ولا غرابة بعد هذا أن يكتب الشعراء من كل جيل آلاف الآلاف من قصائد الشعر في ظواهر الطبيعة، فيذهب هذا الزبد كله جفاء، والقليل جدا هو الذي يمكث في الأرض يتغنى به الناس على مر الزمان؛ لأن هؤلاء الألوف من الشعراء يحسبون أن الأشجار سواء والرياض سواء والغدران سواء، وكل شروق للشمس ككل شروق، وكل غروب ككل غروب؛ ويحسب الواحد منهم أنه ما دام قد أطلق على أشعة الشمس اسم «العسجد»، وعلى ضوء القمر اسم «اللجين» فقد بات الكلام عن الشمس والقمر شعرا. لكن لكل حالة من كل ظاهرة طبيعية خصائصها الفريدة التي يستحيل تكرارها في سائر حالات تلك الظاهرة نفسها؛ فالروض الواحد له في كل لحظة حالة خاصة من لمعات الضوء وعطر الزهر وهبوب الريح، ومن وقع ذلك كله على الحالة النفسية التي تشاء المصادفة أن يكون عليها الشاعر عندئذ، الروض الواحد له في كل لحظة هذه الحالة الخاصة التي تميزها عن سائر حالاته في سائر اللحظات، ودع عنك ما يكون بين هذا الروض في جملته وبين غيره من الرياض من فروق تجعله بينها واحدا وحيدا، إذا ما رأيت منه لمحة في صورة عرفت أنها منه؛ لأن هذه اللمحة لا تكون إلا فيه من جملة الرياض. ونقول عن الشاعر الذي وقف في الروض وراح ينشد، نقول عنه إنه شاعر، لو اهتدى بوحي فنه إلى تلك الملامح فيما يرى حوله ومما يحس في نفسه عندئذ، الملامح التي تمتزج فتخرج صورة فريدة لا تكرار لها في كل ما يقوله بعدئذ هذا الشاعر نفسه في هذا الروض نفسه، فضلا عما يقوله غيره من الشعراء في غيره من الرياض.
ولا غرابة أن يكتب القصصيون من كل جيل عشرات المئات من القصص، فتذهب كلها مع الريح، ولا يبقى من نتاج الجيل الواحد إلا قصة أو قصتان، ذلك إن بقي منه شيء؛ لأن الأمر هنا ليس مداره على «الحكاية»، فما دمت «تحكي» أن فلانا ذهب وفلانا جاء، وفلانة كرهت أو أحبت، فأنت قصاص، كلا، بل مدار الأمر في القصة الأصيلة، هو التوفيق في إبراز هذه الفردية التي حدثتك عنها، فهل لكل شخص من أشخاص القصة فرديته التي تجعله واحدا من الناس لا يختلط بغيره؟ وإن كانت القصة تاريخية فهل الفترة التاريخية المرسومة بحوادث القصة قد اتسمت بسمات فذة لا يمكن معها أن تختلط في ذهن القارئ بفترة أخرى؟ إن وفقت القصة في هذا «التفريد» والتخصيص فهي القصة الباقية.
وقد يحسب القارئ أن ليس في الأمر هذا العسر كله، لأنه قد يحسب أن الناس يتشابهون في مشاعرهم، فيكفي - مثلا - أن تقول إن قيسا أحب ليلى، لأعرف في أية حالة شعورية كان قيس، ما دام الحب وجدانا معروفا مشهورا. لكن لا، ليس الفرد الواحد بشبيه لنفسه في حالتين من حالاته التي نتسرع فنطويها جميعا تحت اسم واحد. إن قيسا في حبه لليلى، تمر عليه حالات مختلفات، لكل حالة منها خصائصها، على أن مجموعة حالاته الوجدانية التي قد أضمها معا لأسميها باسم واحد - هو حب قيس لحبيبته - تنطبع كلها معا بطابع يجعلها تختلف عن مجموعة حالات الحب عند أي عاشق آخر مهما يكن عدد هؤلاء العاشقين الآخرين، فمتى يكون الفنان الذي يتعرض لتصوير قيس في حبه فنانا أصيلا؟ يكون كذلك لو أدرك مميزات الحالة الواحدة من حالات الحب التي يصورها ومميزات مجموعة الحالات عند قيس مما يجعل حبه في جملته مختلفا عن حب أي عاشق آخر في جملته.
وليس نقدة الآداب والفنون بعابثين، حين يتخيرون شاعرا فيمجدونه بين آلاف الشعراء، أو يتخيرون كاتبا من أدباء القصة أو المسرحية فيخلدونه بين آلاف الكتاب الذين يكتبون القصة والمسرحية؛ لا، ليس نقدة الآداب والفنون بعابثين حين يقترون علينا في عدد الأدباء ورجال الفن الذين يحرصون على بقائهم، وحين يسرفون في حذف سائر الأسماء من قائمة الخالدين. لقد خلد شيكسبير بمسرحية أنطون وكليوباتره - مثلا - ولن يخلد شوقي بمسرحيته في الآداب العالمية، لن يخلد إلا بين جدراننا نحن؛ لأن رحاب العالم ستظل متسعة لمسرحية شيكسبير، وستضيق بزميلتها لشوقي؛ لأن شيكسبير كان يبرز أشخاصا لكل منهم مميزاته، وكان يبرز وجدانات لكل حالة منها خصائصها الفريدة، وأما شوقي فراح ينظم القصائد على ألسنة أشخاصه دون أن تخرج في النهاية بصورة لكل شخص تفرده وتميزه، كما يتفرد ويتميز الأشخاص الذين يصادفونك في حياتك كل بشيء أو أشياء.
