ولم يكن حي من أحياء القاهرة تخلو رقاعه الكبيرة من بيت «ست أم الأفندي»، وبيت «ست أم الأفندي» هذا كان شرعة الرائدات ومثابة القاصدات، إليه يحج نساء الحي، وله يطلبن لا يرحل الناس إلا نحو حجرته، كالبيت يفضي إليه ملتقى السبل وكان لسائر البيوت الصوى والمنار، فإذا استخبرت سيدة عن أحد المنازل، دلتها صاحبتها عليه ببيت «ست أم الأفندي»، فتقول لها مثلا: اجعلي بيت «ست أم الأفندي» على يمينك، ثم انعطفي في أول زقاق على يسارك وعدي من اليسار بيتين، الثالث هو البيت الذي تطلبين.
ولقد كان هناك أيضا بيت «ست أم البك» على أن هذه البيوت كانت نادرة جدا، بحيث لا يقع في الحي كله إلا اثنان منها أو ثلاثة على الأكثر.
وكيفما كان الأمر فإنني أرجو ألا يميل بك الظن إلى أن «ست أم البك» كنيت بذلك؛ لأن ابنها «البك» موظف في الحكومة كشأن «ست أم الأفندي»، العفو! العفو! وهل كان يبلغ الموظف مرتبة «البكوية» في الحكومة وأمه لا تزال على ظهر هذه الأرض؟ بحسبه أن يسعى سعادته سعي الأحياء، وإن ضربته السنون بمائتي داء! «فست أم البك» إذن لم تكن أم موظف، ولكن كانت في الغالب مرضعا لولد من أولاد الذوات! ولكي تزداد علما بموضع كلمة «أفندي» من جمهرة الشعب، أذكر لك ما روي لي من أنه من نحو خمسين سنة، أراد بعضهم أن ينشئ في حي الحسين - رضي الله عنه - «قهوة» فخمة عصرية «مودرن»، تليق بمجالس الخاصة والمترفين من الناس، فلم يجد أكرم ولا أعظم ولا أفخم من أن يدعوها ويكتب على جبينها بالخط الطويل العريض الجميل «قهوة أفندية!»
وبعد، فذلك بعض العز الذي ناله لقب «أفندي» في الزمان الطويل، أما الآن فكفاك الله شر الهوان، وعصمك من الاستكانة بعد السلطان، وحفظ مجدك من غدر الزمان!
أفندي! وهل أصبح يطيقها موظف أو طالب أو فتى يعيش بفضل إرث أو شاب تجري عليه وظيفة من وقف؟ فإذا دعوت أحدهم «بالأفندي» تجهم لك، وانعقد ما بين عينيه ألما وغضبا، وربما ابتدرك من القول أو الإشارة بما يسوءك، فإذا هو قبلها منك لشأنك ولموضعك، فهو إنما يتجرع ولا يكاد يسيغ!
ولقد أضحى الجميع يتداعون بلقب «البك»، صغارهم وكبارهم في هذا بدرجة سواء! ولا بأس بهذا وليكن شأننا فيه شأن إخواننا الأتراك.
بقيت «الأفندي» التي ذلت في هذا العصر وهانت ولم يبق لها من أمل تعيش عليه إلا في جماعات الحجاب والسعادة في الدواوين، فهم الذين يرضونها ويطمئنون بها، ويستريحون إليها دون سائر المطربشين.
أستغفر الله! فلقد نسيت عسكري الدورية، وهل يستطيع حوذي من أي صنف، أو بائع من هؤلاء المترفقين بأبدانهم، أو نحو هذين ممن يرهبون سطوة جندي النوبة أو يدعوه بيا عسكري، أو يا جاويش، إنهم جميعا ليدعونه «بيا أفندي» وكثيرا ما تكون هذه الدعوة المحببة سببا في الإغضاء، أو التلطف في القضاء!
أرأيت كيف صحت العبارة العامية في هذه الكلمة: «يقطع من هنا ويوصل من هنا!»
ولا أرى قبل أن أختم هذه الكلمة بدا من الإشارة إلى كلمة أخرى، بعثها السعد من الأرض وعلا بها على السحاب، فأضحت لأجل أصحاب المناصب أجل الألقاب.
ناپیژندل شوی مخ