بدأ التعارف عام 1915 في فناء مدرسة البراموني الأولية، دخلوها في الخامسة وغادروها في التاسعة، ولدوا عام 1910 في أشهر مختلفة، لم يبارحوا حيهم حتى اليوم، وسيدفنون في قرافة باب النصر، تضخمت جماعتهم بمن انضم إليهم من الجيران، جاوزوا العشرين عدا، ولكن ذهب من ذهب بالانتقال من الحي أو بالموت، وبقي خمسة لا يفترقون ولا تهن أواصرهم؛ هؤلاء الأربعة والراوي. التحموا بتجانس روحي صمد للأحداث والزمن، حتى التفاوت الطبقي لم ينل منه. إنها الصداقة في كمالها وأبديتها. الخمسة واحد والواحد خمسة، منذ الطفولة الخضراء وحتى الشيخوخة المتهاوية، حتى الموت. اثنان منهم من العباسية الشرقية واثنان من الغربية، الراوي أيضا من الغربية ولكنه خارج الموضوع. وتتغير المصائر وتتفاوت الحظوظ ولكن تظل العباسية حينا، وقشتمر مقهانا، وفي أركانه تسجلت أصواتنا، مخلدة البسمات والدموع وخفقات لا حصر لها من قلب مصر. •••
قبل أن نهتدي إلى قشتمر جمعتنا الشوارع وميدان المستشفى والنخلة الرشيقة بحقل عم إبراهيم الممتد بين شارع مختار باشا من ناحية وبين الجناين من الناحية الأخرى. تطل عليه الحدائق الخلفية لمساكن كثيرة في العباسية الغربية، ويمدنا بما نحتاج من خضر، في جنوبه تقع غابة التين الشوكي، وفي شماله ناحية الوايلية تدور الساقية التي ترويه وتنتشر حولها أشجار الحناء زافرة شذاها الطيب. في العطلات الأسبوعية والصيفية نجلس تحت النخلة المغروسة في وسطه، تسيل أفواهنا بالحقائق والأساطير. ودل كل واحد على مسكنه لتتم المعرفة به، فرأينا بيت صادق صفوان ببين الجناين، وبيت إسماعيل قدري سليمان بشارع حسن عيد وسراي حمادة يسري الحلواني بميدان المستشفى وفيلا طاهر عبيد الأرملاوي ببين السريات، وأعجب صادق وإسماعيل بالسرايتين، وتأملا حديقتيهما بانبهار، وثمل رأساهما بالفخر وهما يعلنان صداقتهما باثنين من أولاد الذوات، وفي أوقات السمر تنهمر المعلومات عن الدنيا والآخرة.
يقول صادق صفوان النادي: بابا موظف بالأوقاف، ونينة ماهرة في كل شيء!
ونرى صفوان أفندي النادي فيجذب اهتمامنا من أول لحظة، نحيل الجسم مائل إلى القصر، ولكنه ذو شارب غزير طويل لم نر مثله من قبل، مع التقدم في العمر يصير شارب صفوان أفندي موضوعا مغريا بالتعليقات والقفش والتنكيت، ويشاركنا صادق الضحك من أعماق قلبه رغم ما يكنه لوالده من حب واحترام، أما الأم تيزة زهرانة كريم فصادفتنا مرات في الشارع في تزييرتها السوداء، ومن وراء البيشة .. تحذرنا من الترام ونحن نعبر الطريق، وتدعو لنا بالسلامة. وصادق مؤدب مهذب، ويصلي، وسوف يصوم عندما يبلغ السابعة، ولكنه لا إخوة له ولا أخوات، بسبب مرض أصاب أمه عقب ولادته. هو وحيد الأسرة وأملها الباقي، ونشعر كثيرا بأنه موضع الرعاية والعناية، غير أن أباه الحصيف يقول له كثيرا: «يا صادق، اجتهد، أبوك لا يملك شيئا ليتركه لك، فاجعل الشهادة وسيلتك إلى الوظيفة.» ودب تغير عميق في روح صادق منذ طرق عالما قريبا لهم هو رأفت باشا الزين. صحبه أبوه معه إلى زيارة ابن عمه الباشا بسراياه في بين السرايات غير بعيد من فيلا طاهر عبيد الأرملاوي صديقه، يقول صادق وهو يلهث: سراي ابن عم بابا مثل سراياكم يا حمادة، حديقتها تقارب غيط عم إبراهيم في وسعها، جامعة لأزهار الدنيا والآخرة، والسلاملك، والبهو الأزرق، وبهو السفرة، هائل .. هائل، والباشا في غاية العظمة، وزبيدة هانم حرمه جميلة جمالا لا قبله ولا بعده، وفي غاية الطيبة، يحبون أبي وأمي، كما لو أننا أغنياء مثلهم، ابنهم محمود أكبر مني بعامين، أما أميرة ابنتهم فهي أجمل من زبيدة هانم .. كل شيء يجنن!
بدأ حياته من صغار الأغنياء، وبفضل ثروة زبيدة هانم أنشأ أكبر مصنع للنحاس، ورزقه الله بالطول والعرض، ومد حباله إلى الكبراء والسادة الإنجليز ثم نال رتبة الباشوية. ويقول صادق: أهم شيء في الدنيا أن تكون غنيا.
