ولعل أول صناعة عالجها الإنسان في هذه الحياة هي استنبات الأرض واستخراج ما تجود به من ألوان الثمرات، وستظل على التحقيق هذه الصناعة قائمة إلى غاية الزمان.
عاش الفلاح للأرض وعاشت الأرض للفلاح، وعاشت كلاهما للخلق أجمعين.
هذا عيش الريف في النهار، فإذا جن عليه الليل نامت الطبيعة ونام معها الإنسان والحيوان، فلا تسمع فيها حسا إلا ما نسمع من نباح كلب أو عواء ذئب، أو نقيق ضفدع، ولقد تسمع في بعض الليل عزيف بندقية يطلقها بعض عسس القرية، أو حراس البيادر - الأجران - أو الزروع إذا أدركت الثمار، فإذا كانت الليالي قمراء، تجاوبت الكروان بالتنغيم والتغريد، وأطالت الأنفاس بالشدو والترديد.
وناهيك بليالي القمر في الريف، هذا وجهه قد تغرد في الأفق جميعه ، تفرد ملك لا يشركه أحد في الحكم والسلطان على أنه مفيض على الأرض ما أعطاه الله من حسن وبهاء، وهذه منحه المتصلة من اللجين المذاب، وقد ديغت بخضره النبات، فخرج من اجتماعهما لون هو سحر في السحر وفتنة في الفتنة، منظر وإن كان يوحي بالشعر لا يتعلق بوصفه الشعر، يضيء النفس ويملأ الصدر ألين الفرح وأرفقه، ويحرك عواطف حلوة لذيذة هادئة، دونها ما ترى في أمتع الأحلام.
يحرك في صدرك ألوانا من العواطف تشعرك بأنك بت أسعد الناس عواطف، وإن كانت جديدة لا عهد لك بها من قبل، سرعان ما يعتريك الشعور من قرارة نفسك، بأن هذا هو الشيء الذي طالما حاولت الاستشراف له، فتحول بينك وبينه ظلمة النفس واختلال أداة الحس، بما جشمتها من كلفة في وسائل الحياة.
فإذا كانت ليالي السرار، فالأفق كله كتلة واحدة من الفحم الحالك السواد، هيهات أن ينفذ فيه النظر، ولو أبى فتر من الأفتار:
ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
1
صدق الله العظيم.
هذا حديث موجز عن الطبيعة ماثلة في ريف مصر، أما الحديث عن الفلاح المصري في هذه الأيام، فمما يردع ويهول: فقر لا يعد له فقر، وبؤس لا يلحقه بؤس، مال غائب، ومطالب لا تبرح حاضرة، ومن أين للمسكين بالمال يواتي به بعض الحاجة أو يدافع المطالب الملحة من كل جانب؟
ناپیژندل شوی مخ