إن من العبارات التي تلوكها الألسن وتخوض فيها الأقلام بكثرة تستوقف النظر، قولهم إن الأدب ينبغي له أن يتصل بالحياة، أو إن الأدب لا بد له أن يصور الحياة، يقولون ذلك ولست أدري إن كان ذلك له عندهم معنى محدد مفهوم واضح؛ لأنني كثيرا ما أجد نفرا من «أدبائنا» يزعمون لأنفسهم هذه الصلة بالحياة، فيكتبون عما يرون في مركبات الترام وفي المقاهي وما إلى ذلك، مهما بلغ هذا الذي يكتبونه من التفاهة والسخف. وأحسب أن صلة الأدب بالحياة، أو تصوير الأدب للحياة، لا يكون له معنى مفهوم ذو وزن وقيمة، ومنطبق على أمهات الآيات الأدبية التي خلدت، إلا إذا أدركنا أن سر الحياة الأعظم هو هذا التفرد الذي يكون بين الكائنات، وأن مهمة الأديب هي التقاط الحالات الفريدة بما يميزها، فالأديب متصل بالحياة مصور لها إذا رسم لنا حالة من حالاته النفسية بحيث يبرز فيها ما يجعلها حالة يستحيل تكرارها، أو رسم شخصية بتصرفاتها وطريقة كلامها بحيث يجعلها عندنا كائنا فردا يستحيل تكراره، وعندئذ نستطيع أن نضيف هذا الكائن الجديد الذي خلقه لنا الأديب إلى زمرة أصدقائنا الذين اتصلنا بهم في الحياة الواقعة، فنستفيد من حياته - كما استفدنا من حياة هؤلاء الأصدقاء - خبرة تزيد بها أعمارنا غزارة وتتسع أفقا.
وإن كان ذلك كذلك، فليس حتما على الأديب أن يركب الترام ويجلس في المقاهي ليتصل ب «الحياة» - كما يظن «أدباؤنا» - لأنه قد يجلس إلى مكتبه يقرأ التاريخ، فإذا به يلمح في أشخاصه أو في عصوره، شخصا أو عصرا بمميزاته الفريدة فيأخذ في تصوير هذا الشخص أو هذا العصر تصويرا يبرز فيه تلك المميزات - وبالتالي لا يتحتم عليه أن يقص علينا تاريخ هذا الشخص أو ذلك العصر بترتيبه الزمني كما وقع، لا يتحتم عليه أن يتمشى في تصويره مع دقائق الوثائق التاريخية، وإلا كان مؤرخا ولم يكن أديبا، إنما يتحتم عليه أن «يتخير» من حوادث ذلك الشخص أو ذلك العصر ما شاء، وأن يرتبها كيف شاء، ما دامت هذه الحوادث التي اختارها، وهذا الترتيب الذي نظمها فيه، ينتهي بنا إلى صورة فريدة لا تكرار لها؛ عندئذ نقول عنه إنه أديب «يصور الحياة» مع أنه لم يفارق مكتبه، وما «تصويره للحياة» إلا محاكاة الحياة في تفريد كائناتها بمميزات فذة وخصائص تجعل الفرد فردا لا يشبهه شبيه آخر - إذا أردنا بالتشابه تطابقا كاملا - سواء كان هذا الفرد شجرة، أو غصنا منها، أو ورقة من أوراقها، أو حيوانا أو إنسانا أو حالة نفسية. •••
وإنما كتبت هذا كله، بل اخترت العنوان لهذا الذي كتبته، بمناسبة قراءتي لقصة «الوعاء المرمري» التي أخرجها منذ أيام الأستاذ الأديب محمد فريد أبو حديد.
فعند وعاء من المرمر اعتاد سيف وخيلاء أن يجتمعا «ولون الوعاء ونقوشه البديعة تشبه الوشي فوق ثوب الحرير، وكانت الصورة التي عليه تمثل جانبا من بستان فيه شجر باسق يظلل رقعة خضراء تتخللها شجيرات تتدلى أغصانها محملة بعناقيد مرسلة من الزهر، وكانت الطيور تبسط أجنحتها بعضها يسبح في الهواء وبعضها يهبط نحو الأرض، والقمر الكامل في أعلى الصورة يبعث أشعته على شابين فتى وفتاة يسيران في الممشى، وقد تعاقدت يمناه بيسراها وهما يبسمان نحو القمر.»
هنالك طالما وقفت «خيلاء» مع سيف يتحدثان في إعجاب عن الصورة ونقشها، وجاء «سيف» ذات يوم ليجد «خيلاء» واقفة وحدها عند ذلك الوعاء المرمري. - أتقفين وحدك عند الوعاء؟ أليس هنا موقفنا معا؟ ماذا ترين فيه يا خيلاء؟
فقالت خيلاء باسمة: قطعة من المرمر الوردي الجميل.
ناپیژندل شوی مخ