وأخيرا، يظهر أن أولياء الغناء في مصر تفطنوا إلى أن هذا، ولكن في الأناشيد الحماسية فحسب أمر سخيف مليخ، فماذا صنعوا يا رعاك الله؛ ليخرجوا أناشيد ترج النفوس رجا، وتستحمس الشباب أيما استحماس، ولا تذر في البلاد كلها فتى ولا شابا، ولا كهلا ولا شيخا إلا قذفت به إلى الميدان؛ ليروي غلته إلى الضرب والطعان ما يبالي أن يقع من الموت الزؤام أو أين يقع من الموت الزؤام!
أتدري ماذا صنعوا في سبيل إدراك هذا المطلب الجسام؟ لقد شمروا عن سواعدهم وشدوا متونهم، وقووا عزائمهم، ووحدوا أنيابهم أرأيت الليث وقد تهيأ للوثاب، أو «آخر نبق لينباع» كما يقول أئمة اللغويين، وأطلقوا الحناجر بأصوات ترعب سكان المريخ، لو كان في المريخ سكان!
وليت لي حظا من البلاغة يهيئ لي أن أصف لك بعض هذه الأناشيد الحماسية! ولكني عاجز أبلغ العجز عن أن أفعل، وكل ما أستطيع أن أصورها به لنفسي أن أذكر أيام كنا أطفالا، وكانت العجائز يسلين عنا بفنون الأحاديث «الحواديت»، حتى إذا انتهين إلى «أم الغولة» ونهوضها لافتراس العابر المسكين في جوف الفلاة، جوفن أصواتهن أشد التجويف وفخمن لفظهن أعظم التفخيم، وقلن يحاكين زمزمتها ساعة قرمها وافتراسها: «هم أكلك منين؟»
وأرجو أن أكون بهذه الصورة قد أجدت التعبير عن أكثر هذه الأناشيد.
وصدقوني يا سادتي القراء إذا قلت لكم: إن بعض هذه الأناشيد قد ألقى ذات يوم وأنا جالس، وولدي الصغير بين يدي وهو الآن في طريقه إلى الثانية عشرة، حتى إذا فرغ المنشدون من نشيدهم الحماسي أقبل علي وقال: «يعني يا بابا متحمثناث» وفي سينه وشينه لثغة، فأجبته من فوري: «الحق علينا يا ابني اللي متحمسناش، يا لله بنا نتوكل على الله ونتحمس!»
ما هذا أيها الإخوان الملحنون، وما هذا أيها الإخوان المنشدون؟ ولله أبو الشاعر يقول:
أوردها سعد وسعد مشتمل
ما هكذا تورد يا سعد الإبل
وما هكذا يكون الاستحماس، ولا استنفار الشباب للقتال، بل إنه لا شبه بما كان يدخل به الذعر على قلوب الأطفال في سالف الأجيال.
وبعد، فليست البلاغة مقصورة على فن الكلام، بل إن لكل فن جميل بلاغة، فللتصوير بلاغة، وللموسيقى كذلك بلاغة، وهكذا، فإذا خلا الفن من هذه البلاغة، خرج سميحا مؤذيا، أو سخيفا باردا، كما هو الشأن في الكلام الفسل الركيك، الضعيف التأليف سواء بسواء.
ناپیژندل شوی مخ