حب الثراء غرس في قلبه في سراي قريبه. ينعكس ذلك في أحلامه أكثر مما ينعكس في اجتهاده، تلميذ متوسط كغالبية شلتنا. مسحور برأفت باشا وزبيدة هانم وأميرة التي تكبره بسبع سنوات. هم رموز للجنة ونعيمها، ويظل مثالا للمؤدب المؤمن، وتقدم الأعوام لا يقلل من حيائه، ولا تجري على لسانه حكاية مكشوفة، وإذا جاء ذكر لبنت من البنات لاذ بالصمت أو راح يذكرنا بعذاب القبر وحساب الآخرة. ولمناسبة وفاة جده يقول بحيرة: نينة قالت لي إننا كلنا سنموت.
لا يتصور أن تموت أمه أو يموت أبوه. وليس في قوله جديد فيما يبدو، ولكن شعورهم آمن بأن الموت حتم مؤجل إلى أجل غير مسمى. كلنا نسلم بالموت بألسنتنا، أما قلوبنا فترمي به إلى موضع في الزمان قصي. وبين حين وآخر تمر بنا الجنازات في طريقها إلى القرافة فنرنو إليها بغير اكتراث كأنها أحداث لا تعنينا. وتحت النخلة السامقة نلهو بشد الحبل، والتهام أطباق الدندورمة المصنوعة من البسكوت، وتقليد المدرسين في أطوارهم الخارقة للمألوف. ولا نكون وحدنا دائما؛ فقد ينضم إلينا عشرة أو أكثر من أصدقاء الدرجة الثانية، فيهم نفر عرفوا بطول اللسان أو الخشونة أو حب العنف والأذى، ولكنه يبقى الأساس كنواة صلبة لا يسمح لغريب باختراقها. ويدعونا صادق إلى وليمة غداء فيقدم لنا طعمية لذيذة وكفتة فاخرة وتشكيلة من السلطات ثم طبقا من البرتقال اليافاوي. وتمطر السماء في جو بارد فنتأخر في بيته الصغير ببين الجناين حتى العصر. ويرد حمادة يسري الحلواني التحية فيدعونا للغداء في السراي بميدان المستشفى. تستقبلنا الحديقة المترامية بروائحها الطيبة وخضرتها المغسولة المشرقة. نمضي إلى بيت صغير مستقل بذاته في الحديقة مكون من حجرتين وشرفة ومرافق. ثمة نافذة مفتوحة على الحديقة تتحرك الأغصان خارجها كالمراوح، تنتشر في الأركان على قوائم خشبية أوراق عريضة مصمغة لصيد الذباب. أما الغداء فشواء وضلمة وسلطات ومهلبية. يتسابقون في الأكل كشد الحبل دون كلفة. يتريضون بعد الغداء في مماشي الحديقة. يرون «توفيق» شقيق حمادة الذي يكبره بأعوام ينطلق فوق دراجة خضراء، ويلمحون «أفكار» الشقيقة الكبرى بنت العشرين في إحدى نوافذ القلعة. زيارة سعيدة لم يلم بها شيء من الارتباك إلا حين رأينا أدوات الطعام - الملعقة والشوكة والسكين- منظومة حول الطبق. ولكن إسماعيل قدري سليمان بدد الارتباك حين قال: نحن لا نستعمل إلا الملعقة واليد!
وكان مما يحمده صادق لآل الزين باشا أن الباشا والهانم يأكلان، كما يأكل والداه، مجاملة ومحبة، ولم يكن يستعمل الأدوات إلا محمود وأميرة. يقول صادق: ناس طيبون حقا، كأنهم منا أو كأننا منهم، وزبيدة هانم تحب الفسيخ وتطالب أبي بهدية منه، ونينة تخبرها بأن لذته لا تتم إلا بتناول البصل، فأكلت الفسيخ بالبصل.
يروي الواقعة وكأنها معجزة في العلاقات البشرية. على ذلك فهو أجمل شلتنا؛ معتدل القامة ذو بشرة تميل إلى البياض، دقيق القسمات ذو عينين سوداوين جميلتين وشعر أسود ناعم. •••
ونعرف الشيء الكثير عن حمادة يسري الحلواني وأسرته؛ نشأة ملكية في السراي، الباشا صاحب أكبر مصنع للحلاوة الطحينية في القطر، حلاوة أرق من الهواء محشوة بالفستق، وفي السراي مكتبة هائلة وإن لم يتسع وقته للقراءة. رجل مال وأعمال، رأيناه كثيرا في سيارته الفورد، ربعة بدينا مبروم الشارب خمري اللون تشع منه العظمة، كما رأينا حرمه عفيفة هانم بدر الدين، صورتها مقبولة ولكن فخامتها تفوق جمالها. - بابا مشغول دائما، ماما شديدة وتحب أن تطاع، أختي تربت في الميردي دييه واختارت لها ماما خطيبا غنيا، وأخي توفيق يرضيها باجتهاده، أما أنا فلا تكف عن لومي ومحاسبتي، وتكرر على مسمعي بأنه لا قيمة للمال بدون العلم والمركز.
ناپیژندل شوی مخ