قرة العين په خریده لبنان کې
قرة العين في خريدة لبنان
ژانرونه
وكانت الشمس ساعتئذ توسطت كبد السماء، فقرع جرس الكنيسة إيذانا بصلاة الظهر، فخر الرجل جاثيا على ركبتيه ولم يمنعه حر الشمس من كشف قبعته وإحناء رأسه، خاشعا فصلى صلاة حارة، ثم وجه ألحاظه نحو السماء فأرسلت عينه إلى أبي المواهب عبارة الشكر الجزيل خارجة من صميم الفؤاد، وبعد ذلك أخذ خريطته وأسرع في السير وعينه شاخصة إلى قبة الجرس ولسان حاله يقول: «سقياك يا كنيسة الوطن، فإنك أنت لم تتبدلي ولم تغيرك الأعوام، ففيك نلت نعمة العماد وما بين جدرانك فزت بنعيم المناولة الأولى، فطالما قرت بك عيني وطابت نفسي بما فيك، لقد أتاح لي السعد أن أعود فأراك وأرى على مذبحك تمثال البتول في حلتها السماوية، وتاجها الفضي، وأشاهد إيليا النبي وفي يده الحسام، وأرى جرجس يطعن التنين المريع، وكم حلمت به فهالني رؤيا التنين في منامي! أعود فأسمع الأناشيد الشجية وطالما أنعشتني نغماتها.»
قال هذا وأداه السير إلى جسر فوق ساقية، فانبسط قلبه ولاحت أنوار نفسه على وجهه، فتهلل حبورا وهتف: إلى هذا المقام شيعتني أنيسة، هنا ودعتها وأودعتها فؤادي، وفي ذلك الزمن كانت الرياض زاهرة كما هي الآن، والطيور تغرد كأنها تعللنا بالأماني.
فأمسك عن الكلام وعبر الجسر وهو يتنهد ويقول بصوت خافت: لعمري! إن تلك الزهور شهود الوداع قد ذبلت وفنيت، وتلك الطيور قد ماتت، وهاك صغار صغارها تنعش الآن همة الشيخ الفاني، وقد كادت تغني أيام الهناء، وأنيسة ما حالها؟ ما حل بها يا ترى أو هي في قيد الحياة؟ هل بقيت على العهد ثابتة؟ ما أدراني أنها لم تتأهل ورزقها الله أولادا شغلت بهم عن كل شاغل؟ بعدنا عن العين فسلاكم القلب، فأهل الوطن لا يذكرون المنكود الحظ الذي ساقه سوء طالعه فأبعده عن الديار.
قال هذا وبدا على ثغره تبسم الهزء والتهكم، لكنه ما لبث أن زجر هذه الأفكار فقال: ويحك أيها القلب الضعيف، ثارت فيك الغيرة كأنك لم تزل في ربيع الحياة، مضى زمن الصبا فدع الأوهام ... ما هي حقوق مثلك فجئت تطالب بها؟ أو يطلب من الأحياء أن ينتظروا بصبر عودة الغريب من عالم الأموات ...؟ ولكن أتراها لا تعرفني أو لا تذكر قديم العهد بيننا ...؟ إلهي إن يكن لي بعض المقام في زوايا قلبها، فلا أندم على رجوعي من بلاد سحيقة ومعاناتي أهوال الأسفار، وأنزل ناعم البال وهدة قبري بين أهلي وإخواني ...
وفيما هو على تلك الحال تتناوشه الأفكار المحزنة دخل القرية، فحاول أن يتعرف بالبيوت الجديدة، فساءه منظر القرميد وشكله الهرمي فوق المنازل، وكأنه اعتبر تشييد البنايات على نسق أوروبي إجحافا بحق لبنان ومجده، وكاد يخامره شك في أنه ضل طريقه ودخل غير قريته.
على أنه أبصر بيتا صغيرا عرفه فهرول إليه وولجه دون تردد، فتراءى له في داخله امرأة بقربها شيخ أحنت ظهره الأيام وهو ساكن كالصنم، وجهه مائل إلى الأرض، ورأسه مسند إلى عصا توكأ عليها بيد مرتجفة، فما وقعت عينه على الشيخ إلا عرفه فدنا منه، وأمسك بيده وصاح بصوت الفرح: تبارك الله الذي أبقاك يا أبا ناصيف، فأنت بقية فاضلة من الزمن الماضي، أفلم تعرفني؟ ألا تذكر ذاك الصبي الغر الذي كان يطفر من فوق السياج ويأكل مشمشك قبل نضجه؟
قال هذا ونصت للشيخ فسمعه يغمغم قائلا: «ست وتسعين سنة.» - صدقت، إني أعلم أنك طاعن في السن ... إنما ناشدتك الله يا أبا ناصيف أن تخبرني عن أنيسة ابنة الصباغ، هل هي في قيد الحياة؟
فكرر الشيخ مجمجما: «ست وتسعين سنة.»
وكانت المرأة قد ثابت إلى نفسها من دهشة عرتها؛ لدخول هذا الموسر الغريب إلى بيتها، فقالت له: إنه أعمى وأطرش يا خواجة، لا تتعب نفسك فلا يسمعك. - أعمى وأطرش؟! يا لله من صروف الزمان، ما أكثر نكباتها في خمس وعشرين عاما؟ فكأني أمشي بين أطلال عصر بالية.
قالت المرأة: سمعتك تستعلم عن أنيسة ابنة الصباغ يا سيدي، فصباغنا له خمس بنات، ولكن لا واحدة منهن اسمها أنيسة، فالبكر اسمها مريم اقترن بها معلم المدرسة، والثانية راحيل، والثالثة جميلة ...
ناپیژندل شوی مخ