فلزم الرجل الصمت، على حين راح وهو يشعر بغزو ثقل جديد ينقض على منكبيه وسائر جسمه، ونما الثقل وتصاعد حتى خيل إليه أن قدميه ستغوصان في الأرض، واشتدت وطأته حتى لم تعد تحتمل الصبر، وباندفاعة عفوية خلع حذاءه، ومضت الوطأة في صعود فنزع جاكتته وبنطلونه وطرحهما أرضا، ولم يحدث ذلك أثرا يذكر، فتخلص من ملابسه الداخلية غير مبال برطوبة الخريف، غير أن الألم ألهبه، فلم يجد بدا من ترك الحقيبة تهوي إلى الأرض وهو يتأوه ... عند ذاك خيل إليه أنه استعاد توازنه وأنه يستطيع أن يتابع الخطوات المتبقية، وانتظر أن يفعل صاحبه شيئا، ولكنه غرق في الصمت، وأراد أن يحاوره فامتنع عليه الحوار، وتسلل الصمت الشامل من مسامه إلى صميم قلبه، وخيل إليه أنه سيسمع بعد قليل الحوار الدائر بين النجوم.
رأيت فيما يرى النائم
الحلم رقم 1
رأيت فيما يرى النائم.
أنني راقد، أنني نائم أيضا، ولكن وعيي يرامق الظلام المحيط ... وثمة أنثى أقبلت يند عنها حفيف ثوب، والحجرة ما الحجرة؟ أهي حجرتي الراهنة أم أخرى آوتني فيما سلف من الزمان؟ ويتهادى الوجه إلى حسي رغم الظلام باستدارته الناعمة وسمرته الصافية ورنوته الناعسة، نسق تسريحتها عصري ... أما ثوبها فقديم يجر ذيلا مثل سحابة رشيقة، وهمس صوت لم أر قائله: للزمن نصل حاد وحاشية رقيقة.
وركعت في استسلام وانهمكت في عمل، ثبتت عليها عيناي، ولكني لم أنبس بكلمة ... وحدست وراء انهماكها غاية دانية، وقال الصوت: الأنفاس العطرة تصدر عن قلب طيب.
وانتظرت حتى جمعت أدواتها ونهضت في رشاقة، ومضت نحو الخارج ... شدتني بخيوط خفية لا تنقصف، فانزلقت من الفراش وتبعتها، وهيمن علي شعور بأنني مدعو لأمر ما، وأنني لن أحيد عن التطلع إلى الأمام ... تمضي متأودة كأنها ترقص باعثة وراءها بنسائم من الذكريات، تعرف طريقها في الليل وأهتدي أنا بشبحها، ومررت بأشياء وأشياء ولكني أنسيتها فتوارت مثل شرر متطاير. وعند موضع عبق بشذا الحناء فصل بيننا قطار سريع طويل رج الأرض ومن عليها ... وبذهاب ضجيجه استوى الليل أمامي وحده فضاعفت من سرعتي، وأطبق الليل وحده واختلجت فيه الوعود المضمخة بشذا الحناء ... لم يعد في وسعي التراجع، وليس معي من الحوافز إلا الظمأ والشوق.
الحلم رقم 2
رأيت فيما يرى النائم.
حبة رمل ملقاة بين جذور أشجار في مكان لعله غابة، جذبت انتباهي واستحوذت عليه ببريقها، وبما أوحته إلي من أنها تراني كما أراها ... وقلقت في موضعها فلم أشك في أنها مقبلة على مغامرة، وأثارت حب استطلاعي إلى أقصى حد، ومضت تنتفخ رويدا حتى آلت إلى كرة مغطاة بزوائد مثل أوراق الورد، مرقوم على صفحاتها كلمات لم أتبينها ... ووثبت كأنما قذفتها قوة في الفضاء مقدار أشبار، وتهاوت مرتطمة بالأرض محدثة صوتا قويا استرسل صداه فيما يشبه النغم، وتمادت في الانتفاخ حتى صارت في حجم قبة ضخمة ثم انطلق منها عمود عملاق بسرعة مخيفة زلزلت لها الأشجار الفارعة حتى تلاطمت ذراها مع حشائش الأرض، وانبثقت من العمود فروع لا حصر لها غاصت في الفضاء، وانبسطت أوراقها كالزواحف مثقلة بآلاف الكلمات المبهمة، وركبني الارتياع فعدوت بأقصى ما لدي من سرعة مبتعدا عن مركزها المتفجر، عدوت منها، ولكني عدوت في مجالها وحضنها وقبضتها، فلا منفذ للهرب ولا صبر على التوقف أو الاستسلام ... والفورة محدودة وسطح الأرض معاند والرياح على غير ما أشتهي، واستوى في شعوري البعد والقرب إزاء تلك الكينونة المتمادية في التعملق بلا نهاية. إن صوت نموها الهائل يدوي، وظلها يغشى الأشياء كالليل، وردة فعلها تعبث بالكائنات، وأطراف قبضتها تنحدر فيما وراء الأفق، وتبين لي أنني لست الوحيد في المأزق، وأن ملايين يلهثون من العدو، وأن السحب تركض أيضا والرياح وأضواء النجوم، وارتفع صوت قائلا: رفهوا عن أنفسكم بالغناء.
ناپیژندل شوی مخ