وهذه الحكاية - ولا ريب - ستذكرك حديث جمع السلاح في عهد السلطة، وقد أوردته عليك في «الثقافة» من بضعة أسابيع، وهذه وتلك إذا اختلفتا في الموضوع فكلتاهما تلتقيان في الدلالة على الأسلوب الذي يجري عليه حكام الأقاليم في تنفيذ المشروعات التي يراد بها الإصلاح من أي نوع كان، وهذا من شأنه حتما أن يزيد خلة سوء الثقة التي طبع عليها الفلاح المصري من الزمان البعيد!
ومن أغرب الحوادث التي صادفتني في هذا الباب أنني ذات عشية، وذلك من نحو اثني عشر عاما طلبت ميدان السيدة زينب - رضي الله عنها - لأستقل الترام إلى محطة مصر؛ إذ كنت أسكن في خط المطرية، فرأيت خلقا كثيرين ينتظرون وتبين أن الترام تعطل في بعض الطريق لأمر ما، وطال انتظار الناس وكلما تقدم الزمن كثر المنتظرون، وجعلوا ينتظمون جماعات يتحدثون في أمر الترام ثم في غير الترام، وفيما هم كذلك إذ يقبل اثنان من الفلاحين تضطرب أسنانهما بين الأربعين والخمسين، فيسأل أحدهما أول رجل من أول مجموعة يلقاها عن موقف الترام الشاخص إلى باب الحديد، فيدله عليه ويشير بيده إليه فيسأل من يليه السؤال نفسه فيجيبه بالجواب نفسه، ثم يسأل من يليه كذلك، فيكون الجواب بالضرورة كذلك، حتى إذا فرغ من سؤال هذه المجموعة فردا ففردا، تولى عنها وأقبل على غيرها يسألها هكذا وهكذا، وأنا في أثناء ذلك ألاحظه ودمي يغلي من الغيظ في عروقي، ورأيت من الخير أن أبعث الطمأنينة في نفسه ونفس صاحبه ، فأكسب الأجر في هداية السائل الضال من جهة، وأريح نفسي من شهود هذا الإلحاح الشنيع من جهة أخرى.
وتقدمت إلى الرجل وأخذت بيده، وجررته إلى الموضع الذي كنت أنتظر فيه، وقلت له: يا سيدي! أنا أيضا ذاهب إلى باب الحديد فاركب أنت وصاحبك معي، وسننزل في الميدان معا، ويشاء الله ويقبل الترام ويثب الناس إليه وثبا متسابقين في إحراز المجالس، ويثب الفلاحان كذلك، وصادف أن وقع مجلسهما في الدكة التي أمامي من المركبة مباشرة، ولم يكد يستقر بهما المقام حتى مال ذلك الرجل السآل إلى من على يمينه يقول له: صحيح ياخويا العربية دي رايحة باب الحديد؟ فيجيبه جاره: أن نعم ... فيمط عنقه إلى الجالس بجواره ويوجه إليه السؤال نفسه، فيبادره بالجواب نفسه، فينتقل بالمسألة إلى الدكة التي أمامه، حتى إذا قر الجالسين عليها بالسؤال واحدا فواحدا لم يرعني إلا محاولته التعلق بمتكأ الدكة التي أمامه ليبلغ رأسه التي أمامها، فجذبته من فضل عباءته وقلت له: يا رجل! ألم أقل لك: إنني أنا أيضا ماض إلى باب الحديد؟ فاطمئن وكن حيث أكون!
ووالذي بيده نفسي لقد كان جوابه الحاضر العاجل: «ومنين جاني إن ذمتك نضيفة؟»
ولقد يكون هذا الرجل غاليا مسرفا في سوء الظن بالعالم كله، ولكن هذه الخلة على أي حال شائعة في سواد الفلاحين المصريين.
وبعد، فيا أيها العاملون! إذا كنتم تبغون الإصلاح حقا، ولست أشك في أنكم تبغونه حقا، فعليكم أولا أن تقنعوا الفلاح على وجه خاص أنه ليس وحدة منفصلة مستقلة، بل إنه عضو من المجموع، شأن اليد أو الأذن أو الأنف من الجسم؛ يقوى بقوته ويضعف بضعفه، ويموت بموته، وينعم بنعيمه، ويشقى بشقائه، ويعز بعزه، ويذل بذله!
وعليكم ثانيا أن تشيعوا الطمأنينة في نفس الفلاح، وتردوا الثقة بالناس عليه فلا يعود ما يرى أحدا من الناس إلا قدر فيه عدوا يكذبه ويغشه، ويسعى جاهدا إلى المكر به والكيد له ما وجد إلى ذلك سبيلا!
وعليكم ثالثا أن تكونوا موضع الحكام من قلبه، فلا ينظر إليهم نظر الضحية للجزار، أو نظر الطير للصائد على تعبير الزعيم الأعظم - رحمة الله عليه - بل ينظر إليهم على أنهم كافلو أمنه، ومتعهدو رفاهيته ويسره، ومرشدوه إلى طرائق خيره ونفعه.
فهلم، جردوا الحملات من الدعاة القادرين، حتى يمتلخوا من صدور الفلاح ما غرست عهود الظلم والاستبداد، فإذا بلغتم هذا الذي فانتظروا من مساعيكم خير الثمار، والله تعالى نصير العاملين.
في الطفولة المشردة
ناپیژندل شوی مخ