ولقد كان التيار جارفا إلى حد أن سيدة لم تستطع أن تثبت في طريقه أو تثبت ابنتها، وأن رجلا مهما يكن محافظا شديد الحرص على التقاليد، لم يستطع أن يملك عن جرف التيار امرأته أو فتاته، بل إن بروز المرأة اليوم في الطريق ملففة مقنعة، هو الذي يسترعي النظر وقد يستدعي العجب!
بل إنك لقد تجد في طريقك السيدة وقد ذرفت على الستين أو طعنت في السبعين؛ أي ممن نشأن في الحجاب، وتوارين في شتى الألفاف دهرا غير قصير، لقد تراهن اليوم سافرات الوجوه مبديات ما أبقى المقص من شعر الرءوس، بارزات الأذرع والنحور، مقصرات الثياب إلى ما يتجاوز أعلى السوق، وقد بالغن في التبهج والتجمل بألوان الصبغ والدهان!
وأرجو من القارئ ألا يفهم أنني أسوق هذا الكلام على جهة الإنكار، أو أنني أبغي وعظا أو أطلب نصحا، إنما أنا في هذا الحديث مؤرخ واصف لا أكثر ولا أقل، أذكر ما كان في بعض أسباب عيشنا من ثلاثين عاما فقط، وما صرنا إليه بعد هذه الأعوام، وصفوة القول: أننا في هذه المدة القصيرة جدا في مراحل تحول الأمم قد تطورنا تطورا شديدا، وتغيرنا تغيرا كبيرا، ومع هذا فإنه لم تستقر بنا الحال بعد إلى إقرار!
وبعد، فلقد أصبح من الواجب الحتم والحال ما ذكرنا، أن يشمر جماعة من مشيخة الكاتبين في تسجيل هذا التاريخ القريب في مدته، وقد شهدوه وعاشوا فيه، وعرفوا الجليل والدقيق من مظاهر الحياة في إبانه، وإلا عفت معالمه ومحت رسومه وعز على الناس بعد أربعين أو خمسين عاما أن يلتمسوه ويتصوروه كاملا واضحا؛ لأنهم لا يجدون إليه السبيل.
ولقد قلت: «القريب في مدته»؛ لأنه أضحى بعيدا جدا في شخصه وصورته، وقد أحضرني هذا المعنى قول متمم بن نويرة في أخيه مالك:
فلما تفارقنا كأني ومالكا
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
اللهم إن أخشى ما أخشاه أن نتهاون قرب العهد بهذا الصدر من التاريخ الذي شهدنا أطرافه، فيصرفنا هذا التهاون عن تدوينه وتسجيله ووصف مظاهر الحياة المصرية فيه، ثم يلتفت إلينا أبناؤنا أنفسهم، ولا أقول: أحفادنا، فلا يصيبون في التماسه وتمثله إلا عنتا كثيرا!
هذا عصر محمد علي الكبير وما تقدمه بقليل، ولا أمعن في التاريخ متقهقرا إلى عهود المماليك، فالأيوبيين، فالفاطميين فمن قبلهم، أقول: لولا بعثة الحملة الفرنسية، ولولا المستر لين الإنجليزي ما عرفنا كثيرا من عادات الأجداد، بل ما عرفنا ماذا كانت تلبس الجدات!
إن إعمال التاريخ لقرب العهد به كثيرا ما يجني على حقائق التاريخ، وخاصة إذا أعقبته رجات وطفرات كهذه الرجات والطفرات التي جازت بنا، وكادت تأتي على كل شيء من أخلاقنا وآدابنا وتقاليدنا وعاداتنا وسائر أسبابنا.
ناپیژندل شوی مخ