إذن فلا مفر من الفرار ولا من صفارات الإنذار وطلب السلامة للأعصاب من كل هذه الأوصاب، وأين لعمري يلتمس الفزع والملجأ الحصين إلا في ريف مصر الجميل الأمين؟
وإذا كان أصحاب الأعمال في المدن لا يستطيعون أن يتركوا أعمالهم، فلا أقل من أن ينزح آباؤهم وأمهاتهم وزوجاتهم وأولادهم، فلا تنالهم في الغالب الغارات، ولا تؤذيهم النذر بالغارات، وبعض الشر أهون من بعض.
وكذلك أشخص من أحملهم من الأهل والولد إلى الريف، يتقدمهم ما يحتاجون إليه في عيشهم الجديد من المتاع والعتاد.
ويشاء الله الكريم ألا تضيق صدورهم بالوحدة، ففي مكان قريب أهل وأصهار وأولياء كرام، كما شاء الله - تعالى - ألا يستوحشوا إذا جن الليل عليهم، فالريف ينام من العشاء الأولى، فأنسهم بالراديو يغنيهم ويفاكهم ويحاضرهم ويسامرهم، وينبئهم مختلف الأنباء، فالقرية على دقة جرمها وقلة سكانها تستصبح لحسن الحظ بالكهرباء، يبعثها «وابور» كبير أقامه المجلس القروري هناك، فالحمد لله الذي قرن ما أجرى من القضاء بلطفه، وأردف ما قدر من البلاء بكرمه وعطفه، وصدق المثل العامي القائل: «قبل ما يبلي يدبر!»
ولا بد لي من أن أراهم وأشهد مثواهم، وأشركهم في عيشهم الطريف ولو حينا بعد حين، وأتوكل على الله فأشد الرحال إليهم، لا بل أستقل من القاهرة القطار السريع، وبعد جري غير طويل أنقلب إلى القطار البطيء، وسواء أكنت في هذا أم في هذا، فلقد كان شغل عيني وشغل نفسي طول الطريق هذه السيارات الكبيرة والصغيرة التي تقل المهاجرين من المياسير وغير المياسير، وسيارات النقل الكبيرة تحمل أمتعة النازحين، بل عربات «الكارو» يجرها جواد، وقد يجرها حمار لا يعلم إلا الله مبلغ جهده في هذا السفر الطويل الثقيل!
أما إذا كان هذا الحمار عاشقا قد شفه الوجد وبراه طول القلى والصد، فقد أولاه المبيت في العراء خير ما يسعد العاشق المهجور على بلواه، ويبرد من حرقة جواه بمناجاة النجم الساهر، وشكوى صد الحبيب الغادر، فإذا تعذرت عليه رؤية الحبيب وقد قلى فهو ولا شك رأيته في صفحة البدر إذا تجلى، ولقد يحمل البدر رسالة الوله والشوق إلى الأتان، والبدر خير من يبلغ الرسالة ويؤدي الأمانة.
أليس في هذا بعض الفرجة من ذلك الضيق، والتلطيف من تلذيع سوط السائق طول الطريق؟
وكيفما كانت الحال فلقد يستطيع الشاعر أن يشبه السكة الزراعية بعقد وإن كان متلاحم الحبات، فإنه لم تنظمه يد جوهري صناع، فهذي لؤلؤة صغيرة إلى جانب خزفة كبيرة، وهذي حبة من ذهب تليها أخرى من خشب وسبحان مقسم الحظوظ والأرزاق!
وكيفما كان الأمر، فسرعان ما أحضرني هذا المشهد قول المتنبي - رحمة الله عليه:
وهجان على هجان تواتي
ناپیژندل شوی مخ