؟
فصرخت شيث ودقت صدرها بيديها، وقالت: ماذا تقول؟ كيف علمت أنها انتحرت يا هذا؟
فرمى القارورة بعنف، فاصطدمت بالحائط وتحطمت، ثم قال بذهول وحيرة: لماذا أزهقت نفسك بهذا السم؟ .. ألم تعديني بأن تفكري جديا في اصطحابي إلى أمبوس بعيدا عن أحزان الجنوب؟ .. أكنت تخدعينني ريثما تزهقين روحك؟
ناپیژندل شوی مخ